– صادق الطائي
ضيفت مؤسسة الحوار الانساني بلندن يوم الاربعاء 17/2/2016 الكاتب والصحفي العراقي رافد جبوري في أمسية ثقافية تحدث فيها عن دور الاسلام السياسي في المأزق الذي يعيشه العراق ومشكلة بناء الدولة العراقية على اسس ديمقراطية. والاستاذ رافد جبوري ، صحفي وكاتب عمل في وسائل اعلام مختلفة اهمها الـ BBC ،حيث عمل صحفيا و مراسلا باللغتين العربية والانكليزية لسنوات ثم عمل متحدثا باسم مكتب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي. يعمل حاليا في قناة العربي الفضائية كما يكتب في وسائل أعلام عراقية وعربية وعالمية ويحضر لرسالة ماجستير في التاريخ المعاصر والعلوم السياسية في جامعة لندن.
وقد ابتد الاستاذ رافد جبوري حديثه بالاشارة الى ان الموضوع كبير وشائك ومعقد ،لذلك سيتناول بعض الجوانب منه ويحاول تسليط الضوء على مفاصل معينة في العملية السياسية العراقية في محاولة للوصول الى فهم ما يجري في التاريخ العراقي المعاصر وتحديدا منذ 2003 والتغيرات التي اعقبت ذلك ،واحب ان يركز الاستاذ جبوري على نقطة اعتبرها مفصلية في مسيرة الاحداث العراقية وهي انتخابات 2010 ،والسبب الذي اشار له ،انها الانتخابات التي جرت في اكثر الظروف استقرارا بعد 2003 ،وانها افرزت ما يمكن اعتباره الكتلتين الاكثر تأثيرا في السياسية العراقية والتي كان من الممكن ان تلعب دورا محوريا في رسم السياسيات في ما اعقب ذلك ،ويقصد بها كتلة دولة القانون والكتلة العراقية ،ومن الوهلة الاولى يتبين محاولة الكتل السياسية في هذه الانتخابات الابتعاد عن الصورة النمطية للاسلام السياسي ،فبالرغم من ان كتلة دولة القانون ضمت طيفا واسعا من الاسلام السياسي الشيعي ،وان كتلة العراقية اعتبرها البعض ممثلة للمكون السني ،الا ان الطروحات الانتخابية كانت قد ابتدأت تأخذ شكل الكتل السياسية المتنافسة على اساس البرامج السياسية وهوسياق يقربها من نمط الديمقراطية الغربية،كما ان اهميتها تكمن في انها الانتخابات التي ستفرز برلمانا وحكومة ستتولى شؤون ادارة البلد بعد الانسحاب الامريكي الذي حدد له تاريخ ديسمبر 2011.
ثم تناول الاستاذ جبوري ظاهرة الاسلام السياسي في العراق قائلا ؛ان هذه الظاهرة كانت لها خصوصيتها في العراق ،او انها لم تتسم بما اتسمت به حركات الاسلام السياسي في العالم العربي والاسلامي ،لقد بات معلوما ان حركات الاسلام السياسي في العالم قد نشطت بعد هزيمة 1967 نتيجة الانتكاسة التي اصيبت بها الايديولوجيات القومية والماركسية في العالم العربي ،بينما لم تظهر علائم الاسلام السياسي في العراق الا متأخرة عن ذلك ،وكانت فورتها الحقيقية متزامنة مع قيام الثورة الايرانية في نهاية عقد السبعينات ،كما ان صراعها مع النظام العراقي السابق تجلى او ظهر بوضوح بالتزامن مع الحرب العراقية الايرانية ومن ثم في حرب غزو الكويت وما تبعها من تداعيت التدخل الدولي ، وهنا اشار الاستاذ رافد جبوري الى ان احزاب الاسلام السياسي العراقية بشقيها السني والشيعي كانت مختلفة عمن شابهها من حركات الاسلام السياسي في العالم العربي والاسلامي من خلال طروحاتها ورؤيتها لبناء الدولة وعلاقة السلطة بالمجتمع .
