16-04-2014 –
عدنان حسين أحمد
ضيّفت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن الدكتور جعفر هادي حسن في أمسية احتفائية تحدث فيها عن منجزه الثقافي ومؤلفاته في حقل الدراسات اليهودية. وقد ساهم في تقديمه وإدارة الأمسية التكريمية كاتب هذه السطور.
كان أول المتحدثين في هذه الأمسية الاحتفائية هو الدكتور هاني شُعيب، طبيب مصري ورئيس الملتقى الثقافي المصري البريطاني بلندن حيث قال: “هذه الدعوة شرف لي لم أكن أتوقعه وإن كنتُ أقدّر صاحب الدعوة وضيفه. الدكتور جعفر هادي حسن هو مثال للمفكر العربي الجاد تعود علاقتي به إلى ما يقرب من عشرين عاماً ولعلي أذكّره بأني كان لي شرف تقديمه أول مرة إلى الساحة اللندنية على وجه التحديد عندما كان في مانشستر وذلك من خلال الندوات الثقافية والفكرية التي كان يقدمها في ذلك الحين النادي العربي في بريطانيا.
لقد تفضّل عيلنا الدكتور جعفر بفتح بوابة كبيرة على العقل أو على طريقة التفكير اليهودي بالنسبة لنا نحن العرب، وهذا فتح كبير. فإذا كان في إمكان أي شعب أو أمة أن تقاوم عدوها فعليها أن تعرف أولاً كيف يفكر؟ والدكتور جعفر هو من قلائل المثقفين العرب المتخصصين في هذا المجال وعندما بدأ يقدّم لنا عطاءه المتميز تبين للجميع حجم الجهل المطروح الذي تصدى له بدراساته. كان لنا حظ الإطلاع على كتب الدكتور جعفر الأربعة التي أشير لها تواً حيث أسهب في شرح وتفصيل هذا البحر الفكري غير المطروق وغير المتاح لضيوفنا وروّادنا في الملتقى الثقافي المصري البريطاني الذي تشرّفت بتأسيسه عام 2002 .
وعلى الرغم من أنّ اللغة العبرية قريبة الشبه أو الصلة باللغة العربية إلاّ أن هناك عدداً قليلاً من المتخصصين العرب في هذا المجال. فعندما تلقيت خبر الأمسية الاحتفائية بالدكتور جعفر قلت هذه دعوة متأخرة وكان لابد أن تحدث منذ سنين، فليس هناك كثيرون في مجال فكرنا العربي ممن يستطيعون أن يقاربوا قامة الدكتور جعفر في مجاله أو في اهتمامه ودأبه ودقته في البحث. فعندما يطرح لنا قضية في محاضرة ما فإنه يسهب في ذكر المصادر التي استقى منها هذه المعلومة وهذا الأمر يبين لنا مدى هذا الجهد العميق الذي كان يبذله دائماً.
وعندما نحتفي بالدكتور جعفر هذ الليلة فإنما نحتفي بالعقل العربي في أرقى تجلياته، ولعلنا نتمنى على أنفسنا ألا تكون هذه بداية فقط، وإنما تكون بداية كبيرة لفتح النوافذ والإطلالات على المفكرين والمثقفين العرب الذين يثرون حياتنا وثقافتنا بعطائهم المتجدد، ويسهمون في تنوير عقولنا ودفعنا إلى العمل الجاد. تحية للدكتور جعفر هادي حسن، وتحية إلى هذه المؤسسة التي ارتأت هذه الليلة أن تحتفي به ونشكرهم على هذا الاحتفاء.”
الإعلامي يحيى حرب:
أريد أن أسجِّل شكرنا وتقديرنا لهذه المؤسسة التي التفتت إلى هذه الزاوية المهمة في تكريم الأحياء من كبارنا وباحثينا الذين يتركون، من دون شك، بصمة مهمة وأساسية في حياتنا الفكرية والثقافية. إنّ تكريم الأحياء والعظماء والمبرزين من باحثينا ورجالنا الكبار هي مسألة مهمة ربما تقصِّر فيها دولنا أو أنظمتنا أو مؤسساتنا الكبرى وتقوم بواجبها هذه المؤسسات المدنية الناشطة والحيّة، فشكراً لهم على كل حال. لقد تعلمت شخصياً الكثير من الدكتور جعفر هادي حسن وأفدت الكثير من خلال المقابلات التي أجريتها معه كإعلامي واللقاءات التي كان من حظي أن أقوم بها معه حيث أفدت منها كثيراً على المستوى الشخصي، ومن خلال النظرة العامة التي بدأت أنظر إليها إلى الواقع من حولنا.
