أ. د. عبد الرضا عليّ –
تنويه
في الآخر من نيسان من العام 2012م، انتقل إلى الرفيق الأعلى (في مدينة سانت لويس بأميركا) الشاعر الكبير، والمترجم الحاذق، والكاتب الحصيف رشيد ياسين بعد أن أصيب بمرضٍ عضال لم يمهله طويلاً.
ورشيد ياسين الذي ولد في بغداد عام 1929م، كان من مجايلي الريادة، وأقرب شاعر إليهم، وإن لم يحسب من هذا الجيل تعسّفاً، لكنّه كان منافحاً عنهم، وعن دعوة التجديد التي اضطلعوا برفع رايتها في الشعر تحديداً، ومن يعود إلى تلك البدايات، يجد أنّ رشيد ياسين كان صديقاً حميماً لبدر شاكر السيّاب (1926 – 1964م)، و محمود البريكان (1931 – 2002م)، وكان قريباً جدّاً من حسين مردان (1927 – 1972م) و بلند الحيدري (1926 – 1996م)، فضلاً عن علاقته الحميمة بشاعر العرب الأكبر محمّد مهدي الجواهري (1900؟ – 1997م)، فقد عملا سويّة في مجلّة ” الجندي” السوريّة منذ العام 1956م.
في العام 1997م وصل صنعاء باحثاً عن عمل في جامعتها، ومنذ ذلك الحين توطّدت عرى الصداقة بيننا، بعد أن عملنا في كليّة واحدة، وأقمنا في سكنٍ جامعيّ متجاورين، واشتركنا في أكثر من مناسبة ثقافيّة وحضرنا، مؤتمرات ومهرجاناتٍ معاً، وكنّا نتزاور عائليّاً، ونسافر إلى عدن وغيرها معاً.
وفي أمسيةٍ من أماسي العام 2002م (على ما أتذكّر) زارني، وكان يحملُ معه دفتراً من الأحجام الطويلة نسبيّاً، وقال: هذه مجموعتي الشعريّة المخطوطة “الدمية الحزينة” سأتركها عندك لتكتب عنها مقدّمة نقديّة على ضوء ما ستكتشفه فيها، وعليك أن تحافظ عليها فلستُ أملكُ غيرها.
وقد فعلتُ، وسلّمتُهُ المقدّمة بعد عشرةِ أيّام، واحتفظتُ بنسخةٍ منها، لكنّه لم يقم بعرض المجموعة على ناشرٍ يمني، لأنه أراد أن يطبعها في دمشق، أو بيروت لاعتزازه بها، ثمَّ افترقنا نهاية العام 2001م، بعد أن غادرتُ اليمن قبله إلى منفايَ الاختياري الحالي، ثم غادر هو صنعاء في العام 2004م، متّجهاً إلى أميركا، وظلّ فيها حتى انتقاله إلى عالم الخلد دون أن ينشر تلك المجموعة، لكنّه نشر على موقعه الخاص، وفي بعض المواقع الرقميّة التي تُعنى بالإبداع الشعري الكثير من قصائدها، وحين عدتُ إلى المقدّمة (هذه الأيّام) وجدتُها تستحق أن تكون أفضل كلمةٍ تأبينيّةٍ في ذكرى رحيل صديقي الشاعر الرائد الكبير، والمثقّف الموسوعي البهيّ، وفيلسوف علم الجمال السامق رشيد ياسين، لذلك اقتضي التنويه*.
***
صارَ عُرفاً ( إن لم يكن لزاماً ) في الخطاب النقدي أنَّ القصيدةَ التي تحملُ روح الإبداع قادرة على جذب متلقيها إلى التواصل معها بانشداد وجداني: سبراً لأغوارها، ووقوفاً على دقائق حلمها المثير الذي يعني الوصول إلى تفسير رؤياها،أو فضّ أختامها السريّة التي قادتها إلى مرحلة الإدهاش.
