الحياة
محمد صالح الغامدي *
يبدو أن الهوية الدينية، أو، إن أردنا، الدين، كعنصر من عناصر الهوية، من أكثر ما تم التلاعب به في نطاق الهويات على مر العصور. والمتلاعبون هم من أتباع الأديان ومن مخالفيهم ومن اللادينيين… ومن أكثر ما يثار عن الدين كهوية أنه عامل أزمات وذلك بسبب عدم التفكير في القيم الحديثة. ومن دون الدخول في تفصيلات كثيرة، أناقش هنا مجموعة قيم، نعتقد أنها حديثة في حين أنها قديمة جداً، بل ان التصور الديني وضعها في مرحلة متقدمة جداً عما تقدمه التصورات الإنسانية الحديثة. ومثالي الديني الذي أرجع إليه هو الإسلام. السبب قربي من هذا المثال ومعايشتي وممارستي له، مع قناعتي التامة بأن في أصل الأديان كلها قيماً كثيرة يمكن التلاقي حولها لتكون عامل تقارب بين الحضارات. وبالرجوع إلى الإسلام فإن النص الذي يجب أن يعاد إليه لتحليله هو القرآن الكريم، الذي يمثل بالنسبة إلى المسلمين الكتاب الدستور لمنهج حياتهم.
وسيكون الإطار العام لمناقشتي هو العدل الحضاري. فالعدل قيمة كبرى ناقشتها الأديان والأفكار الإنسانية، ولا تزال المناقشات حولها مستمرة مع القناعة المبدئية بأن العدل أصل من أصول الحياة. وإذا عدنا إلى النص الديني الذي بين أيدينا، أي القرآن، فسنجد أنه تطرق للعدل في أماكن كثيرة بصورة مباشرة وغير مباشرة. إلا أن هناك آية تمثل التأسيس في قمة تصوره، كما أعتقد، وهي: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» (سورة المائدة، آية 8).
في هذا النص أمر بتحري العدل مع تأسيس لمبدأ مهم جداً في العلاقات الإنسانية هو تنحية العواطف عندما يتعلق الأمر بتطبيق العدل. وهذا ليس كل شيء، فالآية تحمل حجة بلاغية يمكن تسميتها بحجة «من باب أولى» (a fortiori). فالعدل مقدم هنا كضرورة مع أولئك الذين نكرههم. حسناً، وأولئك الذين لا نكرههم؟ سيكون من باب أولى العدل معهم. والواقع الذي يعيش فيه البشر يمثل إطاراً كبيراً من المشاعر المحايدة، حيث لا حب ولا كره وإنما تعاملات وتواصل وتعايش. هنا نجد أن النص الديني طرح أمر تحري العدل في أكثر تصوراته قيمة إنسانية وهو تطبيقه مع الآخر وإن كان مكروهاً. وهذه الإشارة إلى «الآخر» تقودنا إلى الدخول في بعض جزئيات ما نسميه بالعدل الحضاري. فالعدل المرتبط بالعلاقة «بالآخر» المختلف ليس في إعطائه حقه فقط وإنما أيضاً في النظر إليه إنسانياً وطريقة التعامل والعيش معه. لنأخذ العنصر الأول.
التعدد المتفاعل
يتحدث الجميع، في العصر الحديث، عن مفهومي الاختلاف والتعدد، وأهمية الإيمان بهما لكي تتمكن البشرية من التعايش. ولكن، ننسى أو نتناسى أن هناك خطاباً عن التعدد والاختلاف منذ قرون، وهو مقدم في تصور متقدم جداً. لننظر في هذا النص القرآني: «ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جددٌ بيضٌ وحمرٌ مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور» (سورة فاطر، آية 27-28).
الحديث عن الوجود المتعدد، كما توضحه الآية، يحمل في طياته فكرة الأصل والاستثناء. الأصل في الوجود التعدد، كل شيء مخلوق فهو متعدد ويبقى الاستثناء في الفردانية، أو الوحدانية بمنطق النص الديني. وهذه الوحدانية – الاستثناء لا يمكن أن تتحقق إلا في ما فوق المخلوقات. الإله الذي «ليس كمثله شيء». وهذا الإيمان بالتعدد ضروري كونه يفسّر ذلك التأكيد المستمر، في النص الديني، على فكرة وحدانية الله كاستثناء. بمعنى: إن كانت الفردانية ممكنة الحدوث على الأرض لما أصبحت قيمة متعالية فوق الوجود كله جعل الله منها الباب الأول للإيمان به، وهذا بعد إيماني عمودي، ويتبعه بعد إنساني أفقي مهم جداً نجده في الآية المعروفة: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير» سورة الحجرات (آية 13).
