لندن / عدنان حسين أحمد –
28/11/2012 نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية احتفائية بالشاعر واللغوي الراحل الدكتور عبد السلام إبراهيم ناجي ساهم فيها كاتب هذه السطور إضافة إلى نجل الراحل الدكتور أحمد عبد السلام والأستاذ قصي المعتصم، زوج ابنة الراحل، وقريبه، والمُطِّل على حياته الثقافية والاجتماعية من كثب. توقف كاتب هذه السطور عند سبع محطات مكانية أساسية في حياة الشاعر عبد السلام إبراهيم ناجي وهي البصرة، بابل، بغداد، جوارته، الرياض، مانشستر ولندن. فقد وُلد عبد السلام في 25 حزيران عام 1934 بمدينة البصرة. كان والده محامياً. انتقل والده إلى محافظة بابل ومعه الأسرة بطبيعة الحال فأكمل عبد السلام مراحلة الدراسية الثلاث في الحلة ثم واصل عبد السلام دراسته الجامعية في كلية التربية ببغداد وتخرج فيها عام 1955_1956، ليعمل في التدريس لاحقاً، لكنه لم يكتفِ بهذه المهنة، وإنما لاذ بالصحافة والعمل السياسي في آنٍ معا. دخل عبد السلام المعترك السياسي عام 1952 حينما انتمى إلى حزب الاستقلال، كما ساهم في تأسيس “حركة العرب الأحرار الناصرية” عام 1959 وكان مسؤولها وأمين سرّ التنظيم فيها، وقد تعرّض للاعتقال مرات عديدة، ثم أُبعد إلى جوارته بشمالي العراق بعد فشل محاولة الشوّاف عام 1959. ترك الشاعر عبد السلام العراق بعد انقلاب 1963 إلى المملكة العربية السعودية، وعمل هناك في التدريس والعمل الإذاعي لمدة سنتين حيث قدّم برنامجاً أسبوعياً مهماً بعنوان “روضة الأدب”، وحينما عاد إلى العراق عمل في إذاعة “صوت الجماهير”، وتسنّم مناصب إدارية عدة، ثم أنجز عام 1976 برنامجاً إذاعياً شديد الأهمية اسمه “البرنامج اللغوي” الذي كان يُذاع مرتين في الأسبوع وقد حصل على تكريم الجامعة العربية باعتبارة من البرامج الثقافية التي رفدت اللغة العربية بـ “450” حلقة على مدى سنتين متتاليتين. نشر عبد السلام العديد من قصائده ومقالاته في الصحف العراقية المعروفة آنذاك مثل “الزمان، والبلاد، وبغداد المساء، والأوقات البغدادية، واليقظة، وصوت الاستقلال، ومجلة قرندل، والنديم، والأسبوع والكرخ”، كما حرّر بنفسه صحفاً كاملة بين عامي 1960 و 1963 مثل صحيفة “بغداد”. غادر عبد السلام العراق إلى المملكة حيث استقر في مانشستر أول الأمر ثم انتقل إلى لندن وساهم في إعداد بعض البرامج الإذاعية لإذاعتين محليتين في مانشستر ولندن. حصل على شهادتي الماجستير و الدكتوراه من جامعة مانشستر عام 1983 في علوم صرف و بلاغة اللغة العربية. ألّف عبد السلام إبراهيم عدداً من الكتب نذكر منها كتاب “قواعد اللغة العربية” بستة أجزاء مخصصة لمرحلتي الدراسة المتوسطة والإعدادية. ومن كتبه الأخرى “النحو العربي” و “الأدب العربي” وديوان “كلمات يا حُب” و “سفر الخروج الأخير من الفردوس” الذي يتضمن ثلاث مجموعات شعرية وهي “سفر الخروج الأخير من الفردوس، ونقرات على عصب مشدود، وضوضاء في السماء الثامنة” ولديه بعض النتاجات الشعرية المخطوطة التي لم ترَ النور بعد. لابد من الإشارة إلى أن الشاعر عبد السلام إبراهيم ناجي الذي أتقن اللغة الإنكليزية، وكتب فيها، قد تركت تأثيرها على صوره الشعرية، وصياغاته اللغوية العربية التي أُثريت بسبب معرفته بلغة عالمية ثانية ساهمت، بقدر أو بآخر، في تخصيب اللغة العربية التي يكتب فيها.
