الإنسانُ البسيطُ لا يستطيعُ أن يكتشفَ الإبهامَ والغموضَ في شخصية الكائن البشري، ويعجزُ عن التوغلِ في اكتشاف شيءٍ من الطبقات البعيدة الغور في داخلة. يرى مثلُ هذا الإنسان الواقعَ رؤيةً مسطّحة، ويفهمُ الحياةَ فهمًا ساذجًا، يحسبُ الحياةَ شديدةَ الوضوح وكلَّ ما فيها مكشوفًا، وهو لا يدري أن الحياةَ تجربةٌ عمليةٌ لا تتكشّف للإنسان إلا بالعيشِ فيها والصبر على اختباراتها القاسية، وخوضِ مساراتها الوعرة، والوقوفِ على محطاتها المختلفة، والتغلّبِ على منعطفاتها الشاقة، والنجاةِ من مباغتاتها المريعة. الحياةُ توجد بالتجارب والاختبارات والممارسات والأفعال والمواقف، ولیس بالتساؤلات الساذجة والإجابات المبسّطة والتوصيات الجاهزة، ولا بالتمنيات المعلّبة، والرغبات والأحلام، والكلمات الرخوة. لا يمکن اختزالُ الإنسان وتعقیدات عيشه في الحياة بإجابات ونتائج سريعة واضحة. الإنسانُ خليطٌ من عناصر وصفات وخصائص وحالات متناقضة.
التعرفُ علميًا على الطبيعة الإنسانية بمنطقٍ واقعي هو البدايةُ الصحيحة لكلِّ ما يرمي إليه الإنسانُ من: التربيةِ، واكتشافِ كيفيةِ بناء علاقات إنسانية سلمية في إطار التنوع والاختلاف، وكيفيةِ العمل من أجل صناعة عالَم أجمل، وكيفيةِ فهم الدين وتفسيرِ نصوصه بالشكل الذي يصير فيه الدينُ مُلهِما للعيش في أفق المعنى. مَنْ يجهل الطبيعةَ الإنسانيةَ يجهل الطريقةَ المريحة للعيش في الأرض، ويجهل كيف يمكنه التغلبُ على متاعبِ وآلامِ حياته.
الفهمُ الواقعي للطبيعة الإنسانية يكشفُ للإنسان عن شيء من أسرار ذاته المجهولة لديه، مضافًا إلى أنه يصوّب أحكامَه على الغير، ويجعل مواقفَه من مفارقات مواقفهم منصفة، ورأيه في ثغرات سلوكهم أكثر للموضوعية. ولا يمكن تحقّق هذا الفهم إلا بالتمسّك ِبالعقلانية النقدية، واعتمادِ مناهج التفكير العلمي ومعطياته الفائقة الأهمية، لأن العقلانيةَ تتميز بنقدِها لطرائق تفكيرها، وتمحيصِها المتواصل لما تعتمده من المناهج، وما تنتهي إليه من النتائج، وغربلتِها كلّ مرة، واختبارِها المتكرر لصلاحية أدواتها. تفضح العقلانيةُ النقدية أخطاءَ التفكير العلمي، وتكشف عن هناته وثغراته على الدوام، وذلك ما يدعو كلَّ عاقل للوثوقِ بإمكاناتها، واعتمادِ فهمها في تفسيرِ طبيعة الكائن البشري، وفهمِ حقائق الحياة.