ما يلفت الانتباه هنا ليس التأكيد على فكرة التعدد والاختلاف وإنما الغاية منه. «لتعارفوا». تعليل التعدد والاختلاف بالتعارف يضع النص الديني في مرحلة متقدمة جداً في النظر إلى العلاقات البشرية. فالأمر لا يتعلق باعتراف فقط، إذ إن الاعتراف قد يكون مفهوماً سلبياً جداً. فمحمد يمكنه أن يعترف بجاك وجاك يعترف بمحمد من دون أن يقتضي ذلك أي تواصل أو تفاعل. والأمر لا يتعلق بتسامح (المفهوم المستخدم كثيراً في العصر الحديث)، إذ إن لهذا المفهوم دلالة سلبية أيضاً، وذلك في حمله فكرة المشكلة المسبقة (التعدد والاختلاف في هذه الحال)، والمطلوب التعالي عليها بالتسامح. ومكمن الخطورة أن هذا التسامح يصبح عبئاً يحمله «الأنا» و «الآخر». هذا العبء يعيش حال انتظار فقط، أي أن غاية المراد هو تأجيل انفجار أزمة التعدد. أما النص الديني فلا ينظر الى التعدد كمشكلة، وإنما كحال أصيلة قابلة للعيش فيها. لذلك فإنه يطلب التعارف بين الناس. ولا يمكن الحديث عن تعارف من دون تواصل وتعامل وتفاعل مستمر، وهو ما يتطلب فعلاً الكثير من الوقت والجهد والاستعداد، ما يعني استمرار التواصل. بل قد يصل الأمر الى أبعد من التعارف، فنجد النص الديني يقول: «عسى أن يجعل الله بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم»، سورة الممتحنة (آية 7). أي أن العلاقة ليست قطعية، بل متغيرة ومتحركة وقابلة للتعديل، بحسب الظروف الإنسانية.
وبهذا فالعلاقة بين البشر متقدمة جداً في المنظور الديني الذي يطلب التفاعل بين المختلفين والمتعددين. على العكس تماماً من الفكر الإنساني الذي توقف عند الاعتراف السلبي والتسامح المتعالي على الأزمات من دون حلها من جذورها. وبحديثنا عن التواصل والتعدد المتفاعل، نكون وصلنا إلى مفهوم مهم جداً لاستمرار التواصل والحوار بين «الأنا» و «الآخر». ونقصد بذلك قابلية النسبية، أو قابلية الصواب والخطأ.
قابلية الصواب والخطأ
عادة ما يًُنقد الدين في كونه لا يقبل الرأي المخالف، وهذا من التلاعب بالهوية الدينية. من الطبيعي أن ينظر كل دين الى ذاته كحقيقة مطلقة، وهكذا هو الفكر الإنساني، ولا نحتاج هنا إلى أي مواربة. إلا أن النص الديني يقيم فصلاً في النظر لذاته وفي تقديمه للآخرين، إذ ينظر بإنصاف إلى أن كل طرف مقتنع بفكرته، ومن الضروري أن يكون النقاش المستمر والمتفاعل «بالتي هي أحسن» في إطار نسبية الفكرة، وذلك ارتباطاً بموقف التواصل الإنساني. لنقرأ هذا النص: «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» (سورة سبأ، الآية 24).
الآية واضحة تماماً. إما أن «الأنا» على صواب و «الآخر» على خطأ، أو أن «الآخر» على صواب و «الأنا» على خطأ. لذلك فلسنا في حاجة للذهاب إلى مقولات «كلامي صواب يحتمل الخطأ، وكلام غيري خطأ يحتمل الصواب» ثم نقيس عليها. إن النص الديني يقدم الأمر قبل الجهد الإنساني بفترة زمنية طويلة. بل كما أشرت سلفاً إنه يقدم الأمر في تصور متقدم جداً. ونجد ذلك في الآية التالية: «قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون»، (سورة سبأ، الآية 25).
