تتجه الماكينات في الوقت الراهن إلى احتلال كثير من الوظائف بدلاً من العمال، وباتت توفر رؤوس أموال جديدة، ويعني ذلك أن الفائزين في المستقبل لن يكونوا من يقدمون أيدي عاملة رخيصة أو أصحاب رؤوس الأموال التقليديين، الذين سينحسر وجودهم بسبب هيمنة «الماكينات» أو ما يعرف بـ «الأتمتة»، وإنما ستكون الثروة من نصيب فئة ثالثة من الذين يمكنهم ابتكار منتجات وخدمات ونماذج عمل جديدة. ويعني ذلك أن المبدعين هم من سيستطيعون الحصول على دخول مرتفعة. بيد أن الأفكار ستشهد ندرة حقيقية في المستقبل أكثر من الأيدي العاملة ورؤوس الأموال، ومن ثم ستجني القلة التي ستقدم تلك الأفكار الثمار الكبرى. وسيصبح تأمين مستويات معيشة مقبولة وبناء اقتصادات ومجتمعات شاملة من بين أهم التحديات خلال السنوات المقبلة.
وقد أدت التكنولوجيا إلى تسريع حركة العولمة، مقلّصة بشكل كبير من تكاليف الاتصالات والنقل، ودفعت العالم بدرجة أكبر صوب سوق عالمية موحدة للعمال ورأس المال ومعطيات الإنتاج الأخرى. ورغم أن العمال لا يمكن نقلهم بسهولة، فإن العناصر الأخرى في سلسلة الإمداد العالمية يمكن نقلها إلى أماكن الأيدي العاملة بتكلفة ضئيلة. وقد أسفر ذلك عن توفير فرص ليس فقط لمزيد من الكفاءات والأرباح، ولكن أيضاً لتغيرات كبرى، فإذا كان بمقدور العامل في الصين أو الهند القيام بالعمل نفسه الذي يؤديه آخر في الولايات المتحدة، فإن قوانين الاقتصاد تشير إلى أن مآلهما سيكون الحصول على الأجر نفسه. ولعلّ هذه أنباء سارة على صعيد الكفاءة الاقتصادية بشكل عام، وكذلك للمستهلكين والعمال في الدول النامية، لكنها ليست كذلك بالنسبة للأيدي العاملة في الدول المتقدمة التي تواجه منافسة انخفاض التكاليف. وتشير الأبحاث إلى أن القطاعات التي أمكن نقلها من الدول الصناعية المتقدمة إلى أماكن أخرى بها أيد عاملة رخيصة لم تكن جاذبة للتوظيف على مدار عقدين. ويعني ذلك أن توفير فرص العمل في تلك الدول بات قاصراً على القطاعات الكبرى التي لا يمكن نقلها، غير أن الأجور تراجعت بسبب المنافسة المتزايدة من قبل العمال النازحين من القطاعات «المهاجرة».
ومع استمرار حركة العولمة، ثمة ظاهرة أكبر تتطور هي «الأتمتة»، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الإنسان الآلي والطباعة ثلاثية الأبعاد وغيرها. وسيكون الخاسر الأكبر من «ظاهرة الأتمتة» هم العمال غير المهرة في الدول النامية. وفي حين أصبحت الماكينات الذكية أرخص وأقدر على القيام بكثير من المهام العمالية، فإنها ستشغل بصورة متزايدة مكان العمال التقليديين. ويشير ذلك إلى أن انتقال الشركات إلى أماكن الأيدي العاملة الرخيصة هو محطة على الطريق إلى «الأتمتة».
وسيحدث ذلك حتى في الدول التي توجد بها عمالة منخفضة التكلفة، فمثلا، بعد أن كانت شركة «فوكسكون» الصينية التي تُجمِّع أجهزة «آيفون» و«آيباد»، توظف أكثر من مليون عامل منخفض الدخل، تتجه الآن إلى استبدالهم بجيش كبير من أجهزة الإنسان الآلي. لذا بعد أن انتقلت فرص عمل كثيرة من الولايات المتحدة إلى الصين، يبدو أنها ستتلاشى من بكين أيضاً. وتؤكد البيانات الصينية حدوث تراجع يقدر بنحو 30 مليون فرصة عمل صناعية منذ عام 1996، أو زهاء 25 في المئة من إجمالي القوة العاملة، رغم ارتفاع الإنتاج الصناعي أكثر من 70 في المئة.