توقف نجله أحمد عبد السلام عند لغة والده، وكيف تطورت منذ بداية مشواره الأدبي وحتى رحيله إلى جوار ربه. كان والده يكتب الشعر العمودي، الموزون والمقفى ومنها رباعية مشهورة جداً عن السياسة والوطن نشرت في جريدة “بغداد” عام 1961 أيام دخل العراق في المعترك السياسي يقول فيها:
“اشحذ لعنت كما تشاءُ و اعبث كما شاء القضاءُ
و اغمس يدك ببِركة مذ جئت تملأها الدماءُ
و اشرب و كأسك من جما جمنا يداوِ الداء داءُ
فلفجر أُمتنا غداً و سينجلي عنه الغطاءُ”
لم يقوقع الشاعر نفسه في موضوع محدد، وإنما تناول موضوعات كثيرة متنوعة عاطفية واجتماعية وما إلى ذلك. ومما قاله في شعر قرأ نجله د. أحمد القصيدة التالية المستلة من ديوان “كلمات يا حُب” يقول فيها:
“من علَّمكِ الحساب؟
لو كُنتِ تعرفينه جيداً
إذاً لعَرفتِ أن أي عدد يصيرُ صفراً حين تُطرحين منه”.
ذكر الدكتور أحمد بأنه والده كان يرى في الشعر الحر أكثر صعوبة من الشعر العمودي، وعلل الموضوع بأن التفعيلة فيها إيقاع وموسيقى تكاد تكون مفقودة في الشعر الحر، وأن القارئ العادي الذي يقرأ القصيدة الحرة قد لا يرى فيها روح القصيدة العمودية المعروفة ما لم يكن متضلعاً في القراءة، لذلك فإن على الشاعر أن يعمل بجهد أكبر لكي يعوّض عن هذا الموضوع. وفيما يلي قصيدة “حينما صرتُ أرقاماً وحروف” وهي من قصائده الجميلة التي تحتشد بالعواطف الإنسانية النبيلة التي بعثها لزوجته السيدة فتوح مصطفى عام 1984 يقول فيها:
” وَدِدتُ لو زَمَمتِني مع الحقائب الكِثار
نَعشاً حتى أكون حيثُ أنتِ يا حبيبتي
و حيث لا يَضلُّ ذلك الذي أَرادَ أَن يترُكَني وحيد
يزورني متى يشاء
يلقي عليَّ وردة بيضاء
في كل عيدٍ يقول لي:
بابا أنا الانَ هُنا. . . تَسمَعُني؟
أسمعه و إن أَكُن في ظلمة الأموات
أَسمعُهُ لِأنَني أُحبه حب الحياة
حمادتي الصغير
تحبه بلابل الصباح
تعشقه نسائم الصيف
تهب في بغداد
فيرقص الفرح
لإنه باقة من نيسان تزفها الأفراح
يا جواداً ما كبا
لكنه كأُمه جَمِح
أُحب فيه أنُّهُ كأمه جموح
مَن لي أن الثم خديهِ و بعد أروح؟”
أشار الدكتور أحمد بأن والده قد خاض في المعترك السياسي، وكان وطنياً بغض النظر عمّن يحكم العراق أو طبيعة الحكم السائدة في كل الحقب التي مرت على العراق، وقد ظل وفياً لبلده، محباً لشعبة، ومخلصاً لعراقيته. توقف نجله عند بعض المقالات التي كان الراحل ينشرها في مجلة “الوطن العربي” وفي صحيفة “العرب” التي كان يرأس تحريرها المرحوم أحمد صالح الهوني، كما كتب في صحيفة “القدس العربي” رداً على بعض الكتّاب الذين كانوا يجرِّحون ببعض العراقيين. ذكر الدكتور أحمد بأن والده كان مولعاً بالرسم القرآني، وهو يعتقد جازماً بأنَّ السور القرآنية تمثل ذروة البلاغة، وقد جمع هذه القصائد في ديوان يحمل عنوان “وهو يحاوره” الذي لما يزل مخطوطاً، ولكنهم يتمنون نشره في القريب العاجل لأنه ديوان