أما الملاحظة الجوهرية الثالثة فنحن نعرف من دون شك بأننا في خضم صراع طويل وجوهري وقومي وتاريخي مع هذه الفئة التي تقول بأنها تنتمي إلى الدين اليهودي الذي لا نعاديه طبعاً، ولكننا في صراع مع إسرائيل التي احتلت أرضنا، وشرّدت شعبنا، وهذه الدولة تقول بأنها تمثل الدين اليهودي، ولكننا، مع الأسف الشديد، رغم أننا أمضينا أكثر من ستين عاماً أو يزيد في الصراع مع هذا الكيان لم نلتفت إلى قراءة حقيقية وتاريخية لهذه المجموعة من البشر التي أتت لتقول إنها تمثل هذا الدين الذي كان موجوداً قبل آلاف السنين وأتى ليحتل أرضنا.
نحن ننظر إليهم بعيون سياسية فقط، ولم ننظر لهم حتى الآن بعيون ثقافية وتاريخية وببحث علمي دقيق لهذه المجموعة البشرية التي احتلت أرضنا كما أسلفنا. أوكد في ملاحظتي الأخيرة أمامكم أن إسرائيل ككيان والدين اليهودي كثقافة وكوجود حضاري يكتنفه الكثير من التضليل الإعلامي والخداع التاريخي والحكايات والأساطير التي ربما ليس لها أساس من الصحة أو أنها حُرفت وزُورت وضُخمت ووُجهت في أغلب الأحيان باتجاهات سياسية معينة.
لقد اكتشفت شيئاً من هذا التضليل من خلال الكتب التي قرأتها للدكتور جعفر هادي حسن ومن خلال ما أعطاه لنا هذا النموذج البارز الذي أحاط بهذا الدين وهذه المؤسسة أو هذه المجموعة البشرية التي نقول فعلاً أنها زوّرت التاريخ ولكن لم يكن لدينا مستمسك يوكد أنها فعلاً زوّرت التاريخ. فمن خلال هذه الكتب، ومن خلال الدكتور جعفر هادي حسن، هذا النموذج البارز والمميز في حياتنا الثقافية، بدأنا نرى حقائق نحن بحاجة إلى أن نراها، لهذا كله لا أستطيع إلاّ أن أشكر أمامكم الدكتور جعفر هادي حسن، وأشدد على ضرورة تكريمه ليس فقط في الكلام والمناسبات، وإنما تكريمه من خلال إقامة مؤسسات معرفية وثقافية تهتم بهذه الأبحاث ويكون لها طبعاً شرف أن تنتسب إلى مؤسسها الدكتور جعفر هادي حسن.”
الدكتور صباح جمال الدين:
بكلمات قليلة وأفكار مقتضبة قال الدكتور صباح جمال الدين للمُحتفى به: “أن أخي الدكتور جعفر، الصغير سناً، الكبير قدراً قد أغرقني بألطافه لدرجة تضطرني أن أقف على قدمي وأنحني له احتراماً وإجلالاً (لولا أن مسماراً قد انغرز في رجلي قبل المجيئ لهذه الأمسية). وبينما كنت في الباص في طريقي إلى هذه المؤسسة تذكرت أشياء غريبة عن اللغة العربية التي تُدخل العلم في مجال الماء فففي المورد يقول “إنه يعّب العلم عباً” وكأن العلم شيئ سائل.
كما أن اسم المحتفى به الدكتور جعفر يعني النهر. لقد كتبت أو هيأت له أبياتاً كثيرة من الشعر في رأسي لكنني وجدتها لا تفي بحق الدكتور جعفر الذي خاطبته بما معناه أنك لست بجعفر، وإنما أنت بحر من العلم فلقد أنقذني نحو عشر مرات من مواقف علمية وثقافية تورطت فيها علماً بأن والدي قد أوصاني غير مرة قائلاً لي: ” لا تدعي العلم فيما لست تتقنه” ومع ذلك فقد ورطني أحد الأصدقاء أن أحقق كتاباً فكنت أذهب إليه، خلال مدة التحقيق، في كل أسبوع مرة ولا أستطيع أن أصف لكم روعة هذا الرجل وكرمه وبساطته وتواضعه وكنت أخجل من كل الأشياء التي يقدمها لي، وأنا حائر في الكيفية التي يجب أن أشكر فيها هذا الرجل. لقد كتبت قصيدة استوحيتها من اسمه الكريم “جعفر”، والجعفر في اللغة العربية هو النهر، لكن جعفرنا المُحتفى به هو بحر علم زاحر.”