والوصول إلى مرفأ الإدهاش ليس سهلاً أبداً، وإلّا لحطَّ جميع النظّامينَ رحالهم فيه، أو أراحوا ركابهم عنده، كما أنّه ليس مغامرةً يصل إليها المجازفون، ولا مقامرةً قد تُصيب في إحدى دوراتها الهدف، لأنَّ وراء هذا المرفأ ثقافة واسعة كوّنتها مرجعيّات شتّى: من أفانين إنسانيّة وإبداع متنوّع، وأسفار غرست في لاوعي متلقّيها (المبدع) سؤال الكيف المبتعد عن السائد راغباً عنه، والمقترب من المختلف راغباً فيه، فضلاً عمّا كان لفضاء هذه الدنيا العريضة وبلدانها المختلفة (وإن شكّلت منافيَ أحياناً) ولزمان حركة المبدع فيها من إضافات، وغير ذلك.
إذاً، فالإدهاش يرتبطُ بالملهَم (بفتح الهاء) العظيم، المكتسِبِ (بكسر السين) من
عالمه ما ليس بمقدور أحدٍ أن يدّعيَ معرفتهُ، من اطّلاع ثقافي واسع يزدادُ بمرورِ الأيّامِ، جاعلاً متلقّيه يعيش المتعةَ مرّتينِ: الأولى وهو يمضي مع ما يثيره النصّ من عواطف ليست مصنوعة، والثانية مع ما يقدّمه النصّ من منجزٍ جماليّ حريٍّ بالإشادة.
لا شكَّ أنَّ هذه المنطلقات التي بدأنا بها لم تجئْ من فراغ، ولا كانت تنظيراً عامّاً يسبق التطبيق، ويمهّد له؛ إنّما قادتنا إليها مجموعة رشيد ياسين “الدمية الحزينة” فقد كانت سُلافة الروح التي أشعرتنا بنشوة غامرة تمكّنتْ من بسط نفوذها، أو وجودها علينا برضا وارتياح تامينِ.
فلغة رشيد ياسين باهرة لا شبيه لها،فيها من العمق ما لا يسمح لأحد أن يقيم عليها دعوى الوقوف عندَ سطحِ البحر،أو ضفافه،وفيها من السهل الممتنع ما يعجز العارف الخبير عن تقليده،وفيها من الرقّة وجمال التكوين ما يجعلها تقدّم نسيجاً باهراً في الأداء والتوصيل ينمّ ُ عن اقتدارٍ يقتربُ من دائرةِ العبقريّةِ أحياناً، وليس هذا بالقليل.
***
إنَّ بعضَ قصائدِ هذه المجموعة لتسمو فوقَ أيّ كلامٍ نقديّ يُقُدّمُها، أو يحاولُ الاقترابِ منها، وليست مبالغةً إن قلنا: إنَّ جلَّ هذه النصوص لا تحتاج إلى من يتحدّث عنها بمقدار ما يهمّها هي أن تتحدّثَ عن ذاتِها كما في قصائد “الدمية الحزينة” و” بابا نؤيل” و “بغداد والحصار”.
تتألّف القصيدة الأولى من حواريّة تدور بين بطل القصيدة والدمية الحزينة، وهما ينتظرانِ سيّدةَ البيت الغائبة، لكنَّ هذه الحواريّة استخدمت تقنية “المونولوج الدرامي “،فكلاهما (البطل والدمية) يخاطب الآخر داخليّاً:
ـــ قالت ستغيبُ ثلاثةَ أيّام!
أترى كم يوماً مرّ؟..
وهذا الصمتُ..أتشعرُ كم هو قاس ٍ ومخيف؟!
يدهشني أنّكَ تمضي لتنام!
أمّا الثانية فهي قصّة شعريّة مؤثرة، فيها كل تقنيات السرد الروائي التي نكاد نفتقدها في شعرنا العربي بوجهٍ عام، فهناك البيئة المرسومة بدقّة والشخصيّات والأحداث والمونولوج الداخلي، ثمَّ الخاتمة المفاجئة التي تملأ النفس لوعة ً وأسى. وليس بالقصيدة التي صيغت باقتدار شعريّ مدهش، ما يمكنُ حذفه، أو إضافته، فكأنَّ اللغة باتت هنا عجينة طيّعة بيد الشاعر يصوغها على الوجه الذي يريد.