وعليه، تهدد القدرات المتزايدة لـ«الأتمتة» واحدة من أكثر الاستراتيجيات الموثوقة التي استغلتها الدول الفقيرة في جذب رؤوس أموال أجنبية، من خلال قبول أجور منخفضة كتعويض عن ضعف الإنتاجية ومستويات المهارة.
ومع تراجع الأيدي العاملة المتوفرة والرخيصة عن كونها طريقاً واضحاً للتقدم الاقتصادي، تشير إحدى المدارس الفكرية إلى إسهامات متزايدة من رأس المال، حيث تتحد الأصول المادية الملموسة مع الأيدي العاملة لإنتاج البضائع والخدمات من أجهزة، ومبان، وبراءات اختراع، وعلامات تجارية، وغيرها. ويقول الخبير الاقتصادي «توماس بيكتي» في كتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، إن حصة رأس المال في الاقتصاد تتجه إلى النمو، مع زيادة معدل العائدات الرأسمالية أكثر من المعدل العام للنمو الاقتصادي، الأمر الذي يتوقع حدوثه مستقبلا. وبالطبع سيتسارع «تعمق رؤوس الأموال» في الأنظمة الاقتصادية مثلما يتوقع «بيكتي»، بصورة أكبر في ظل استبدال الأيدي العاملة بالإنسان الآلي وأجهزة الكمبيوتر والبرامج الإلكترونية، وجميعها أشكال لرأس المال. وتشير الدلائل إلى أن هذا الشكل من التغير التكنولوجي الذي يرتكز على رأس المال يحدث في الولايات المتحدة وفي أماكن أخرى من العالم المتقدم.
وفي هذه الأثناء فإن العولمة والتطور التكنولوجي يزيدان من الثروة والكفاءة الاقتصادية للدول والنظام العالمي بشكل كبير، لكنهما لن يفيدا الجميع، على الأقل خلال المديين القصير والمتوسط. وسيظل العمال هم الحلقة الأضعف التي ستتحمل أعباء هذه التغيرات، ومن دون تدخل، سيزيد على الأرجح التباين الاقتصادي مهدداً بمشكلات متنوعة؛ ذلك أن الدخول غير المتساوية يمكن أن تفضي إلى غياب تساوي الفرص وتحرم الدول من الوصول إلى المواهب وتقوض العقد الاجتماعي.
ولابد من مواجهة تلك التحديات من خلال توفير خدمات أساسية ذات جودة مرتفعة، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية وتأمين معاشات التقاعد. وستكون هذه الخدمات ضرورية في توفير فرص حقيقية في ظل البيئة الاقتصادية المتغيرة وزيادة حركة التكامل الدولي في الدخل والثروة وإمكانات المستقبل.
أما بالنسبة لتحفيز النمو الاقتصادي بشكل عام، ثمة إجماع بين خبراء الاقتصاد على ضرورة اعتماد كثير من السياسات الاقتصادية. والاستراتيجية الأساسية بسيطة من الناحية النظرية، رغم صعوبتها السياسية، وهي تعزيز استثمارات القطاع العام على المديين القصير والمتوسط مع تعزيز كفاءة هذه الاستثمارات ووضع خطة لتقوية الوضع المالي على المدى الطويل.
وإذا استمرت الثورة الرقمية في المستقبل بالوتيرة ذاتها التي كانت عليها خلال الأعوام الماضية، فإن هيكل الاقتصاد الحديث ودور العمل نفسه ربما سيحتاج إلى إعادة تفكير.
إيريك برينجولفسون
أستاذ علم الإدارة في كلية «إم. آي. تي. سولان»
أندرو مكافي
خبير بحثي في مركز «إم. آي. تي. للأعمال الرقمية»
مايكل سبنس
أستاذ الاقتصاد والأعمال في كلية «ستيرن للتجارة»
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال