أزراج عمر –
في هذه اللحظات الحاسمة التي تتحرك فيه شرائح الشباب سعيا لإحداث التغيير في الواقع السياسي ببلداننا يبرز دور العناصر المثقفة كضرورة من ضرورات التحول. لا شك أن هذا التحول المنشود مرهون أساسا بإعطاء محتوى تقدميا له في جميع المجالات وخاصة في ميدان التنمية بما في ذلك الإنسان باعتباره رهان أي تطور.
من المعروف أن التنمية تعتمد على المعرفة والعلم بلا أدنى شك، وهكذا فإن التطورات الحاسمة التي حصلت في الدول الأكثر تحديثا وتقدما في ميادين التكنولوجيا، والاقتصاد، والتصنيع، والتنظيم الاجتماعي قد تم إنجازها بفضل الشريحة المثقفة والعالمة. ومن هنا نجد المفكر الفرنسي الشهير جان بول سارتر في كتابه “دفاع عن المثقفين” يولي اهتماما استثنائيا بدور المثقفين في التغيير والتحديث. وفي الواقع فإن الفكرة الأساسية لهذا الكتاب نجدها في المحاضرات الثلاث التي ألقاها سارتر في العاصمة اليابانية “طوكيو” في الستينات من القرن الماضي. وبدون أي شك فإن مضمونه صالح لنا، ولتقدم مجتمعاتنا من المحيط إلى الخليج لو قمنا فعليا باستيعابه وتطبيقه.
أقول هذا لأن القضايا التي يطرحها سارتر في هذا الكتاب تهمنا وخاصة ما يتعلق منها بدور المثقفين وأهل العلم والمعرفة في النهوض الجدي وإحداث قطيعة مع أشكال التخلف الذاتي والمفروض من القوى الخارجية علينا. رغم مضي عشرات السنين فإن أهل الفكر والسياسة ببلداننا لم يتفاعلوا مع الأفكار التي طرحها سارتر، وفضلا عن هذا التقاعس السلبي في الاستيعاب والتطبيق فإنه لا أحد ببلداننا حاول على الأقل القيام بتطوير تلك الأفكار على ضوء المهام الملقاة على عاتق الجميع لتحقيق النهضة.
يرى جان بول سارتر أن فشل المثقفين يعني في آخر المطاف فشل المجتمع ككل في تجسيد أحلام التحديث والتقدم. يقسم سارتر محاضراته كالتالي: 1 – ما المثقف؟ 2 – وظيفة المثقف. 3 – هل الكاتب مثقف؟.
في المحاضرة الأولى “ما المثقف” خصص سارتر مساحة لتعريف المثقف، ولإبراز تناقضات المثقفين، وكذا علاقتهم بالجماهير، وأنماط الأدوار المنوطة بهم. بخصوص التعريف، فإن سارتر يحدد ماهية المثقفين. هذا ويميز بين المتعلمين، وأصحاب التخصصات في جميع الميادين العلمية، والفكرية، والتقنية، والاقتصادية، والاجتماعية، وبين المثقفين على نحو دقيق.
بالنسبة لفئة المتعلمين والمتخصصين فإن سارتر يقول بوضوح ما يلي: “إن هؤلاء المتعلمين حتى وإن كانوا من حملة الشهادات العليا، وإن أصحاب التخصصات في الطب العام والهندسة والفيزياء والطب النفسي وغيرها من الحقول المعرفية ليسوا بمثقفين، وإنهم هم أشبه ما يكونون بجوقة من التقنيين”.
ثم يواصل قائلا: “أما المثقف الذي يستحق هذا الاسم فهو ذلك الذي يتجاوز صلاحيته كتقني المعرفة”.
إن جوقة التقنيين تقوم فقط بالوظيفة التي تسند إليها وتلتزم بها حرفيا وكما هي: وهي أيضا لا تقوم بالتنقيب والتمحيص النقدي لما يدعوه سارتر بحفل الممكنات. فالمتعلمون ببلداننا، أي من يسمون بتقنيي المعرفة يذعنون للسياسة، ولا يقومون بمساءلة الحكام وأنماط المسؤولين، وفضلا عن ذلك فهم لا يناقشون المشاريع.
