من أولى الخطوات التي تتخذها الدول الخارجة من قمقم الدكتاتوريات إلى رحاب الحرية، هو أطلاق حريات الرأي والتعبير وحرية الإعلام، كونه الأساس في ممارسة الحرية حتى ولو شكلاً … ورغم مرور ما يقارب التسعة أعوام على انقضاء حكم الفرد الواحد والحزب الواحد والرأي الواحد، غير أن العقول الجديدة التي حكمت العراق فيما بعد ما زالت تعمل بمنطق “أحذر واحترس” مع وسائل الإعلام فبدلاً من أن تفتح النافذة أن لم نقل الباب أمام حرية الرأي والتعبير والإعلام لتسمح بتغيير حقيقي وواقعي يعمل على محو شواهد الماضي ويساهم في بناء أرضية صلبة أساسها احترام الرأي والرأي الأخر والسماح بكشف الحقائق إمام الرأي العام لخلق حالة من المصداقية والشفافية مع الشعب… بل على العكس من ذلك… عملت تلك العقول على ترسيخ رواسب الماضي عبر التجاهل العلني لتغيير حزمة من التشريعات التي أن جرت فستساهم بأحياء دور الإعلام وتعزيز وظيفته الاجتماعية في أدق المراحل حساسية وحرجاً في العراق وهو ما يزال في خضم مرحلة إعادة البناء.
وشهد الواقع التشريعي العراقي عقب الـ2003 تغييرات طالت الكثير من القوانين في مجالات شتى، بين إلغاء لبعض منها واستحداث لقوانين جديدة لمواكبة التغيير الحاصل مع تغيير نظام الحكم… ، إلا ما يعنى بحرية الرأي والتعبير وحرية الإعلام بقي قيد السكون.. فهي قوانين أما أن الجديد والمطروح منها لمجلس النواب ظل رهن الدراسة والنقاش، أو تلك القوانين السابقة والمعمول بها منذ مرحلة ما قبل الـ2003، فقد ظلت قابعة في عتمة النسيان ولم ينفض عنها الغبار أو تطلها يد التغيير… وتحديداً هنا ما يخص جرائم النشر في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 للمواد ( 81،82،83،84) والتي شكلت وما زالت تشكل رادعاً مفزعاً أمام الإعلام والإعلاميين في تداول المعلومات ونشرها وعرضها على الرأي العام. ومنها هنا تبدأ سلسلة من التناقضات .. أولها أن التغاضي عن تغيير القوانين المعنية بحرية الإعلام سيعمل على خلق تناقض في الواقع مع قوانين أخرى مستحدثة وجديدة فرضت المرحلة صدورها.. وهكذا فسيكون الحال وكأن العراق عالق بين مرحلتين مما يعيق تقدمه ونموه.
ولم تقف الأمور عند حد التناقض بين القوانين بين بعضها البعض، بل تجاوز ذلك ليصل إلى حد تناقضها مع الدستور ذات وهو مصدر التشريعات، إذ نصت المادة (13) من الدستور العراقي الجديد أنه لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع هذا الدستور كما نصت المادة 38 منه على حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل و حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.. لتتعارض بعد ذلك مع مواد قانون العقوبات ذاته الذي لم تطله يد التغيير.
أما التناقض الثالث، فهو تجاهل قرارات سابقة اتخذت ولم يتم العمل بها، إذ قرر الحاكم المدني للعراق بول بريمر وبموجب أمر أصدر في 10 حزيران 2003، بوقف العمل في مواد جرائم النشر من قانون العقوبات العراقي.. وكذلك الحال مع ما منصوص عليه في اتفاقية العهد الدولي مع العراق الذي وقعته حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي الأولى وصادق عليه البرلمان السابق، والذي يلزم العراق باحترام حرية التعبير بصورة كاملة والانتقال إلى الديمقراطية وعدم العمل بأي قوانين تقيد الحريات الصحفية….
وهكذا فأن النهوض بمجتمع يجب أن يشمل النهوض بكل مفاصله الحيوية ليكون وقوفه مستنداً على أرض حقيقة واقعية صلبة، ولتصبح خطواته في المسار الصحيح