على قدر كبير من الأهمية. أشار الدكتور أحمد إلى المراسلات الكثيرة بين والده والعديد من الشخصيات الأدبية والثقافية مثل خالد الدرّة وشاذل طاقة وأحمد مطلوب ويوسف نمر ذياب وغيرهم من مختلف الأطياف السياسية وكان العراق هو الهدف الرئيس الذي يجمعهم إضافة إلى الأدب والفكر والثقافة بشكل عام. جدير ذكره أنّ أحمد عبد السلام “1970” خريج جامعتي مانشستر وسوسكس عامي 1994 و 2010 على التوالي، وهو عالم كومبيوتر لديه اهتمامات واسعة ومتنوعة في الفلسفة والتاريخ والسياسة وعلم الآثار والترجمة والأدب، وخصوصاً في الشعر العربي والإنكليزي الكلاسيكي ومابعد الحداثي. أما الأستاذ قصي المعتصم فقد توقف طويلاً عن السيرة الذاتية لزوجة الراحل عبد السلام إبراهيم، إذ كتبت الدكتورة فتوح مصطفى سيرة ذاتية حملت عنوان “ساعة بلا عقارب”، وقال بأن الكاتبة قد تطرقت بشكل ملحوظ إلى الزمان والمكان، وقد ذكر القاص المعتصم بأن الزمن يبدو متوقفاً كما يشير عنوان السيرة الذاتية بوضوح، فالساعة لا عقارب لها، وأضاف بأن الإنسان عندما يتعرض للألم وللاضطهاد والضياع والبؤس فإنه يفقد الأمل في الحياة، ويبدأ بالبحث عن أشياء أخرى يلهي نفسه بها سواء دنيوية أو روحية، أما بصدد المكان فقد قال المعتصم بأن المكان كان حاضراً بقوة خصوصاً حينما تتحدث عن أوضاعها النفسية والاجتماعية والثقافية في البصرة وبغداد على وجه التحديد، وكذلك في الكرخ والأعظمية التي عاشت بها طفولتها البائسة كما يتضح من أسلوب كتابتها لهذا النص السيري. نوّه المعتصم إلى أن هذه السيرة الذاتية تزدان بالمعاني الإنسانية العميقة، كما أنها تتوفر على الكثير من الفلسفة والحكمة ودراسة لحقبة زمنية للمجتمع العراقي وتقاليده المعروفة، كأن تُمنع الطفلة فتوح من اللعب مع الأولاد، أو عندما تُقتل جارتها غسلاً للعار، وأعتبر هذه التقاليد أو الأعراف الاجتماعية جزءاً من التراث العراقي. توقف المعتصم أيضاً عند الترابط الثلاثي الأبعاد ما بين النهر والسماء واللون الأزرق، هذا اللون الذي أحبته كثيراً إلى درجة الشغف به، وربما يأتي هذا الحُب المفرط لأنها كانت تجد متعة خاصة في السباحة فيه. كما أشار إلى تعلقها بالعديد من عناصر الطبيعة كالزهور والأشجار والأراضي المعشوشبة من جهة والقمر والغيوم والنجوم وما إلى ذلك. رصد المعتصم مسألة الصمت عند الكاتبة فتوح مصطفى وقال إنّ الصمت عندها ليس متأتياً من الجهل أو العزوف عن الحياة، وإنما هو ناجم عن الحكمة، والتأمل في معنى الحياة التي تبدأ منذ الولادة وتنتهي بالموت. ذكر المعتصم بأن الدكتورة فتوح كانت تخبئ وراء الصمت ألماً لم تكن تبوح فيه. وبعد انتهاء المداخلات التي تفضل بها المشاركون في الأمسية الثقافية الاحتفائية فُتح باب النقاش والمداخلات فقال أحد الحاضرين بأن الدكتورة فتوح مصطفى قد عملت بالاشتراك مع زوجها عام 1956 في الإعلام