يا عالِماً حقَّقَ الإعجازَ بالفِكْرِ * * * يا جعفرَ العِلمِ طاغٍ فاضَ كالبحرِ
أردتُ شُكرَكُم شِعراً فصرتُ كمن * * * ببصرةِ التمرِ يهدي كمشةَ البُسْرِ
كأنَّ وحياً غزا قلبي بفضلِكُمُ * * * يتلو القوافي بقلبي دون أن أدريِ
لو كنتُ فظاً غليظ القلب ما اجتمعت * * * من كلِ صوبٍ رجالُ العِلمِ والفكرِ
يستمطروك علوماً أنت واهِبُها * * * لكلِ طالبِ علمٍ جُدتَ بالدُرِّ
وددتُ لو أن لي الأفلاكَ طائعةً * * * لصغتُ شِعري لكم بالنجمِ إذ يسري
وودتُ لو شُقَّ عن قلبي فيُنبئوكم * * * عن حُبِّكم في سويداه وعن شكري
أنا العراقي في قلبي لكُمْ نسبٌ * * * دمُ القرابةِ موصولٌ مدى الدهرِ
ما همَّني أنَّ عراقَ الخير أنْكَرَني * * * ما دمتُ بالله قد يسَّرتَ لي أمري
ليتَ البِحارَ مِداداً والسَما ورقاً * * * شكَرْتُكُمْ لو كَفى جو السما سطري
الأستاذ أميل كوهين:
أشكر أولاً مؤسسة الحوار الإنساني التي منحتني الفرصة لأن أشارك شخصياً في هذه الأمسية الاحتفائية وأشكر الدكتور جعفر على أبحاثه ودراساته عن الديانة اليهودية التي أضافت الكثير لرصيدي المعرفي والثقافي. وبالمناسبة أنا لست عدواً لكم، وأنتم لستم أعداءً لي. والأستاذ جعفر كان منصفاً في كل كتاباته التي لا يضلل بها أحدا لأنه يكتب عن الواقع حسب ما يراه.
وقد خضنا معه نقاشات عديدة وجدالات متواصلة لكننا لم نختلف، وإذا اختلفنا هنا وهناك فإننا نقبل بالاختلاف. لقد التقيت بالدكتور جعفر قبل سبع سنوات، وشاركنا في برامج تلفزيونية كثيرة ولم نختلف، ولم ينظر لي في أي فترة على أني العدو. صحيح أني يهودي ولكنني لست عدواً. ما يعرفة الدكتور جعفر عن اليهود واليهودية كثير جداً لأنه موسوعة وبحر واسع. لقد زرع الدكتور جعفر في روحي حب البحث، وأثار لدي الاهتمام في موضوعات عديدة مثل الدونمة والقرائين والحسيديم وغيرها من الموضوعات التي لم أكن أعرف عنها شيئاً.
وهو يبحث الآن في موضوع مهم جداً وهو موضوع الخزر. وبسبب اهتمامه هذا اقتنيت له كتاباً عن الخزر، فثمة شخص يدعى يهودا الليفي الذي كان طبيباً وشاعراً وفيلسوفاً يهودياً قد تكاتب مع ملك الخزر الذي اعتنق اليهودية آنذاك فاعتنق الشعب اليهودية. ولأنني أعتقد أن هذا الكتاب ثمين من الناحية التاريخية وفيه معلومات كثيرة فقد قررت أن أقدّم هذا الكتاب هدية للدكتور جعفر وآمل أن يروق له.
