بقلم: علی معموري –
حين ترتبط الصراعات القائمة في البلد بالهويّة الدينيّة، تبرز أهميّة الرموز والعلامات والأيقونات البصريّة أكثر من أي وقت آخر. فيحاول كلّ طرف من الأطراف المتنازعة أن يحافظ على هويّته من خلال ابتداع مجموعة من العلامات بخاصة البصريّة منها والهجوم على علامات الآخر الرمزيّة. ففي تلك الأجواء، لا تبقى صورة قائد ديني أو شخصيّة سياسيّة ما مجرّد صورة، بل تحمل هويّة طائفة أو فريق بأكمله. وفي هذا السياق يمكن فهم ما حدث من صراع حاد ما بين نوّاب في البرلمان العراقي حول رفع صور الإمامَين الخميني والخامنئي في شوارع بغداد.
تمثّل تلك الصور من الناحية الهرمنيوطيقيّة (التأويليّة) الصراع القائم ما بين الهويات الدينيّة في العراق. فحين تلجأ فئة من الشيعة إليها لتبرز “ظهرها القوي” في وجه التحدّي المتصاعد في خضمّ الصراع الطائفي القائم، يفهمها السنّة العرب على أنها إعلان لسقوط العروبة في العراق وإلغاء لمشروع عراق مستقلّ ومتمايز عن جواره غير العربي. فما حدث في البرلمان العراقي في 26 آب/أغسطس الماضي من مشادة كلاميّة وكذلك بالأيدي، بسبب رفع صور القادة الإيرانيّين في بغداد، لم يكن مجرّد خلاف سياسي بين قائمتَين ذات اختلاف في توجّهاتهما السياسيّة بقدر ما كانت تعبّر عن صراع العلامات والرموز في الحرب بين الهويات الدينيّة المتأزّمة في البلد.
وعليه، يحاول كلّ طرف من الأطراف استغلال المجال العام للتعبير عن وجوده وقواعده التي تميّزه عن غيره. لذلك لا يهمّ الطرفَين ما يُنشر من رموز عامة لا تمثّل وجهة الخلاف والتمايز مع الآخر، بل تركّز على ما يثير الآخر ويجعله منفعلاً أو مستسلماً أمام سلطته الرمزيّة. وفي هذا السياق يمكن فهم محاولة البعض اختيار صور الإمامَين الخميني والخامنئي بدلاً من صور السيّد علي السيستاني في الجانب الشيعي، وصور رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان والرئيس العراقي الراحل صدّام حسين بدلاً من شخصيات سنيّة معتدلة في الجانب السنّي.
وكانت سلسة طويلة من الصراعات على الرموز والعلامات بين الهويات المتصارعة في العراق، قد سبقت ما حدث. فقد بدأ الخلاف على تسمية 20 آذار/مارس 2003، هل هو يوم احتلال أو يوم تحرير للعراق؟ واستمر الخلاف في ما خصّ اختيار علم عراقي جديد، فقد شعر بعض الأطراف بتجاهل لهويّته والبعض الآخر بتجاوز لهويّته بسبب استخدام رموز مختلَف عليها.
واختلف العراقيّون أيضاً حول عمليّة تطهير الشوارع من مظاهر فترة ما قبل العام 2003. فقد حاولت جهات في الحكومة العراقيّة إزالة نصب قوس النصر في بغداد في العام 2008 بوصفه علامة للحروب التي قام بها الرئيس العراقي الراحل، ما أثار غضب فئات من الشارع العراقي. وفي النهاية رأت القوات الأميركيّة نفسها ملزمة بالتصدّي لذلك ومنع عمليّة إزالة النصب. كذلك أزيل نصب الطيار عبد الله لعيبي من ساحة المسرح الوطني في بغداد، ما أثار حفيظة فئات من الشعب العراقي. وكان الطيار لعيبي قد ضحّى بنفسه في عمليّة انتحاريّة في خلال الحرب العراقيّة–الإيرانية لمنع طائرات إيرانيّة من إكمال مسارها وتنفيذ عملياتها الهجوميّة مستهدفة الأراضي العراقيّة.
وفي هذا السياق تُفهم عمليّة رفع صور القادة الإيرانيّين في إطار عمليّة سيطرة إيرانيّة على العراق، وليس كمجرّد صور شخصيات دينيّة شيعيّة ترفع بحسب ما قال رئيس التحالف الوطني إبراهيم الجعفري. وكان قد سبق رفع تلك الصور في بغداد، انتشار كثيف لمثيلتها في البصرة وهي أكبر مدينة عراقيّة بعد بغداد تقع على مقربة من الحدود الإيرانية. وقد أثار ذلك ردود فعل انتقاديّة واسعة النطاق من قبل أهالي المدينة.
وقد تابع الناشطون العراقيّون أنباء الصراع على تلك الصور في البرلمان العراقي بحماسة فائقة. فقد اعتبر الكاتب العراقي رشيد الخيون أن الخميني والخامنئي هما رمزان سياسيّان لإيران، ولا يمكن رفع صورهما في المجال العام في العراق. من جهته اعتبر رئيس مؤسّسة “مدى” الإعلاميّة فخري كريم بأنه وعلى الرغم من العلاقة التاريخيّة والاستراتيجيّة مع إيران، إلا أن رفع صور قادتها في العراق ينافي المصلحة الوطنيّة. وقد انتشرت الأنباء المتعلّقة بهذا الحدث عالمياً وإقليمياً ونشرت في صحف عالميّة وإيرانيّة.
ويبقى أن هذا الحدث يمثّل ضعف الحكومة في حماية المجال العام وجعله مكاناً آمناً يشعر كلّ المواطنين بالانتماء إليه. فحيث يعبّر رئيس الحكومة بصراحة عن مبادئه ومواقفه الدينيّة والحزبيّة في خطاباته وحواراته، من الطبيعي أن تتأزّم عمليّة إدارة المجال العام وتؤدّي إلى استغلاله من قبل أصحاب السلطة بأشكال مختلفة
Read more: http://www.al-monitor.com/pulse/ar/contents/articles/opinion/2013/09/iraq-identity-crisis-symbols.html#ixzz2f99QvArz