تركي التركي –
التنوير قضية محوريَّة مهمة على مرّ التاريخ، تتبنّاها نخبة مثقفة يحكمها الوعي والإدراك. ولطالما اختلفت النخب حول كيفية التنوير وطبيعته، لكنها لم تختلف حول أهميته وضرورته. فما هو التنوير؟ يحدِّد “إيمانويل كانط” مفهوم التنوير بأنه: خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بالتوجيه من إنسان آخر. ويحصر كانط أسباب حالة القصور تلك في السببين الأساسيين التاليين: الكسل والجبـن. فتكاسل الناس عن الاعتماد على أنفسهم في التفكير أدى من جهة إلى تخلفهم، ومن جهة أخرى هيأ الفرصة للآخرين لاستغلالهم؛ وذلك بسبب عامل الخوف فيهم.
وعلى الرغم من تأييد “إيمانويل كانط” لمبادئ الثورة الفرنسية إلا أنه لم يكن يؤيد طريق الثورة بوصفه الطريق السليم للإصلاح، وكان يرى بأن تغيير اتجاه العقول من الاعتماد على الغير إلى الاستقلال الذاتي أمر لا ينفع فيه تحوُّل مفاجئ، كالذي يحدث في الثورات، وإنما يلزمه التربية العقلية والنقدية.
عقلانية كانط ورفاقه الألمان -الذين جمعوا بين الفلسفة والتنوير بعيًد عن مزالق السياسة ودهاليزها- لم تؤثر في مسار الفكر الفرنسي في الستينات، وتحديدًا خلال أحداث 68 بقدر ما أثرت أفكار “ماركس وفرويد ونيتشة” المتشكِّكة في كل شيء، والتي كانت ملائمة تمامًا لإشعال الأجواء السياسية المشتعلة أساسًا آنذاك، فكان أن انشغل هذا الفكر بمواضيع الشك والنقد الحادين للعقلانية وللنزعة الإنسانوية عمومًا.
وفي تلك الأجواء المشحونة بالكثير من السياسة والشك، ظهر فلاسفة الستينات الفرنسيون (اليسار)، ليحمّلوا الفكر الفرنسي مهمة الشك بكل أبعاده الفلسفية. ولتُعرَف فرنسا من بعد ذلك التاريخ بفلسفتها الشكيَّة، موجهين ضربة قوية لفكر الأنوار والداعين له من أمثال كانط، ففكر الأنوار بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة المتشككين لم يكن أكثر من أقنعة تبرر القمع والقهر السلطوي، وعلى ذات المنوال سارت الكثير من الأفكار والفلسفات العالمية الثورية بما فيها جزء لا يستهان به من اليسار العربي المتأثر كثيرًا بهذا اليسار الفرنسي.
ولكن -كعادة كل مجتمع يراجع ذاته وأفكاره- لم تتوقف فرنسا عند نخبة الستينات، فظهر لها ابتداءً من الثمانينات من يراجع أفكار الستينات. وهنا نتحدث عن: «التنويريون الفرنسيون الجدد» أو«الفلاسفة الجدد»، وهو تيار جاد وعصري يعمل على تجاوز فلاسفة الستينات، وقد كسب مؤخرًا الكثير من الاعتراف والتقدير داخل فرنسا وخارجها. ومن رموزه البارزة -التي لقيت كتاباتها إقبالاً شديدًا لدى عامّة القرّاء- أندري كونت سبونفيل، وبسكال بروكنر، ولوك فيرّي.
لوك فيري، هو أحد أشهر هؤلاء الفلاسفة الجدد، ويرى أن التنوير لم يأخذ شكلاً فلسفيًّا سوى مع الفلاسفة الألمان. ويضيف أنه على الرغم من أننا اعتدنا على اعتبار «فولتير» و«مونتسكيو» و«ديدرو» فلاسفة. إلا أنهم ليسوا بالمعنى نفسه عندما نتحدث عن الفلاسفة الألمان وخاصة كانط، والفلاسفة القريبين من فلسفته. أما مأخذ فيري وغيره من الفلاسفة الجدد على الفلسفة الفرنسية المتأثرة بماركس وفرويد ونيتشة وهيدغر، فيكمن في كون هذه الفلسفة حاولت القطيعة مع الدين تمامًا، وإلغائه من المعادلة التنويرية، بينما فلسفة كانط عملت على علمنة الدين المسيحي، وهذا ما يرى فيه الفلاسفة الجدد -ومنهم فيري- الكثير من الواقعية.
إذن، نحن الآن أمام موقفين مختلفين، تجاه الدين والثورات، بين «اليساريين» والفلاسفة الجدد. فبينما اليساريون يرون القطيعة مع الدين ضرورة، وأن الثورات هي الطريق للإصلاح، نجد الفلاسفة الجدد لا يرون ذلك. إضافة لاختلاف جوهري حول مركزية الإنسان؛ فالإنسان بالنسبة لليساريين ليس إلا جسدًا، وما هذا الجسد إلا جزء من الطبيعة والتاريخ، وبالتالي فوجوده لا يحمل أي مركزية تستحق العناية، بينما الفلاسفة الجدد يؤمنون بمركزية الإنسان في هذه الحياة، وهذا ما يجعل فلسفتهم تتوجه له بمختلف مستوياته الاجتماعية والثقافية.
وهذا المنطلق الإنساني الثابت في فلسفتهم هو ما يقودنا لمشروع التنويريين الجدد، القائم على ضرورة تبسيط الفلسفة وتقديمها من خلال: لغة بسيطة واضحة من السهل فهمها من طرف جمهور غير متخصص. ثم البحث عن قنوات ووسائل إعلامية لنشر الفكر الفلسفي ذي الطابع التنويري، وتقريبه من الجمهور العام.
ختامًا، الحديث عن الفلاسفة الجدد وأسلوبهم التنويري -القائم على ثلاث نقاط محورية: التبسط في التقديم، وتفهم استحالة القطيعة المطلقة مع التراث، إضافة لتقديم المصالح الوطنية على القومية- يمكن برأيي استلهامه عربيًّا ومحليًّا، وخصوصًا بعد التجربة المريرة لما يعرف بـ«الربيع العربي»، بعيدًا عن أفكار نيتشة وتحليلات ماركس، المتشكِّكة دائمًا، والمحوَّرة سياسيًّا من قبل اليسار الفرنسي لخدمة «الثورة». والتي يتم اليوم -وبكثرة- تداولها عربيًّا، بعد تجاهل مبدأ القطيعة مع الدين، ومع إضافة القليل من ثورية «غرامشي» الطبقية المناهضة للدولة، من خلال شباب عربي ما يزال يتعاطى أفكار اليسار الفرنسي القومية بحماس منقطع النظير، في وقت هناك في فرنسا من يعلن -بعد تجربة- ضرورة القطيعة مع هذا الفكر الثوري اليساري، داعيًا لأفكار عقلانية تنويرية؛ إنسانية في جوهرها، ووطنية في مصالحها.