الأستاذ غانم جواد:
أشكر حضوركم للاحتفاء بعالِم من علمائنا الكرام وهو الدكتور جعفر هادي حسن. وفي هذه المناسبة أود أن أقول إن فكرة الاهتمام بعلمائنا ومفكرينا ومثقفينا قد جاءت من الحاجة إلى تكريمهم أو بتعبير آخر إلى الاحتفاء بهم لأن هذا الرجل قد ساهم في تقديم معرفة إنسانية وفكر إنساني خدم به الثقافة أولاً، كما خدم به الناس الذين يكتب لهم.
التقيت بالدكتور جعفر عام 1991 بلندن وكان مثالاً للعصامية. وقد طلبت ذات مرة من أحد أصدقائه أن يحدثني عن سيرة حياته، وعما يعرفه عن الدكتور جعفر. فذكر لي أنه كان يعمل إلى جانب دراسته مذ كان طالباً في المدرسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية. وكان والده شخصية علمية ومهتم بالجانب العلمي للعائلة. فظل الدكتور جعفر يبني نفسه بنفسه من دون الاعتماد على الآخرين.
فانتقل إلى بغداد ودخل الجامعة وتخرج فيها ثم درّس في عدد من المدارس العراقية. لقد حصل على البكلوريوس والماجستير في اللغة العربية والدكتوراه في اللغة العبرية والدراسات اليهودية في جامعة مانشستر أيضا. كما درس اللغة الألمانية في جامعة مانشستر. ونحن نفتخر بهذه الشخصية المحترمة ولنا أن نفتخر بشخصيات قادمة إنشاء الله خلال هذه السنة آملين أن يكون هذا الاحتفاء حافزاً كبيراً لأعزائنا في أن يبدعوا في مجالات اختصاصهم لأننا بحاجة ماسة إلى تعزيز الثقافة العربية الإسلامية باعتبارها جزءاً أساسياً من هويتنا. أحييك يا دكتور جعفر وأهلاً وسهلاً بك دائماً في هذه المؤسسة التي ساهمتَ في بنائها ولك الفضل فيها دوماً.
الدكتور جعفر هادي حسن:
مقاربات حيادية، وتفكير موضوعي، وذهنية متسامحة
قدّم الدكتور جعفر هادي حسن، المختص باللغة العبرية وحقل الدراسات اليهودية، شهادة قيّمة في الأمسية الثقافية التي أقامتها مؤسسة الحوار الإنساني بلندن احتفاء بمنجزه الفكري الذي يمتد إلى خمسة عقود في أقل تقدير. فقد أمضى الدكتور جعفر عقد السبعينات من القرن الماضي برمته بدراسة اللغات السامية ( العبرية، الآرامية، السريانية، الفينيقية) إضافة إلى تخصصه في حقل الدراسات اليهودية في جامعة مانشستر البريطانية، هذا إذا وضعنا جانباً دراسته للغة العربية في جامعة بغداد وحصوله على شهادتي البكلوريوس والماجستير قبل أن يحزم أمتعته لرحيل ممض وغربة موجعة.
درّس الدكتور جعفر ثلاث سنوات في جامعة الملك عبد العزيز لكنه لم يستطع أن يكتب شيئاً البتة، فلم تكن الظروف مشجعّة على الكتابة العلمية أو البحث العلمي، لكنه لم يكشف النقاب عن طبيعة هذه الظروف التي منعتهُ من الكتابة، وتركته يستغرق في التأمل والتفكير طوال تلك السنوات الثلاث، لكنه ما إن عاد إلى إنكلترا عام 1982 حتى عقد العزم على الكتابة على وفق خطة معينة رسمها في ذهنه خصوصاً وأنه يمتلك أدوات مختلفة مثل اللغات السامية الأربع آنفة الذكر إضافة إلى دراسته لليهودية كدين وفكر وتاريخ، هذا ناهيك عن إفادته الجمّة من الأساتذة والعلماء الذين أشرفوا على تدريسه ببغداد ومانشستر وزرعوا فيه حبّ الموضوعية والالتزام بالجانب العلمي المحايد.
الملاحظ أن الدكتور جعفر لم يعتمد على أي مصدر عربي في دراساته وأبحاثه الرصينة وعذره في ذلك أنه يمتلك كل الأدوات التي تتيح له الإطلاع على المصادر العبرية والإنكليزية فلماذا يستعمل المصادر والمراجع العربية إذاً؟ كما انتبه منذ وقت مبكر إلى نقطة شديدة الأهمية مفادها أن يبحث عن موضوع لم يكتب عنه أحد من قبل، أو كُتب عنه بشكل غير موضوعي أو غير علمي كي يتصدى له بنَفسٍ علمي ويعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.
