عهد فاضل
تمثال لأبي الطيب المتنبي في بغداد
يُحاكم الشعراء في العادة، على علاقتهم بالسلطة، أي سلطة. ولو أن في الغرب المسألة مختلفة بسبب قلة الاشتباك بين المفهومين. حيث يعود الاشتباك النظري ما بين السلطة والشعر، في العالم العربي، إلى مرحلة صعود الفكر القومي والاشتراكي. حيث عملت الثورية ومقولات التغيير على جعل التجربة الشعرية إما مضادة للسلطة أو فوضويةً تتعامل مع مفهوم الدولة بعدم اعتراف ضمنيّ. فتحول، بضرورة قواعد الاشتباك، إلى عدم اعتراف متبادل. الأصل في توتر العلاقة مابين السلطة والشعر، ذو أساس رومنسي في منشئه. حيث تأججت النزعة الفردية والرغبة بتغيير العالم والخروج من سلطة الهيكل الاجتماعي. ومع أن الأساس الرومنسي في التجربة الشعرية العربية كان لا يتفق مع سياقه الغربي، حيث تجلت الرومنسية العربية بالبكائيات والندب والانعزال، على عكس أصلها الغربي الذي هو استقلال النظرة الذاتية عن المجتمع والرغبة بتغييره، إلا أن الفكر السياسي الثوري الذي ساد الثقافة العربية مطلع القرن العشرين، أفاد من هذا الخلل الجوهري، لزيادة نسبة الضغط على السلطة، التي لطالما حلم بانتزاعها، فبقي من الأساس الرومنسي، فقط، الخروج من سلطة المؤسسة الاجتماعية العليا ممثلة بالدولة، أما الأساسات الأخرى فقد اختفت وغابت تحت رداء سميك من الثقافة الحزبية.
في الواقع، كان الصراع على السلطة هو السبب الأقوى لتصوير العلاقة ما بين الشعر والسلطة على أنها علاقة غير شرعية. لم تكن الرومنسية العربية مسؤولة عن هذا التوتر ما بين المفهومين. بل على العكس، كانت الرومنسية العربية رضوخية الطابع، غنائية، ونزعتها الفردية ذات أصل عاطفي لا نظريّ. وبالتالي فإن المسؤول عن هذا الاضطراب هو مجرد صراع على السلطة وتصوير الأخيرة هدفا مشروعا للنشاط الشعري. والغريب في الأمر أنه وبعد اضمحلال أثر الثورية أو انعدامه، إلا أن آثارها الأخلاقية لازالت تعمل عملها بقوة.
المشكلة الثانية هي أن الأدب السياسي العربي، والذي بمجمله نتاج صراع ذي طبيعة حزبية أو ايديولوجية، أفاد هو الآخر من الخلل البنيوي الذي وقعت فيه العلاقة ما بين الشعر والسلطة، فطوّر آلية الاشتباك مع الأخيرة، ليجد الطرفان أن الطريق الاجباري الوحيد أمامهما هو النفي المتبادل.
لم يكن أصل الصراع ما بين السلطة والشعر، ثقافياً. تأثرت به التجربة الشعرية العربية ولم تعد تعرف كيف تتخلص منه. ومع أن الطرفين ومنذ سنوات طويلة توقفا عن دق طبول الحرب، وباتا أقرب الى الانسجام أو أقله عدم التناقض، إلا أن العلاقة بينهما ما زالت تخضع للآثار المشوهة التي ورثتها من الصراع الحزبي للوصول الى السلطة. وهاهي عرضة لثأرٍ وهميّ موروث يتحكم في طبيعة العلاقة الآن. وإذا كانت أسباب التوتر قد زالت، وإذا كان الأساس المفهومي للصراع ما بين الشعر والسلطة، في التجربة الشعرية العربية، ضعيف البناء، فإن الجدار العازل بينهما، الآن، نفْسيٌّ، لا أكثر. ولم يعد يمتلك أساسا صلباً للحشد والتعبئة. وليس أكثر من تناقضٌ سطحيّ أدى الى اشتباك سطحيّ.
الصراع الحزبي أثّر في التجربة الشعرية العربية أكثر من مقولات التجديد نفسها.. في أحيان كثيرة، وليس أمامها إلا النمو من داخل التجربة كنشاط لغوي عالٍ، متخلصة من الأساس الركيك الذي وجدت نفسها جزءا من هندسته المضطربة. وما الصراع ما بين السلطة والشعر إلا شكلا من أشكال هذا الاضطراب الذي شَيْطَن الدولة وجعلها كابوساً يقلق نوم القصيدة ويقضّ مضجع الشاعر