الإنسانُ بطبيعته يعيشُ: القلقَ والطمأنينةَ، الاضطراب والسكينةَ، الخوفَ والأمانَ، التعبَ والراحةَ، الضجرَ والتسليةَ، السأمَ والابتهاجَ، الاكتئابَ والانشراحَ، البكاءَ والضحكَ، الانقباضَ والانبساطَ، الحزنَ والفرحَ. افتراضُ إنسان يفرحُ ولا يحزنُ، يبتهجُ ولا يسأمُ، يضحكُ ولا يبكي، افتراضٌ غير واقعي لا يشبه الإنسانَ في الأرض. كما أن افتراضَ إنسان يعيش في كل حالاته “اللحظة الآنية”، وينفصل بشكلٍ تام عن ماضيه ومستقبله، افتراضٌ غيرُ واقعي أيضًا. الماضي مكوِّن وجودي لحاضر الإنسان، مضافًا إلى أنه مكوِّنٌ سيكولوجي، اللاشعورُ مكوِّنٌ عميقٌ لشخصية كلِّ إنسان لن يختفي مادام حيًّا. يتعذر على الإنسانِ أن يغيّب المستقبلَ نهائيًّا من شعوره، أحيانًا يفرضُ التفكيرُ بالمستقبل حضورَه بقوة كأفقٍ مظلم أو مضيء في لحظة الإنسان الآنية.
أقرأ كتاباتٍ، تدعو للعيش في “الآن” فقط، وتشدد على أن مَنْ يريد أن يعيش سعيدًا ما عليه إلا أن يتخذ قرارًا بذلك. ويتكرر فيها القول: مَنْ يريد أن يعيش سعيدًا ما عليه إلا مغادرة الماضي والشطب عليه تمامًا، وغلق التفكير بالأمس، والخلاص من كوابيسه بشكل نهائي، وحذفِه من الشعور واللاشعور. مَنْ يريد أن يعيش سعيدًا عليه الكفّ عن النظر للمستقبل، وصرف النظر عن أي شيء مقلق يتصل به بشكل كلي، وغلقِ التفكير بالغد، والتحرر من الانهمام بالمصير. هذه الكتاباتُ بليدةٌ تجهل أبسط الحقائق العلمية عن طبيعة الإنسان، حين تنظر إليه وكأنه كائنٌ ميكانيكي مادي، ليس عليه إلا أن يلتزم بلائحة توصيات جاهزة ويطبقها بحذافيرها إن أراد أن يمتلك السعادة.
ثغراتُ وأخطاءُ التربية وعقدُها وجروحُها وآثارُها المؤلمة يعود كثيرٌ منها إلى الجهل بطبيعة الإنسان. الإنسانُ ليس بوسعه أن يفعلَ إلا ما بوسعه أن يفعلَه، الإنسانُ لا يستجيب إلا إلى ما يمكنه الاستجابة له. طبيعةُ الإنسان لا تخضع لقرارات يفرضها على نفسه بهذه الكيفية الساذجة. القراراتُ والمواقفُ التي تفوق قدرةَ الإنسان لا يطيقها، ولا يمكنه أن ينفذها إلا أن تُفرَض عليه بالإكراه والعنف والتعذيب. الإنسانُ لا يطيق إلا ما تستجيب له بنيتُه النفسية، وطاقتُه العصبية، ونمطُ تربيته، ومستوى وعيه للحياة، وقدراتُه المتنوعة، وأهمها قدرته على التحكم بإرادته، وقدرته على تحمل ما يتنكر له استعدادُه الشخصي.
أكثرُ كتابات ما يسمى بـ : “التنمية البشرية”، أو “تطوير الذات”، أو “علم الطاقة”[1]، مفاهيمٌ غير علمية، وعباراتٌ متعجّلة مبسّطة، وشعاراتٌ سطحية مكرّرة، تتلاعب بمشاعر الناس. أضحى ركامُ هذه الكتابات مبتذلًا، يأكلُ وقتَ القراءِ غيرِ الخبراء، وتستنزفُ توصياتُها الواهنة تفكيرَهم، ولغتُها الرثة بيانَهم. تفشّت هذه الكتاباتُ التي تجهل الطبيعةَ الإنسانيةَ كالوباء بين القراء في السنوات الأخيرة، وأوهمت عددًا منهم بأنها تعالج كلَّ متاعبهم النفسية. أكثرُ هذه الكتابات هزيلٌ، لا يقع في فتنتها إلا الناسُ المغفلون، الذين لا يفكّرون بتأملٍ ورويةٍ وتدقيق، ولا يمكن أبدًا أن تغوي العقولَ الحكيمة اليقظة.