شبتاي سفّي ويهود الدونمه
ذات يوم كان الدكتور جعفر يبحث في مكتبة جامعة “سواس” فوجد مصادفة كتاباً يحمل عنوان The decadence of Judaism in our time “تهرؤ اليهودية في وقتنا الحاضر” لموشي مِنوهَين فلفت نظره وفي أثناء القراءة عثر على موضوع “شبتاي سفّي”، مؤسس حركة الدونمة حيث يقول المؤلف أن هذه الحركة هي من أهمّ الحركات في تاريخ اليهودية. فكيف لا يعرف الدكتور جعفر عنها شيئاً وهو المختص بالدراسات اليهودية؟ لذلك ذهب إلى الإنسايكلوبيديا جوديّكا مباشرة، فهي المصدر الأول الذي يتبّعه فأعجبه الموضوع كثيراً، خصوصاً وأنه لم يرَ شيئاً مكتوباً عنه باللغة العربية سوى كُتيّب صغير لذلك كتب مقالاً عن شبتاي سفّي ويهود الدونمه ونشره في مجلة العربي عام 1985، ثم قرّر أن يطبع الكتاب على نفقته الخاصة بمبلغ كبير، والأدهى من ذلك أنّ الكتاب ظهر مليئاً بالأخطاء الكثيرة، ولكنه ما إن تحسس ردود الفعل الطيبة على الكتاب حتى أعاد طبعه ثانية في لبنان وكان الإقبال عليه أفضل من الطبعة الأولى حتى جاءته رسالة من الشاعرة المرحومة فدوى طوقان عام 1993 من عمّان تقول فيها:
“عزيزي الأستاذ جعفر هادي حسن
تحية طيبة وبعد، فقد قرأت في جريدة الحياة الصادرة في 20/ 4 / 1992مقالاً لك ممتعاً عن فلسفة الرقص والغناء والموسيقى عند الحركات اليهودية ولكوني لم يسبق لي أن عرفت شيئاً عن هذا الموضوع فقد استمتعت فعلاً بقراءة المقال . . . سررت بحق، بل سررت جداً بكتابك القيّم عن “فرقة الدونمة” وأنها لهدية ثمينة منك سأظل أعتز بوجودها في مكتبتي. شدني الكتاب بقوة منذ قرأت الصفحة الأولى إلى حد أنني أكببتُ عليه ولم أرفع وجهي عن صفحاته قبل أن أتم قراءته في ساعة متأخرة من الليل، ولقد خرجت منه بحصيلة معرفية قيّمة لك الفضل في تزويدي بها.”
ينطوي كتاب “الدونمه بين اليهودية والإسلام” على معلومات تنويرية مهمة حيث تعترف طوقان في هذه الرسالة بإفادتها الصريحة من كتاب الدونمه وتقول: “يرجع سماعي بكلمة الدونمة إلى عام 1969 وظللت أجهل مدلولها ومصدرها إلى أن قرأت كتابك فشكراً لك”.
ذات مرة سأله صديق إن كان بالإمكان طباعة الدونمة في الجزائر فوافق شرط أن يبعثوا لي بعض النسخ ولكن الناشر شوّه الكتاب وكتب كلاماً سيئاً عن اليهود على ظهر الغلاف فلم ينم الدكتور جعفر لمدة أسبوع لأنه شخص موضوعي وعلمي، والديانة اليهودية مثلها مثل أية ديانة أخرى فيها الصالح وفيها الطالح أيضاً. أما بصدد الانتقاد فهو ينتقد الصهيونية لأسباب أخلاقية وعلمية لكنه لا ينتقد الدين كدين فهم أصحاب كتاب باعتراف القرآن الكريم.
لقد طبع كتاب الدونمة قبل ثلاث سنوات طبعة جديدة وقد أضاف إليه الدكتور جعفر نحو خمسين صفحة فيها معلومات مهمة جداً عن هذه الفرقة التي تغلغلت في المجتمع التركي واحتل بعض أعضائها مناصب حساسة في الدولة التركية وكانت نسبة مبيعات هذه الطبعة مشجعة فاقترح على الناشر أن يطبع الكتاب طبعة ثالثة لكنه اكتفى بالطبعتين السابقتين. يعتز الدكتور جعفر بـ “الدونمه” ربما لأنه كتابه الأول الذي يختلف موضوعه الرئيسي عن بقية الموضوعات التي تناولها في كتبه اللاحقة، كما أنه سهل القراءة، وفيه نوع من الرواية التاريخية.