وتشفّ ُ قصيدة “بابا نؤيل” عن التعاطف العميق الذي يحسّه الشاعر إزاء حرمان الأطفال وأحلامهم الصغيرة المجهضة، لا في العراق المحاصر (وقت كتابة القصيدة) وحده، بل في كلِّ بقعةٍ من الأرض يسودها الظلم الاجتماعي، وتتفاوت فيها حظوظ الناس تفاوتاً كبيراً بين الشدّة والرخاء. فبطلة القصّة طفلةٌ فقيرة تنتظرُ ليلةَ عيدِ الميلاد بلهفة ٍلعلّ بابا نؤيل يأتيها بثوب ٍولعبة، كما يفعل مع غيرها من الأطفال. وهي تخشى أن يجدها نائمة فيغضب ويحجب عنها هديّته، ولكنّها لا تستطيعُ مغالبة النعاس، لأنّها أمضت يومها كلّه في العناية بأمّها المريضة. وأخيراً تقرّرُ أن تتركَ له رسالة تعتذرُ فيها إليه وتحدّثه فيها عمّا تحلم به،وما تحتاجه أمّها من دواء. وفي اللوحةِ الثانية من القصيدة تحلم الطفلة أنّ بابا نؤيل قد جاءها فعلاً، وبدّدَ مخاوفها بابتسامته الحانية، وحمل إليها كلَّ ما تصبو إليه نفسها، فتقبّل يديه ممتنّةً وتجهشُ بالبكاء؛ ولكنّها إذ تستيقظ في الفجر تكتشف أنّ ما رأته ليسَ إلّا حلماً، وأنَّ بابا نؤيل لم يأت،ولم يقرأ رسالتها الموضوعة بجانب الشبّاك:
في غبشِ الفجرِ استبدّت نوبةُ السعالْ
بأمِّها فانتفضت مذعورةً،
وفجأةً تذكّرتْ قنّينة الدواءِ والهدايا
فالتفتتْ ملهوفةً تبحثُ في الزوايا..
لكنّها لم ترَ في العتمة ِ من شيءٍ
سوى الحطامِ والأسمال!
وأطلق ْ شهقة َحزنٍ ومضتْ ترنو بلا حراكْ
حينَ رأتْ وريقةً مطويّةً بجانبِ الشّبّاك!
والقصيدة الثالثة وصفيّة على نحو ٍمدهش،ففيها يصوّرُ بغدادَ (فاتنة الزمان) مرّتينِ: الأولى يوم كانت ترفل بالحريرِ والنضار، وتصغي إلى شاعرِها الأثير (النواسي)، والثانية يومَ أن حلّتْ بها فاجعة الحاضر، فتهاوى تاجها الوضّاء في الوحلِ. إنّها صورة في محورين ِفي الأصح، تكشفُ عن التضادّ المأساوي بين بغدادَ المتألّقةِ التي كانت عاصمة َ الدنيا ذات َيومٍ، وبغداد التي تعاني اليوم من حصارٍ رهيب (وقتَ ذاك) وتُسحبُ عارية ً فوقّ الجمر والقتاد:
أيّ مصير ٍ فاجع ٍهذا الذي أراهْ؟!
أبناؤكِ الأباه
أبصرتُهم في مدن ِالأغرابْ
أذلّةً تُسدّ ُ في وجههم الأبوابْ!
بناتكِ المشرّدات في بِلادِ الله
فيهنَّ من تثوي بلا قوتٍ على الرصيفْ
ومَنْ تبيعُ العِرضَ بالرغيفْ
لكي تردَّ الجوعَ َعن أطفالها..
أوّاه،يا بغدادْ!