وهنا ارتفاع لنبرة الخطاب، إذ تقدم «الأنا» من منظور «الآخر»، مع الإحجام عن القيام بالأمر ذاته في المقابل. نجد ذلك في وصف عمل «الأنا» بأعلى مراتب الخطأ «أجرم»، في حين يتم استخدام مفردة محايدة، هي «عمل» لوصف الآخر. فوصف الذات لا يترتب عليه شيء غير وضعها تحت مجهر التمحيص والتدقيق، أما وصف الآخر بحكم ما فيعني القطع إما بالخطأ وبالتالي معاكسة الغرض (تأكيد النسبية) أو بالصواب وبالتالي الاعتراف النهائي بالخطأ (في غير محله). فالحكم النهائي دور لا يحق ولا ينبغي أن يلعبه المختلفون في الرأي. ويقودنا هذا إلى مناقشة العنصر الأخير في هذه الورقة، ويتعلق بمفهوم الحكم المحايد.
الحكم المحايد
عندما يدور نقاش وحوار بين طرفين وكل منهما يعتقد بصحة رأيه، فمن الظلم أن يقوم أحدهما بدور الحكم (سيصبح «الخصم والحكم» في هذه الحال). لذلك يقترح النص الديني منذ قرون أن يفصل بين الناس طرف محايد ليست له مصالح مع أحد منهم. ونجد نصوصاً عدة للتدليل على هذا الأمر منها: «قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم» (سورة سبأ، الآية 26).
هناك أطراف مختلفة، وكل منها يحتكم إلى رأيه الذي قد يكون صواباً وقد يكون خطأ. حسناً من هو الطرف الأكثر حيادية والذي يستطيع إظهار الحق؟ لن يكون غير ذلك الذي خلق هؤلاء جميعاً، ولا يمكن أن يكون ذلك على وجه الأرض، وإلا فما الغاية من اليوم الآخر. لذلك يقدم النص الديني الحكم وكأنه قادم لا محالة، لكنه مؤجل إلى حين. وصاحب الحق في إقامته هو ذلك الذي يملك الحقيقة المطلقة، أي الله. وهناك آية صريحة جداً تقدم الأسماء بأسمائها وهي: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد» (سورة الحج، الآية 17).
وبالتالي فليس لأحد أن يلعب دور مقر الحقيقة المطلقة بين البشر، وإنما التعايش في إطار آراء نسبية تساعد في التعايش بعدل. بالتأكيد سيستمر الناس في لعب أدوار غير أدوارهم، ولكن هذا يجب تفسيره في إطار تراتبية عناصر الهوية (من الصعب القبول بفكرة تساوي القيمة لعناصر الهوية) والتي تتغير أماكنها بفعل عوامل عدة كالعمر والمكان والزمان والتعليم.
إذاً، أمر بالعدل بين الناس جميعاً، دعوة للتفاعل والتعارف، وإقرار باحتمالية الصواب والخطأ بين البشر، وترك الحكم النهائي لطرف محايد، ألا تمثل هذه القيم ما يبحث عنه الجميع اليوم؟ فكيف أصبحت من اللامفكر فيه دينياً؟ إن تجاهل مثل هذه القيم عند طرح أمر الهوية الدينية هو تلاعب بها وتشويه لصورتها.
وإذا كان أمر الشرق الأوسط يهم العالم أجمع باعتباره أكثر المناطق اضطراباً، فمن الضروري فهم موقع الدين فيه، إذ يمثل حجر الزاوية والمحدد الأول للهوية، سواء للمسلمين أو المسيحيين أو اليهود. وأي محاولة لتجاهله بحجة تقليديته أو عدم قدرته على مسايرة التطور الحديث يعني حكماً مسبقاً ولا موضوعية في الطرح. بل سيقود إلى كوارث، أهمها عدم تقدير الأمر حق قدره، فيقود من يرغب في تقريب وجهات النظر بين الحضارات إلى خسارة أكثر أدوات التأثير وتوجيه الرأي العام في الشرق الأوسط، في مقابل من يبحث عن مزيد من الأزمات.
وكمثال شرق أوسطي سريع على عدم الموضوعية في تناول الهوية الدينية، أقول إن مناقشة الظاهرة الإسلامية وتحليلها في الستينات أخذ منحى سطحياً كانت له نتائج خطرة، فقد طرح البعض الدين كقضية موقتة لا تلبث أن تنتهي، الى درجة الحديث عن نيتشه. وهناك من تحدث عن مجموعة المحافظين القادمين من الأرياف وغير القادرين على التأقلم مع المدينة… ثم كانت العودة أكثر قوة تنظيرياً ودموياً. ولكي انهي أقول إن الأديان يمكن أن تكون عاملاً مهماً جداً لحل الأزمات والتقارب بين الحضارات شريطة البحث فيها عن القيم الأخلاقية المشتركة والبعد عن التسلط والسيطرة ومناقشة العقائد وفرض نظرة أحادية للكون.