فرقة القرائين اليهود
أصدر الدكتور جعفر كتابه الثاني المعنون بـ “فرقة القرّائين اليهود” بواقع 150 صفحة في طبعته الأولى التي صدرت عام 1989وقد جاءته رسالة من عالِم كبير هو أف، فانتون، رئيس قسم الدراسات العبرية واليهودية من جامعة ستراسبورغ شجعته على أن يعيد طباعة الكتاب وقد كتب هذه الرسالة باللغة العربية مفتتحاً إياها بعبارة ” بسم الله الرحمن الرحيم” مبيناً فيها احترامه لشخص الدكتور جعفر وهي مذيلة بتاريخ 1 مارس 1996 نوجزها بما يلي: “أنه جاء إلى لندن في زيارة واقتنى نسخة من كتاب “فرقة القرائين اليهود” الذي وجده ممتعاً فقرأه بعناية فائقة فوجد الكاتب متبحراً في الموضوع ومتبعاً لمنهج متوازن في البحث. كما سأل الباحث عن الحافز الذي شجّعه للاهتمام بهذا الموضوع تحديداً. وأعرب عن رغبته في اقتناء نسخة من كتاب “الدونمه” لكنه نفد من المكتبات وتمنى على الكاتب أن يبعث له نسخة منه إن كان متوفراً لديه وسوف يسدد له تكاليف البريد في الأقل سائلاً الله أن يتوِّج جهوده الكريمة بالتوفيق.” لقد غيّر المؤلف عنوان كتابة من “فرقة القرائين اليهود” إلى “تاريخ اليهود القرائين اليهود منذ ظهورهم حتى العصر الحاضر” كما أن عدد الصفحات قد قفز من 150 صفحة إلى 430 صفحة وحجة الكاتب في ذلك أنه منذ سنة 1989 العام الذي ظهرت فيه الطبعة الأولى وحتى الوقت الراهن ظهر كم هائل من المعلومات في موضوع اليهوديات والوثائق اليهودية.
غلطة زمن
وفي السياق ذاته توقف الدكتور جعفر عند مكان بالقاهرة يسمّى “الجنيزة” وهو كنيس بن عزرا، المكان الذي يرمون فيه الأوراق والوثائق التي لا يجوز إبادتها أو إهمالها وفقاً للديانة اليهودية خصوصاً إذا انطوت على اسم الله سبحانه وتعالى بين ثناياها وإنما يتم تخزينها في غرفة من غرف الجنيزة التي دأب اليهود على تخزين أوراقهم ووثائقهم فيها منذ القرن التاسع الميلادي حتى القرن التاسع عشر حيث تمّ اكتشاف هذا المكان من قبل شخص ما وتبيّن أن عدد الوثائق الموجودة في ذلك المكان هي 250.000 وثيقة، وأن الكثير منها عن اليهود القرائين، ولو كانت هناك “غلطة زمن” لأصبح اليهود القرائون هم الاتجاه السائد والبقية هم مجرد فروع لكن الزمن يسير على وفق مسارات محددة فأخذ العلماء اليهود يطبعون وينشرون ما يجدوه عن القرائين.
كان الدكتور جعفر هادي حسن ذات يوم في مكتبة “سواس” فوجد كتاباً يحمل عنوان “اليهودية القرائية” بواقع ألف صفحة فهل من المعقول أن يترك هذه المادة الضخمة التي تتوفر على مصادر كثيرة؟ بدأ يراجع هذه المصادر وهو يكتب الكتاب منذ عشرين عاماً إلى أن ظهر في طبعته الثانية عام 2014 وماتزال عنده مادة غزيرة لم يضفها إلى الكتاب كي لا يكون أكبر مما هو عليه الآن بواقع 430 صفحة، فالكتاب الضخم من وجهة نظر الدكتور جعفر يكون ثقيلاً على القلب والذهن في آنٍ معا، وهو يريد لكتابه أن يُقرأ، فكلما كان حجم الكتاب مقبولاً كلما سهلت قراءته.
