استضافت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن يوم الاربعاء 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 على منصة زوم الاستاذة هاجر القحطاني في أمسية ثقافية سلطت فيها الضوء على واقع التعليم في العراق وقدمت رؤيا لسبل الارتقاء به.
هاجر القحطاني كاتبة عراقية وناشطة في مجال اصلاح التعليم، بدأت نشاطها العام كاتبة قصة ومحررة في الصحافة العربية بلندن. حاصلة على شهادة الماجستير في التنمية الدولية من جامعة لندن، وأكملت زمالة بحثية متقدمة في معهد دراسات الديمقراطية في واشنطن. أعدت أدلة تدريبية وكتبا تعليمية لصالح مؤسسات أكاديمية ومدنية مرموقة. تدير منذ عشر سنوات المنبر الدولي للحوار الإسلامي وهو منظمة تأسست في لندن قبل 25 عاما لتشجيع الحوار العلمي بين المسلمين حول شؤون العصر. القحطاني رئيسة تحرير دورية ” التنويري” الصادرة عن الرابطة العربية للتربويين الدينيين وعضو مجلس أمنائها، والرابطة منظمة اقليمية تشكلت في عمّان – الاردن قبل خمس سنوات لتقوية صوت الاعتدال والاصلاح في شأن التربية والتعليم الديني في المنطقة العربية. كما قادت تأسيس شبكة اقليمية من مراكز تدريب معنية بالشباب ودربت المئات منهم وأشرفت على تأسيس أكثر من عشرة فرق بناء قدرات في 11 بلدا عربيا. شاركت في العشرات من المؤتمرات الدولية حول شؤون الشباب والتعليم بضمنها ندوة بالأمم المتحدة في 2016 ومؤتمر في الفاتيكان في 2015. قبل ذلك عملت في مكتب رئيس الوزراء العراقي لثلاث سنوات ثم غادرت بقناعة أن الإصلاح الملّح في العراق يبدأ من التربية والتعليم وأن الشباب مسألة سيادية أهملها صناع القرار في العراق.
- المقدمة
ارتايت الحديث في هذه الأمسية من منظورعملي وأخاطبكم بإحساس جندي عائد من معركة خبِر بنفسه فداحة الأمر مدركاً إلحاح الحاجة الى التدخل العاجل. يستند ما أقوله الى خبرة عملية تمتد لأكثر من عقد من الاحتكاك المباشر متعدد الأبعاد بقطاع التعليم الرسمي وغير الرسمي في العراق، شمل ذلك لقاءات وحوارات مع المعنيين بالشأن التربوي والأكاديمي وصناع القرار والمنظمات المحلية والدولية ذات الصلة بالقطاع، وقيادة العشرات من ورش التدريب والمؤتمرات الشبابية واعداد المناهج التدريبية.
- مشهد محبط
ثمة حقيقة فاقعة لا تخفى لابد من اعتمادها مدخلا أول لحديثنا وهي أن العراق بلد شبابي بامتياز، حيث اكثر من نصف سكانه هم تحت 21 عاما أي في عمر الفتوة والشباب المبكر، ما يضعه وسط دول افريقية شديدة الفقر. لا يعكس ذلك مؤشرات تنمية متدنية فحسب بل يضاعف المسؤولية على المجتمع والدولة في توفير بيئة راعية لهذا الزخم الهائل المتزايد من الفتية والفتيات. ومع الاضطراب السياسي والفشل الاقتصادي والبطالة وحالة التعليم السيئة في البلد فان هذه الحقيقة تعني ان في العراق ما يكفي من الوقود الخام الجاهز للانفجار عنفاً ومخدرات وتطرفاً وجريمة.
وليس سرا أن نظام التعليم – بجناحيه الأساسي والعالي- يواصل في العراق تراجعه رغم ما يصرف عليه من أموال وجهود (كثير منها مخلص) من المعنيين سواء كانوا تربويين او اكاديميين او صناع قرار: الأمية في أعلى مستوياتها مقارنة بالدول المحيطة والعالم ومقارنة حتى بوضعها في العراق خلال السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، الجامعات العراقية خارج التصنيف العالمي او في ذيله، التسرب من المدارس ظاهرة بارزة، والتعليم التجاري منتشر كالفطريات دون ضوابط فاعلة.