ثم اشار الباحث الى ما اثاره الباحث الامريكي فالي نصر وهو إيراني الاصل أمريكي الجنسية يعمل خبيرا في شؤون الشرق الأوسط والعالم الإسلامي ،وهو كاتب وأستاذ السياسة الدولية في مدرسة فليتشر للحقوق والديبلوماسية في جامعة تافتس . حيث يشير نصر الى ان الاسلاميين في الشرق الاوسط عموما وفي العراق بشكل خاص ليسوا ممثلين للشريعة فقط ،او هم لم يعودوا رجال دين بالمعنى الكهنوتي ،فعندما قامت حركات الاسلام السياسي في المنطقة ،حولت هذه الطبقة الى ساسة يحدد مساراتهم الصراع والتنافس للوصول الى السلطة وبالتالي اتبعوا المنهج البراغماتي مثلهم مثل الساسة العلمانيون ،وهي اشارة مهمة كما يراها الاستاذ جبوري يمكنها توصيف حال الاسلام السياسي وسياقات عمله في عراق ما بعد 2003،فهذه الحركات بالرغم من كل شعاراتها المغلفة بالمعطى الديني فانها في النهاية لم تسعى لاقامة حكومة اسلامية لا احد يعرف شكلها او حدودها او اليات عملها ،لذلك سعت الاحزاب الاسلامية للوصول للحكومة لتنفيذ برامجها السياسية في تنافس براغماتي مع الاحزاب العلمانية ،وقد انتهجت الشكل الديمقراطي عبر صناديق الاقتراع للوصول الى ما تصبو اليه.
لكن مانتج عن التطبيق الخاص للتحول الديمقراطي في العراق بعد حقبة الحكم الشمولي جعل المراقبون في حيرة من امر هذه التجربة ،حتى ان الجنرال بترايوس في احدى تصريحاته ذكر ان النتيجة التي وصلت لها تجربة الديمقراطية في العراق مختلفة الملامح عما هو معروف من هذه التجارب في العالم وربما يمكننا وصف خصوصيتها بانها ( ديمقراطية عراقوية ) ، وبين الاستاذ جبوري هنا ان العقبة الاساسية التي واجهت حركات الاسلام السياسي في العراق هي بناء الدولة الوطنية ،لان البناء الايديولوجي لهذه الحركات يتقاطع مع فكرة الدولة الوطنية ،ولايمكن للمطلع على ادبيات الحركات الاسلامية ان يجد رؤية واضحة لمفهوم الدولة الوطنية فيها ،وقد شكل هذا الامر مأزقا حقيقيا في التعاطي مع الكثير من الملفات ،كما ان التنوع الاثني والمذهبي في العراق زاد من الامر تعقيدا ،فلا توجد حركات اسلامية جامعة ،بمعنى القابلية على احتواء السنة والشيعة فيها ،وبذلك ستكون مشاريع هذه الحركات تقسيمية اكثر منها توحيدية او جامعة على المستوى الوطني ،بالرغم من وجود بعض المحاولات لدى تيارات او احزاب اسلامية عبر طرح فكرة المشاركة او التقريب او السعي لطرح صيغة اسلامية موحدة لكنها كثيرا ما كانت تصطدم باسس البناء العقائدي لهذه الحركات .