حينما نشر الدكتور جعفر الطبعة الأولى من كتاب “فرقة القرائين اليهود” تلقى رسالة من رئيس القرائين في أميركا وهو مصري الأصل يمدح فيها الكتاب كثيراً ويقول له أنت الشخص الوحيد الذي أنصفتنا. وحين أخبره بأنه يعدّ طبعة جديدة لليهود القرائين وربما يحتاج لكتاب أو كتابين متعلقين بالموضوع ذاته لأحد علمائهم المصريين العرب الذين يكتبون باللغة العربية أرسل له ما قيمته 1500 جنيه إسترليني من مواد مايكروفلم وقال له طالما أنت حيادي وعلمي وموضوعي فنحن مستعدون لتوفير كل ما تطلبه من كتب ومواد. يعتقد الدكتور جعفر أنه جاء بشيئ جديد في كتاب فرقة القرائين اليهود الذي اشتغل عليه مدة طويلة من الزمن.
اليهود الحسيديم
صدر “الحسيديم”، الكتاب الثالث للدكتور جعفر هادي حسن عام 1994 وهو سعيد جداً لأنه ما يزال الكتاب الوحيد باللغة العربية عن هذا الموضوع وهو يتحدث عن مجموعة كبيرة جداً من اليهود الذين لهم طرقهم الخاصة في التفكير والاعتقاد وهم أنفسهم ينقسمون إلى خمسين طائفة وفرقة ومن الضروري أن يكتب عنهم الباحث المختص بالدراسات اليهودية. وهو يعتبر اختصاصه مثل أي اختصاص آخر، ويرى أن المختص يجب أن يبدع في حقل اختصاصه. وهو يتساءل دائماً: ما الفائدة في أن تكتب في اختصاصك كما يكتب الآخرون؟ لقد بذل الدكتور جعفر قصارى جهده في أن يطلّع على كل شاردة أو واردة تخص الدين اليهودي.
قضايا وشخصيات يهودية
أما الكتاب الرابع الذي لا يختلف في مادته الثرية عن الكتب الثلاثة السابقة فهو “قضايا وشخصيات يهودية” الذي صدر في العراق عام 2011 وقد تناول فيه الباحث عشر قضايا يهودية مفصلية إضافة إلى تسليطه الضوء على أربعة فلاسفة يهود وهم سبينوزا، أوريل داكوستا، يوسف ناسي ويعقوب كلتزكن. ثمة موضوعات محورية في هذا الكتاب لم يُكتب عنها باللغة العربية نذكر منها موضوع “الحركة النسوية اليهودية” التي تعتبر من أهم الحركات النسوية في اليهودية وقد أثرّت على الدين اليهودي وقد أراد الباحث أن يقدّمها للقارئ العربي واليهودي الذي يقرأ العربية أيضاً لكي يطلِّع على ما يدور في ثنايا اليهودية، وكيف ظهرت هذه الحركة إلى الوجود؟ وكيف أثرت في اليهودية أيضا؟ ولماذا تركت هذا التأثير؟
القضية الأخرى اللافتة للانتباه في إسرائيل هي قضية اليهود العرب الذين هجروا من إسرائيل ومنهم اليمنيون حيث تمّ تهجير نحو خمسين ألف مواطن يمني من سنة 1949-1955 حيث يدّعي هؤلاء اليمنيون أن مئاتٍ أو آلافاً من أبنائهم قد خُطفوا في أثناء تواجدهم في معسكرات الانتقال، وكان هؤلاء اليمنيون، بين آونة وأخرى، يتظاهرون لمعرفة مصير أبنائهم المختطفين.
تضمن الكتاب فصلاً عن يوسف ناسي ومشروعه لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين في القرن السادس عشر. ومن بين موضوعات الكتاب المثيرة ثمة تركيز على حركة “نطوري قارتا” وأفكارها ونقدها للصهيونية، فهي مجموعة غير سياسية ترفض الصهيونية ودولة إسرائيل على أساس ديني، وليس على أساس سياسي. وكثيراً ما ترد الأسئلة عن هؤلاء الناس ولماذا يريدون لإسرائيل أن تتهدم وتتدمر. وقد أسهب الباحث في الحديث عن فكرهم الفلسفي والأصول التي تقوم عليها أفكارهم في هذا الفصل من الكتاب.