وبينما يتواصل التقدم في فلسفة التعليم وطرقه واستراتيجياته في المنطقة والعالم تتعثر مسيرته في العراق وتتسع الفجوة باستمرار بين ما يتوفر لأجيال البلد الصاعدة وبين ما يحصل عليه نظراؤهم في الدول الأخرى، ناهيك عن معاناة الملايين من المتعلمين والمعلمين من مدارس بلا بنى تحتية وتكدّس في الصفوف وترهل في الموارد البشرية غير المؤهلة بما يكفي.
غير أن الأمر لم يكن دوما هكذا، فقد استمر منحنى التعليم العام في العراق بالتصاعد بدءا من تأسيسه في عام 1921، وصولا الى الذروة بعد الطفرة النفطية في السبعينات حتى الثمانينات، عندما قارب انفاق الدولة على التعليم 20% من ميزانينتها ، ما جعل العراق رائداَ في دعم التعليم في العالم العربي ووضعه في مصاف دول اوروبية متقدمة . لكن المنحنى سرعان ما بدأ بالنزول بعد تكبد البلاد تكاليف انسانية واقتصادية باهظة بسبب الحرب العراقية -الايرانية ثم حرب الكويت، وجاء الحصار الاقتصادي في التسعينات ليوجه ضربة قاسية للتعليم قبل أن ينهار بالكامل مع الاحتلال الأمريكي في 2003.***
المفارقة أن العراق يزخر بالخبرات الوطنية الأكاديمية والتقنية المتقدمة داخله وخارجه، لكن جهود الاصلاح تبدو متناثرة لا يجمعها رابط، ولا تشكل تراكماً ملموساً كمن يحفر في بئر لا قاع له، وهو ما انعكس على العديد من المعنيين الذين التقيتهم وعملت معهم خلال السنوات العشر الأخيرة شعوراً باليأس والعجز وقلة الحيلة والاحباط.
لهذا كله تصبح أزمة التربية والتعليم قضية سيادية ملحة تخص الأمن الوطني ومستقبل البلد ومصير أجياله، ما يعني أننا يجب أن نتوقف فوراً عن اعتماد واتباع عقلية التدرج والتراكم البطيء في احداث الاصلاحات اللازمة، واستبدالها بعقلية التدخل العاجل لوقف التدهور واجراء اصلاحات جذرية مستدامة، حتى إن عنى ذلك العودة خطوتين الى الوراء للتقدم أربع خطوات الى الأمام.
تعيننا في ذلك الاكتشافات الجديدة في علوم مثل النيرولوجي والسايكولوجي، التي تلعب دورا محوريا في تطوير استراتيجيات التعلم والتعليم، والقفزات الهائلة في الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة، أعادت هذه الاكتشافات والقفزات تعريف المدرسة والتعليم الصفي بشكل جوهري ما اضطر مؤسسات تعليمية عالمية عريقة الى النزول من أبراجها العاجية والتواضع أمام عصر انتشار المعلومة وسهولة الوصول اليها عبر إحداث تحولات جذرية في سياساتها وبناها الادارية وتوجهاتها المعرفية لكنها يمكن أن توفر فرصا حقيقية لقطاع التعليم في العراق لاختصار الوقت وجسر الهوة مع العالم. خاصة ان أجيالا من ناشئته مرت وتمر بظروف استثنائية أثّرت بشكل عميق على التكوين النفسي وبنية الدماغ لديهم.
- مقاربة التدخل
هنالك الآلاف من الدراسات والأبحاث الرصينة لباحثين عراقيين جادين وما لا يحصى من الدراسات والوثائق الدولية التي تعالج أزمات التعليم البنيوية والفنية والمعرفية، لذلك فان ما ينقصنا بالدرجة الأولى ليس المزيد من هذه الدراسات بل رؤية جامعة تعكس فلسفة واضحة ذات صلة باحتياجات وتحديات البلد الفعلية وثقافته وهويته الحضارية، وتأطيراَ معرفياً كلياً يحوّل مخرجات التربية والتعليم جوهرياً باتجاه تخريج مواطنين صالحين منتجين يجيدون صنع الحلول المجتمعية والاقتصادية والسياسية لا الثرثرة حول المشاكل. وما ينقصنا هو استراتيجيات تدخل فاعلة ناجعة ومستدامة تستثمر في قطاع التعليم بصفته منظومة عابرة للحكم والسياسة ومتجذرة في المجتمع وثقافته ونسيجه ومؤسساته الحيوية. والمقصود بقطاع التعليم هنا هو النقابات المعنية والخبراء والمنظمات والمؤسسات المدنية والأهلية المعنية بالتربية والتعليم و مديريات وأقسام وموظفو القطاع العام في الوزارات المعنية من غير التعيينات السياسية.