ومن ضمن توصيف الحالة (العراقوية) التي اشار لها الجنرال بترايوس ،بين الاستاذ رافد جبوري ،ان رغبة الامريكان كانت تدفع الطبقة السياسية بكل اطيافها للمشاركة في العملية السياسية ، مما انتج احد اهم معوقات بناء الديمقراطية في العراق اذ ان كل المكونات السياسية رغبت في ان تكون ممثلة في الحكومة ولم ترض ان تكون جزءا فاعلا من معارضة سياسية وبرلمانية ،فحتى في انتخابات 2010 التي اعتبرتها نقطة مفصلية في الشأن العراقي ،رفضت القائمة العراقية ان تكون معارضة علمانية تراقب اداء كتلة الاسلام السياسي الحاكمة الممثلة في دولة القانون ، وبعد الكثير من الشد والجذب قبلت بالمشاركة في مناصب الحكومة ،وهذا الامر ادى الى تمييع مسؤولية الحكومة ودفعها للتنصل عن الفشل الحاصل بالقول ان الكل مشارك في الحكومة وان الفشل مسؤولية الجميع ،كما افرزت حالة المحاصصة التي سميت تزيينا لها مشاركة جماعية في ائتلاف حكومي ، كما اشار الى ظاهرة خطيرة اخرى هي ظاهرة السياسية الريعية ،حيث يكون الحزب السياسي صاحب الامكانية في توزيع المناصب والوظائف على منتسبيه ومؤيديه وبالتالي تظهر حالة فساد سياسي في تعامل الحزب مع شارعه ،حيث تبنى علاقة قائمة على الفائدة المباشرة ،وهذا الامر بدوره انتج تضخما مرضيا وسرطانيا في القطاع العام الذي بلغ عدد موظفيه قرابة الستة ملايين موظف مما اثقل كاهل الحكومة بالميزانية التشغيلية وجعل الحكومة تصرف مدخولات العراق القائمة اساسا على الريع النفطي على الرواتب دون الالتفات لامكانية بناء تنمية حقيقية يحتاجها البلد ،مع ماشاب العملية برمتها من ظواهر استشراء الفساد، وقد لاحظنا تخلي عدد من الساسة عن ادوارهم عندما انخفضت اسعار النفط حيث دخلت الدولة في حالة تقشف مما ادى الى غياب الفائدة المباشرة وهذا بدوره دفع الساسة الى محاولة الهروب او الانسحاب من العمل السياسي الذي بات غير مجد بالنسبة لهم.
وعلى صعيد متصل بالاقتصاد ،اشار الاستاذ جبوري ،ان عراق ما بعد التغيير شهد تدميرا كبيرا للقطاع الخاص وتهميشا لدوره نتيجة تضخم القطاع العام ،وان ما يمكن ان نلاحظه في العراق اليوم غياب الدور الاقتصادي السياسي الذي يمكن ان يبني حراكا سياسيا فعالا في بناء الاوطان ،فغياب طبقة رأسمالية وطنية يعني غياب صناعتها لتيار سياسي يمثل مصالحها ،حتى وان كنا نختلف مع توجهاتها ،وهذا الامر معروف في الديمقراطيات الغربية ،فاحزاب اليمين والمحافظين عادة ما تكون ممثلة لتوجهات الطبقات الوسطى والعليا من المجتمع في مقابل الاحزاب الديمقراطية او اليسارية التي تمثل مصالح الطبقات الدنيا ،بل ان بعض الدول التي لم تصل لمرحلة طبقات رأسمالية حقيقية ،كانت لها سماتها الخاصة مثال ذلك طبقة البازار في ايران من النخب التجارية وما لعبته وتلعبه في التنافس السياسي ،حتى هذا الامر كان مفقودا في العراق نتيجة لوجود طبقات طفيلية صناعية وتجارية ارتبطت بمافيات الفساد واصبحت عبئا على السياسة والاقتصاد في البلد .
وفي عود على مسألة الوحدة الوطنية والدور الذي لعبته الطبقة السياسية او بالاحرى عجزها عن لعب الدور المنوط بها اشار الاستاذ رافد جبوري الى امرين المفروض انهما من المسلمات البسيطة او الخطوات الاولى في بناء الدولة الوطنية ،والامران هما العلم والنشيد الوطني ،فقد بقي هذان الامران يراوحان في اروقة البرلمان ردحا من الزمن دون الاتفاق على حل حقيقي يبت في الامر ،ثم تم تمييع المسألة والقبول بالامر الواقع من تغيرات بسيطة على العلم القديم والقبول بنشيد وطني قديم عليه الكثير من الاعتراضات وعلامات الاستفهام.