قبائل بني إسرائيل الضائعة
أما الكتاب الخامس الذي نترقبه بشغف كبير فهو”البحث عن قبائل بني إسرائيل الضائعة والمشروع الصهيوني” الذي يسلّط الضوء على عدد غير قليل من المنظمات الصهيونية التي تريد أن تجلب أعداداً كبيرة من الناس بحجة انتمائهم إلى قبائل بين إسرائيل الضائعة التي تناثرت في الهند وأفغانستان وباكستان حتى وصلت إلى اليابان. وبالفعل فقد وصلت إلى إسرائيل مجموعات من هؤلاء اليهود “الضائعين” الذين يسكنون في الهند ومينمار وأماكن أخرى في العالم. وهذه حركة مهمة وكبيرة غير أن الناس بصورة عامة، بما فيهم اليهود لا يعرفون عنها شيئاً، وقد كتب عنهم الدكتور جعفر فصلاً في هذا الكتاب ونتمنى أن يرى النور قريباً لأنه يتعلق بالتاريخ والجغرافية والاجتماع والأنثروبولوجي. وما هو موضوع هذه القبائل الضائعة؟ ولماذا ضاعت؟ وكيف سيتم البحث عنها؟ وما هو رد الحكومات العربية على هذا الإجراء؟
لدى كل كاتب وباحث عدد من المنجزات التي يعتز بها، والدكتور جعفر هادي حسن يفتخر بثلاثة أشياء أنجزها خلال رحلة حياته الثقافية والفكرية. المنجز الأول هو إنشاء معهد للدراسات العربية بلندن لتعليم اللغة العربية للأجانب، كما كان يسعى لتحسين صورة العرب والمسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وقد حظي هذا المعهد بعدد كبير من المعجبين حتى أن أحدهم اقترح على توني بلير الذي فكر بتعلم لغة أجنبية بعد تقاعده أن يدرّس اللغة العربية في هذا المعهد فردّ عليه بلير قائلاً:”أنا أشكرك وسأخبرك متى أبدأ” وقد أعطاه الرسالة التي تلقاها من توني بلير. وهذه إشارة واضحة إلى أن المعهد كان له صدىً طيباً. أما المنجز الثاني فيتمثل بكتابة الدكتور جعفر لمادة “اللغة العبرية أصلها وتاريخها وتطورها” لدائرة المعارف الإسلامية في تركيا، وظهرت هذه المادة في المجلد 22 وهو سعيد جداً أن يُطلب منه ولا يُطلب من باحث يهودي أو من مسيحي أن يكتب مادة اللغة العبرية في دائرة المعارف الإسلاميةالمذكورة أعلاه. فيما ينحصر المنجز الثالث باللجنة العربية اليهودية في البرلمان البريطاني التي شُكلت قبل عشر سنوات تقريباً وبحثوا في حينه عن محاضرين للجلسة الأولى فاختاروا ثلاثة أشخاص أحدهم مسلم وهو الدكتور جعفر هادي حسن، والثاني مسيحي وهي كارين آرمسترونغ، والثالث يهودي وهو رئيس جامعة بوستن. وقد تحدث الدكتور جعفر عن اليهود في الدولة الإسلامية من القرن السابع إلى القرن التاسع عشر ، وكان الحضور حوالي %70 يهود والبقية عرب وآخرين، وعندما انتهى من المحاضرة وانفض الاجتماع جاء كل هؤلاء اليهود وطلبوا منه بلا استثناء نسخة من هذه المحاضرة التي قوبلت باستحسان كبير. وكلما ينعقد هذا الاجتماع سنوياً يذكرون أن المحاضر الأول هو الدكتور جعفر هادي حسن التي تميّز بنفَسه الحيادي، وتفكيره الموضوعي، وذهنيته العلمية الصارمة. وهي ذات السمات التي دفعت مؤسسة الحوار الإنساني لتكريمه والاحتفاء بمنجزه الفكري وقد ساهم في هذه الأمسية الاحتفائية خمس شخصيات ثقافية وهم الدكتور هاني شعيب، والإعلامي يحيى حرب، والدكتور صباح جمال الدين، والأستاذ أميل كوهين والباحث غانم جواد وكاتب هذه السطور.