إذ قدمت معه برنامجاً يحمل عنوان “نستوقفك لحظة”، وكانت أيضاً معدة ومقدمة لبرنامج تلفازي اسمه “ركن البيت” عام 1963 وكانت أول عنصر نسائي يعد ويقدّم برنامجاً تلفازياً وكانت تعلّم فيه الطبخ أو الحياكة أو الأتيكيت أو الجلوس على المائدة. كما ساهمت في السعودية في تأليف بعض المناهج المقررة مثل كتابي القواعد والرياضيات وكانت مؤلفاتها تُدرَّس إلى فترة قريبة جداً، وفي ثمانينات القرن الماضي ساهمت في تأليف كتاب القواعد المقرر للمرحلة الابتدائية. توقف قصي المعتصم عند بعض الرسائل المتبادلة بين الراحل عبد السلام إبراهيم ناجي وبعض أصدقائه مثل محمد مهدي الجواهري ومصطفى جواد اللذين بعثا برسالتين له وحثَّ عائلة الراحل على البحث عن هاتين الرسالتين ونشرهما في كتاب مذكراته. ففي رسالة الجواهري يقول فيها: “شكراً يا أبا الثناء على ملاحظتك حول البيت الشعري الفلاني “أنا لا أعرف تسلسل البيت” ولا أعتقد أن هناك شاعراً ممكن أن يجد هذا الخطأ إلاّ عبد السلام الآلوسي”. والرسالة الثانية من مصطفى جواد وهو عالم لغوي معروف وكان لديه برنامج يحمل عنوان “قل ولا تقل” وقد صحح له خطأ هنا أو هناك ورسالته تنطوي على شكر لأبي الثناء الآلوسي على تصويباته اللغوية. ثمة تصحيحات لغوية كثيرة تنسب إلى الراحل عبد السلام من بينها أنه حول صفة “المدعو” في المراسلات الرسمية القضائية إلى “السيد” أو “السيدة” لأنَّ التوصيف الأول ينطوي على إهانة واستخفاف بالمواطن حتى وإن كان متهماً، لأن المتهم بريء حتى تُثبَت إدانته، كما أبدل اسم “المحكمة” إلى “قصر العدالة” وقد أخذت الدولة بتصحيحاته اللغوية. وفي ختام الأمسية تحدثت ابنة الراحل سجواء عبد السلام عن خاصية محددة في ملحمة كلكامش أثبتت بواسطتها أن ملحمة كلكامش هي الصورة الأولى للمقامات، وهذا يعني أن المقامات قديمة قِدم ملحمة كلكامش. وكانت قد طرحت هذه الخاصية على والدها الراحل وأخبرها أنها ستقدم كشفاً مهماً في دراستها العليا إن هي استطاعت أن تثبت هذه الخاصية وتعزِّزها بالأدلة العلمية المقنعة. بقي أن نقول إن الدكتور عبد السلام إبراهيم ناجي شغل العديد من المناصب الإدارية خلال حياته الزاخرة بالعمل والنشاط العلمي والأدبي فقد كان مديراً عاماً لدائرة الإشراف اللغوي في الإذاعة والتلفزيون، ومديراً عاماً لدائرة التدريب الإذاعي فيها أيضاً، وقد وضع، هو وزوجته الكريمة د. فتوح مصطفى، والسيد نائل السعيدي أيضاً، مناهج العربية للحملة الوطنية الشاملة لمحو الأمية. كما أصبح مندوب العراق لمنظمة اليونسكو عام 1976-1977 وتسلّم جائزة “كوبسكايا” الرسمية التي مُنِحت للعراق لقضائه التام على الأمية متوفقاً بذلك على كل من كوبا ويوغسلافيا وعدد كبير من الدول المنافسة للعراق في تلك السنة. صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها في المهجر البريطاني في 19 / 05 / 2010.