هذه الكتابات والتوصيات تجهل التناقضات الذاتية في الإنسان، وتتعاطى معه كأنه كائنٌ ميكانيكي. يشبه هذه الكتاباتِ في الجهل بحقيقة الطبيعة الإنسانية أكثرُ التوصياتِ الجاهزة والعبارات المتداوَلة بين الناس. لا يكترث علمُ النفس الحديث كثيرًا بهذه التوصيات الغائمة لكتابات تشدّد على نصائح وإرشادات، من قبيل: “لا تحزن”، “لا تكتئب”، “لا تقلق”، “لا تتشاءم”، “لا تتألم”، “لا تنزعج”، “لا تغتم”، “لا تتأرق في نومك”، “كن حازمًا وجادًا”، “تأقلم مع الظروف بدلًا من تضييع الوقت بالتفكيرِ الزائد”، “استمتع باللحظة الحالية”، وأمثالِها من توصياتٍ ومواعظ غيرِ علمية. أحيانًا يكرّرون مثل هذه التوصيات لأشخاصٍ يعانون من اضطراباتٍ نفسية، وحالاتِ إصابةٍ بـأمراض، مثل: “الاضطرابات الوجدانية”، أو “اضطرابات الشخصية”، أو “اضطرابات القلق”، أو “الكآبة الحادة”، أو “الوسواس القهري”، أو “الهستيريا”، أو “البارانويا”، وغير ذلك من أمراض تحتاج عياداتٍ يديرها أطباءُ نفسانيون متمرّسون ومعالجون حاذقون.
مادام الناسُ في مجتمعنا يستهجنون مراجعةَ الطبيب والمعالج النفساني، يتكاثرُ كلَّ يوم دعاةُ ما يسمى بـ “علم الطاقة”، ويتفشى حضورُ المشعوذين والأفاكين والمحتالين والمُخادِعين والنَصَّابين، كمعالجين للأمراض النفسية، والوهن الروحي، والقلق الوجودي الذي يكابده الناس. أخطرُ هؤلاء وأشدُّهم سطوةً على مشاعر الناس، وأبرُعهم في إغوائهم وخداعهم، مَنْ يزعمون أن لهم صلة مباشرة بالغيب، وأن علاجَهم الذي يقدمونه يعتمد على المقدّس ويستعين بأسباب ميتافيزيقية في شفاء هذه الأمراض.
الغريبُ أن الناسَ في مجتمعنا لا يستهجنون مراجعةَ هؤلاء المشعوذين وأمثالِهم، في حين يستهجنون مراجعةَ الأطباء النفسانيين والمعالجين المختصين، ويحذرون من ذلك إلى الحدِّ الذي يمنع أكثر المصابين بهذه الأمراض من زيارة العيادات النفسية، على الرغم من حاجتهم الماسة لذلك، لئلا يفتضحون وينعتون بالجنون في المحيط الذي يعيشون فيه. تؤشر الاستطلاعاتُ الجادّةُ للصحة النفسية إلى أن مجتمعَنا من أكثر المجتمعات المتوطنة فيها الأمراضُ النفسية، والمفارقة أنه من أفقر المجتمعات بعدد الأطباء النفسانيين والمعالجين والعيادات المختصة[2].
كثيرون يتحدثون ويكتبون جهلًا، لكن المشكلةَ في جاهلٍ يفرضُ نفسَه مُعلِّمًا للناس، بصدق وحُسنِ نية. حُسنُ النيةِ والصدقُ وحدَهما لا يبرّران ترويجَ الجهل، وأن يكونَ الجاهلُ مُعلِّمًا للعالِم. مشكلةُ بعض من يكتبون عن الإنسان والدين جهلُهم بالفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة، وعدمُ معرفتهم بعلم الأديان.
ــــــــــــــــــــ
[1] راجع مقالة د. محمد قاسم، بعنوان: “علم الطاقة الزائف”، المنشورة في موقع الجزيرة بتاريخ: 19/6/2016.
[2] راجع بعض الإحصائيات في مجتمعاتنا عن الأمراض النفسية المذكورة في الفصل الخامس من هذا الكتاب.