وهكذا فإن مهمة هؤلاء كثيرا، بل غالبا، ما تختزل في تنفيذ ما يملى عليهم وما يسطر من فوق لا أكثر ولا أقل. تلك هي الصلاحية المخولة لهم، أو التي يقتنعون بها دون مناقشة أو محاولة إبداء رأي، أو إظهار موقف في اللحظة الحاسمة تجاه التصرفات التي تضر بالوطن، وتحول دون تقدمه وتغلبه على الصعوبات، والنقائص، وفتحه لآفاق الازدهار. وهنا لا بد من إعطاء بعض الأمثلة على سلبية تقنيي المعرفة في مجال التعليم على سبيل المثال لا الحصر. إن المدرس كتقني المعرفة يلتزم فقط بتدريس المنهاج الذي يسند إليه، أما المدرس المثقف فإنه يقوم بتعديل ذلك المنهاج، ويدخل عليه تحويرات حتى يضمن التطور التعليمي- التربوي.
وفضلا عن ذلك فإنه يتحرك باستمرار باتجاه المسؤولين على مضامين المنظومة التربوية ليناقشهم في المثالب وأوجه التخلف التي يتضمنها ذلك المضمون من أجل تجاوزها واستبدالها بمضامين تضمن تحقيق مشروع التحديث المادي والمعنوي.
إن العلاقة بين السياسة وبين أهل المعرفة والعلم جد معقدة عبر التاريخ وفي كل المجتمعات سواء في الغرب أم في الشرق. هناك دائما تجاذبات، واختلافات وخلافات بين هذه الأطراف بخصوص الحكم، وإدارة شؤون الدولة بشكل عام. فالسياسي يعتقد بأنه صاحب القرار في حين أن من واجب المتعلمين بكل أنماطهم القيام بالتنفيذ بشكل حرفي ودون ممارسة أي شكل من النقد، أو المعارضة، أو المقاومة. وعلى هذا الأساس نجد أهل السياسة يلجأون إلى ممارسة الوصاية على شرائح النخب المتعلمة من خلال مخططات ذات طابع أيديولوجي.
ففي ميدان الإعلام مثلا تتم أفعال الرقابة الخارجية، والرقابة الذاتية، أما على المستوى التنظيمي فإن الدولة الأيديولوجية تقوم بتكريس المنظمات والاتحادات التي تضمن الطاعة، وعدم الخروج عن السياج السياسي المرسوم سلفا ومن طرف الفئة المهيمنة على السلطة.
هكذا يتم تأسيس الروابط، والجمعيات والاتحادات، والمنظمات، والمؤسسات المهنية والعلمية والأدبية والفنية جنبا إلى جنب النقابات مثل نقابة العمال واتحاد النساء وهلم جرا.
فالغاية من وراء ذلك هي تأطير المهندسين والأطباء والأدباء والمؤرخين والفنانين وغيرهم على نحو يضمن بقاءهم داخل فلك ايديولوجية السلطة الحاكمة، وإعادة إنتاج تصوراتها ومعتقداتها، وبالتالي تبرير أفعالها، وكذلك الدوران في الفضاء السياسي المحدد سلفا على نحو يحول دون النقد الراديكالي ومساءلة النظام نفسه والأيديولوجية التي تحمي مصالحه ومصالح حراسها.
وبهذا الخصوص يرى سارتر بأن مناخا مثل الذي وصفناه يقضي بتحقيق ما يلي: “يتحدد التأهيل الإيديولوجي والتقني للاختصاصي في المعرفة العلمية، هو الآخر، بنظام مكون من الأعلى “التعليم الابتدائي، الثانوي، العالي” واصطفائي بالحتم والضرورة وتنظيم الطبقة السائدة لتعليم على نحو يوفر للمؤهلين:
1 – الإيديولوجيا التي تراها مناسبة “التعليم الابتدائي والثانوي”.
2 – المعارف والتقنيات التي ستؤهلهم لممارسة وظائفهم.
كما يلاحظ فإن الخطاب السلطوي عندنا يستخدم مجموعة من المصطلحات والمصلحة العليا، وذلك لتكريس هيمنتها، فالمصطلحان مأخوذان من القاموس العسكري بحيث يفترض في المجند والخاضع للتعبئة أن يقبل بدون مناقشة الأوامر التي توجه له من قيادته، أي من الأعلى.