أدناه أربعة مداخل أساسية لضمان نجاح أي تدخل جاد تقوده الدولة في إصلاح منظومة التربية والتعليم في العراق، شرط أن تبادر المؤسسات المعنية في المجتمع الى الضغط على الدولة لتحقيقها لأن مسؤولية التربية والتعليم مشتركة وتضامنية بين الدولة والمجتمع.
- لا يجوز أن تبقى منظومة التربية والتعليم رهنا بتقلبات الساسة ومزاج الوزراء، وبما ان الوضع السياسي والاقتصادي مازال مضطربا وغير مستقر في العراق وقد يمر وقت قبل حدوث أي استقرار نسبي، لذلك لابد من سن تشريعات ووضع سياسات تحمي التربية والتعليم من ارتدادات الاضطراب السياسي ومن الاتفاقات السياسية التي تعكس ضعف او انهيار العقد المجتمعي مثل “المحاصصة السياسية”، كما تفعل أي دولة راشدة ومجتمع ناضج في ظروف الحرب والاضطراب.
- حصر وترسيخ غايات عملية التربية والتعليم في غايتين أساسيتين لهما الأولوية، بهما تقاس وحولهما توضع الاستراتيجيات وتنظم العمليات والموارد: وهما التأهيل لسوق العمل والتربية على قيم المواطنة الصالحة. وهذا يعني أولاً أن على قطاع التعليم أن يواصل ملاحقة التطورات والتحولات في سوق العمل المحلية والدولية واستهداف الراهن منها والاستثمار في الاستراتيجي. وذلك يشمل المهارات المؤهلة لأداء الأعمال والوظائف في سوق العمل الراهن، المهارات والقدرات المؤهلة لريادة الأعمال وانشاء مشاريع مبتكرة، القدرات العلمية والتقنية والفنية، وبلا شك مهارات العمل المتوقعة للقرن 21 (وثائق منظمة العمل الدولية)، ويعني ثانيا أن يقوم قطاع التربية والتعليم برصد الصيرورة الثقافية والأخلاقية والحضارية للمجتمع والدولة العراقية وتقديم التربية المدنية والأخلاقية والثقافية اللازمة لمواكبة هذه الصيرورة وتنشئة أجيال قادرة على بناء السلم المجتمعي والنهضة.
- التركيز على التدريب المهني والتحول التدريجي من نظام تعليمي يعتمد الشهادات الجامعية معيارا أول للتأهيل الى سوق العمل الى نظام يعتمد الشهادات المهنية دقيقة التخصص بمقاييس عالمية. انسجاماً مع التحول من اقتصاد ريعي يعتمد على واردات النفط فقط الى اقتصاد منتج تزدهر فيه ريادة الاعمال وينافس فيه العامل العراقي في السوق الاقليمية والعالمية خاصة مع انتشار الأعمال والوظائف على الانترنت التي لا تتطلب السفر او الانتقال من المكان، الملفت أن التعليم المهني تضاعف ثلاث مرات من حيث الحجم وتطور من حيث الجودة في ثمانينات القرن الماضي، وقد يكون هذا الاهتمام قد حصل، للأسف، لتشغيل وإدامة ماكنة الحرب العملاقة التي بناها النظام آنذاك.
- الاستثمار في الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، ليس فحسب كمهارة لا غنى عنها لوظائف المستقبل القريب، بل أيضا لتوفير حلول ذكية لمشاكل وتحديات التعليم الاجرائية مثل الوصول السريع الى جميع فئات المجتمع، ضبط الجودة، مواءمة المدخلات والمخرجات، رعاية الفروق الفردية والشرائحية، تطوير الإشراف ومحو الأمية، ناهيك عن مشاكل وتحديات القطاعات الأخرى.
المقترحات أعلاه هي خلاصة عشرات من الحوارات المعمقة مع معنيين بشأن التعليم والتربية في العراق أجريتها خلال الأشهر الماضية، وهي بطبيعة الحال رهن لإرادة سياسية محكمة وواعية ومجتمع مدني يعي أولوياته.