إنَّ شاعراً بقامةِ رشيد ياسين موهبةًواكتساباً، ليحقّ له أن يتبرّمَ ممّا آلت إليه الثقافة من رخصٍ على مستوى الكلمة في التقويم، فأعلت (وقتَ ذاك) المتشاعرين مقاماً، وعتّمتْ على صنّاع ِالإبداع الأصيل انتشاراً، لكنَّ هذا التبرّم، وإن بدا وكأنّه يشكّل إحباطاً في الذاتِ الشاعرة، إلّا أنه ظلَّ ينأى عن مجاراة الزيف محتفظاً بالقيم العليا السامية،وإن تخلّى عنها الآخرون:
لم أدّخرْ لغدي ولا افتتنت
نفسي بما افتتنت به البشرُ
وأبتْ طباعي أن أجاريَهم
وأحيدَ عن قيم ٍ بها كفـروا
إنَّ بطل قصيدة ” تأمّلات حزينة” يعاني من إحباطٍ موجعٍ، فهو يحسّ بأنّه لم يتّخذ لخريفِ العمرأهبته، ولم يعد قادراً على مقارعة العالم الغاشم بما لديه من أسلحة؛ وما سلاح الشاعر الحق في دنياه؟ إنّه ليس المال، ولا السلطة، بل الكلمة النابعة من القلب:
أنا في خريفِ العمرِ يقعدني
عجزي ويملأ روحيَ الفرق ُ
أأقارعُ الدنيــا وأهـــزمهـــا
وأنا سلاحي الحبرُ والورقُ؟
إنَّ الشاعر ليغلو في تشاؤمه، وممّا يضاعفُ هذا التشاؤم أنّه يواجه غربةً مزدوجة :غربة الروح، وغربة المكان (المنافي)، وهذا ما تصوّره “لحظة يأس” التي تتميّز بصياغةٍ كلاسيكيّة محكمة تذكّرنا بموروثنا الشعريّ العريق. ورشيد ياسين لا يجدّ بأساً في المزاوجة بين اساليب القدماء والمحدثين في الكتابة الشعريّة، لأنّه يرى – ببساطة – أنّ التراثَ الشعريّ العربيّ الذي عكفنا على قراءته واستيعابه عشرات السنين يؤلّف جانباً أساسيّاً من نسيجنا الوجداني، ومن السذاجة أن يتوهّمَ أحدٌ أنّ الحاضر منبتُّ الصلة بالماضي، وأنَّ علينا بالتالي أن نكبح أصداء التاريخ التي تتردّد في أعماقنا لنجاري بعض المفاهيم السائدة. وعلى العموم فهو يرى أنَّ القصيدة تولد مكتسيةً ثوبها الإيقاعي وتختار لنفسها الشكل الذي يلائمها.
وتنتمي قصيدة “في لحظة يأس” إلى الفترة نفسها التي كُتبت فيها قصيدة “خواطر حزينة”، فكلتاهما تطفح بالمرارة الناجمة عن إحساس الشاعر بأنّه أخفقَ في حياته العمليّة لأنه اختار أن يتمسّك بالقيم والمثل العليا في عالم تسوده الوصوليّة والرياء والغدر؛ ولهذا الشعور ما يماثله في أعماله الشعريّة السابقة،ففي مجموعة “الموت في الصحراء- 1986م” نقرأ:
كنتُ طفــلاً في عالـــمٍ يتعاطى
من فنونِ الريـاءِ ما لا أجــيدُ
لو كغيري استترتُ خلفَ قناعٍ
ما بدا أنّني الغريـبُ الوحيـدُ
أو كغيري حملتُ قيدي بصمتٍ
وخضوع ٍ ما أنكرتني العبيـدُ
إنّها غلطتي..فلـو كنـتُ مســخاً
لم ينلنــي أذىً ولا تشـــريدُ.
إحالات
* ولد في بغداد 1929م، وأنهى دراسته الابتدائية و الثانوية فيها، ثمَّ أتم دراسته العالية في معهد الفنون المسرحية في صوفيا (بلغاريا) عام 1969 ثم حصل على ما يعادل الماجستير من المعهد نفسه عام 1971.، وبعدها نال شهادة الدكتوراه في فلسفة علم الجمال من جامعة صوفيا.
له المؤلّفات المنشورة الآتية:
• أوراق مهملــة. مجموعة شعرية صادرة عن اتحاد الكتـــاب العرب في دمشق عام 1972م.
• الموت في الصحــراء. مجموعة شعرية صادرة عن دار الشؤون الثقافية في بغداد عام 1986م.
• من أوراق يوليسس في رحلة الضياع. مجموعة شعرية صادرة عن دار الخيال اللبنانية في بيروت عام، 2002 م.
• فارس الموت. مجموعة شعرية صادرة عن مركز عبـادي للدراسات والنشر في صنعاء عام 2004 م.
• دعوة إلى وعي الذات. دراسات ومقالات نقدية في المسرح صادرة عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق عام 2000م.
• الثعلب الذي فقد ذيـله. دراسات نقدية في الشعر و الشعراء. صادرة عن مركز عبادي للدراسات والنشر في صنعاء عام 2004م