وهكذا يفترض أن الذي يجند ومن ثم يخضع لكرنفالات التعبئة أن يقبل بأنه من صميم المصلحة العليا التي تعادل غالبا بمصلحة الشعب وهي في الحقيقة مصلحة السلطة الحاكمة والشرائح، أو لنقل الشلل والطوائف التي تنتفع منها وتعيش تحت ظلها.
وهكذا كما يقول سارتر فإن هذا النمط من التلقين الأعمى الذي يفرض من فوق يرمي إلى تحديد دورين اثنين لتقنيي المعرفة. فالدور الأول يتمثل في جعلهم في آن واحد اختصاصيين في البحث وخادمين للهيمنة، أي حراسا على التقاليد المرسومة من قبل السلطة. أما الدور الثاني فيهيئهم ليكونوا على حد تعبير غرامشي موظفين في البنى الفوقية.
ويواصل سارتر مبرزا “فنراهم يمنحون، على هذا الأساس، سلطانا محددا، أي سلطان ممارسة الوظائف التابعة في الهيمنة الاجتماعية والحكم السياسي”.
في ظل هذا السديم يصبح الوعي تعيسا حيث لا يعود تقني المعرفة يدرك نقديا “التعارض القائم فيه وفي المجتمع بين البحث عن الحقيقة العملية “مع كل ما يترتب على ذلك من ضوابط ومعايير” وبين الايديولوجيا السائدة “مع منظومتها من القيم التقليدية” كما يقول سارتر.
وينهي جان بول سارتر محاضرته الأولى “ما المثقف” بعبارة يؤكد فيها أنه “لا يسع أي مجتمع أن يتذمر ويشتكى من مثقفيه من دون أن يضع نفسه في قفص الاتهام لأن مثقفي هذا المجتمع ما هم إلا من صنعه ونتاجه”.
في المجتمعات المتخلفة تنظيما ومجتمعا مدنيا والتي يتحكم فيها الحزب الواحد، أو الطائفة السياسية الديكتاتورية، فإن التصور الوحيد للمثقف هو أنه موظف في المؤسسات التابعة للنظام الحاكم، ويطلب منه دائما أن ينأى بنفسه عن النقد والمطالبة بتغيير النظام وقيمه وجوهر تلك المؤسسات التي هي ركائز ودروع السلطة يبين سارتر في المحاضرة الثانية التي يناقش فيها وظيفة المثقف في المجتمع بأن الأنظمة الحاكمة التعسفية تجد باستمرار أمامها وحولها ووراءها جوقة من المثقفين المزيفين. إن هذه الجوقة تبدل ألوانها حسب الظروف ووفق المصلحة الخاصة لها ولأسيادها معا.
وينقل سارتر النقاش إلى الفضاء الاستعماري حيث أبرزت التجربة ان المثقفين المستعمِرين “بكسر الميم” الذين يبررون الاستعمار وأيديولوجيته وممارساته، يعارضون المستعمَرين “بفتح الميم” الذين يلجأون إلى الثورة للتخلص من الاضطهاد، وهذا موقف متخاذل.
وكأني بـ”سارتر” يقارن بشكل غير مباشر بين تقنيي المعرفة ومثقفي السلطة وبين المثقفين المستعمرين حيث يجد أوجه الشبه بينهم، وفي الوقت ذاته فإنه يحاجج “ففي الحوار بين الحقيقيين والمزيفين من المثقفين تدفع الحجج ونتائجها الفعلية “الوضع الراهن أو الأمر الواقع” بالمثقفين الحقيقيين بالضرورة إلى الثورة”.
إنه ينبغي أن يفهم من مصطلح “الثورة” الموقف النقدي الشجاع، وتبيان الأخطاء، وتقديم البدائل الأكثر قدرة على صنع التقدم، والتحديث في الواقع المادي، وفي البنيات الثقافية والروحية والأخلاقية. ونتيجة لذلك فإن دور المثقفين في بلداننا يتمثل في العمل على تصفية جيوب التخلف، ومقاومة كل من يجمد أفكار الحداثة، ويعطل تجسيدها في الواقع الملموس.