ثم وصل الاستاذ جبوري الى محاولة الخروج بخلاصات من الوضع السياسي العراقي ووقف متعجبا امام تصريح ادلى به قطبان سياسيان يقفان على طرفي العملية السياسية وهما نائب رئيس الجمهورية الاستاذ نوري المالكي ونائب رئيس الجمهورية الدكتور اياد علاوي ،حيث صرحا في فترات متقاربة وبكلمات تكاد تكون متطابقة ؛اننا كطبقة سياسية فشلنا في تقديم ما ينفع العراق واغرقنا البلد في الكثير من المشاكل ولابد من تغيير كل الطبقة السياسية ، وحاول الاستاذ جبوري ان يقرأ او يحلل هذان التصريحان ،وتسائل بدوره ،هل يعني هذا ان هذه الطبقة السياسية ستترك مكانها لغيرها من الناشطين السياسين ؟هل ستفسح الطريق بانسحابها من العملية السياسية لوجوه جديدة يمكن ان تقدم حلولا للخروج من المأزق العراقي ؟ واشار الى بقاء السؤال معلقا بانتظار القادم من الاحداث،لكنه تناول جانبا اخر من مأزق العراق في بناء الدولة والتحول الديمقراطي المنشود ،وهو الجانب الاعلامي ،اذ اشار الى ان الاعلام لعب دورا سيئا في هذ التحول والبناء ،فقد اغرق البلد بطوفان من الصحف والاذاعات والفضائيات التي اصبحت لسان الاحزاب والحركات السياسية ،وبات العراق خلوا من اي صوت اعلامي موضوعي او مهني ،وحتى مؤسسات الدولة التي ينبغي ان تمثل صوتا وطنيا جامعا ومشاركا في بناء الدولة والتحول الديمقراطي تم تحويلها الى اداة في الصراعات الحزبية الضيقة والتنافس على المصالح والنفوذ ،وهذا الامر لا يعني بالتأكيد التعميم فهنالك بعض الاصوات هنا وهناك ،الا انها بقيت محدودة التأثير وقليلة الفعالية في المشهد ،بل ان المثير في الامر ،ان حتى وسائل الاعلام العالمية والعربية التي عملت في العراق اصبحت جزءا من اللعبة العراقية وصراعتها وانجرارها وراء هذا الطرف او ذاك بحسب اجنداتها واجندات دولها او مؤسساتها، من ذلك حاول الاستاذ رافد جبوري ان يبني خلاصته للموضوع في نقاط يوضح فيها مشاكل عملية بناء الدولة والتحول الديمقراطي في العراقي وهي :
1.مشكلة بناء اقتصاد وطني معافى ،بسبب تضخم القطاع العام وتهميش دور القطاع الخاص والاعتماد على الاقتصاد الريعي وتضخم مشكلة الفساد التي استشرت في مفاصل الدولة.
2.الممارسات السياسية الخاطئة التي بنيت على مشاركة الجميع في حكومات ائتلافية بنيت على اسس المحاصصة الطائفية والاثنية مما حجب مسؤولية الحكومة عن الفشل في اداء برنامجها السياسي المفترض ان تقوم به .
3.صعود وتضخم سياسات الهويات الضيقة الطائفية والاثنية والمناطقية وتهميش دور بناء الهوية الوطنية الجامعة ،وهو امر شاركت فيه كل الطبقة السياسية العراقية.
4.مشكلات الاعلام وتغيب دوره الموضوعي والمهني كسلطة رابعة المفترض ان تلعبها مؤسسات اعلامية تقدم الحقائق وتكشف الفساد للمواطن ،لكن هذه المؤسسات غرقت في مشكلة التسيس والانجرار لمعارك النفوذ والسلطة بين الاحزاب المتنافسة .
5.مشكلة غياب الوصول للمعلومة الصحيحة والحقيقية مما فتح الباب واسعا امام الاشاعات ونظريات المؤامرة التي غلفت الحياة السياسية العراقية حتى اوصلت المواطن العراقي الى تخيل سيناريوهات اقرب لافلام الاكشن او الخيال العلمي في تصور مؤامرات ستنفذ من هذا الطرف او ذاك للخروج من المأزق الذي يعيشه البلد.
وقد فتح باب الاسئلة والمدخالات للحضور الذين شاركوا بفعالية في النقاش وطرحوا العديد من الاسئلة ووجهات النظر حول العملية السياسية والديمقراطية في العراق وفشل الطبقة السياسية في الوصول الى مخارج امنة من الازمة وموقف الاسلام السياسي من الديمقراطية وادعاء احزاب وحركات الاسلام السياسي زورا تمثيل طوائفها والنظرة الضيقة لهذه الحركات التي حشرت المواطن في زاوية حرجة من تمثيلات الهوية المذهبية ،وكل تلك الاسئلة والمداخلات واجابات الاستاذ رافد جبوري قد اضفت غنى على الامسية .