الروائية سميرة المانع
حفلت حياة الأدبية للسيدة المانع بالعديد من النشاطات، فقد أصدرت ست روايات هي السابقون واللاحقون 1972، القامعون 1997، شوفوني…شوفوني 2001. مَن لا يعرف ماذا يُريد 2010 والقصص القصيرة، مجموعة الروح 1999 وغيرها. شغلت سكرتيرة تحرير مجلة (الاغتراب الأدبي) الدورية الصادرة بلندن من 1985 حتى 2002، ترجمت مسرحية النصف فقط 1984 الى الانكليزية قرئت على المسرح جامعة- بافلو- نيويورك، في 1990 ساهمت في برنامج الكتابة العالمية في جامعة ( أيوا ) في الولايات المتحدة الاميركية، اشتركت في مهرجان المؤلف العالمي بتورنتو – كندا، 1990. لا تخفى الصعوبة اثناء محاولة الإلمام بروايات المنفى كافة، كون اصحابها تفرقوا في انحاء المعمورة ولفترات مختلفة. مع هذا لا بدّ من المحاولة، ولو بصورة عامة، لإعطاء صورة مقربة عن ثيمات جوهرية لبعض موضوعاتها علها تساعد في تتبع مساراتها وفهم مضامينها، باختصار كبير، دون ذكر للروايات والاسماء، من أجل الانصاف في التقييم. ولحسن الحظ، معظم الكتاب المنفيين اليوم موجودون في بلدان ديمقراطية مهتمة بحقوق الانسان حيث ميزة حق حرية التعبير محترمة. سييسر هذا لنا تتبع تطور ما جرى لنصوصهم والتغييرات التي حفلت بها نتيجة العيش بشكل فيه الكثير من الشفافية والوضوح
سميرة المانع
أمضى الروائي الايرلندي الشهير جيمس جويس ثلاثين عاما في الغربة، بين باريس وبرلين وروما، بعدها قرر العودة إلى بلده الاصلي ايرلنده. عندما سُئل عن شعوره وهو يعود بعد فراق ثلاثين عاما، أجاب: وهل أنا فارقت ايرلندة يوما؟!
بالمثل هل فارق العراقيون المغتربون العراق يوما ؟ ألم يتابعوه من أوّل نشرة أخبار صباحية حتى آخر نشرة أخبار مسائية، وهم يتلوعون بين قصفٍ، وحزام ٍناسف، سيارة مفخخة وتجفيف أنهر وفصل رؤوس نخيل البصرة عن اجسادها ؟! قلوبهم واجفة ، وكم منهم من عانى من أمراض قلبية، وأعصاب تالفة، وعيون ممتلئة بالسهر والقلق والتطير.
يُخطيء مَن يعتقد بأن المنفيين أسعد حالا في الغربة لانهم بعيدون عن المآسي. الواقع إنهم يعيشون المآسي بالضعف، كونهم يقارنونها بما هم فيه، فتتضخم كما تتضخم نقطة سوداء على قماش ابيض.
يقال “المنظر المتكرر لا يثير الانتباه” وهذا ما يعاني منه الغريب، لان الاشياء الجديدة تصدم وتستفز حواسه على الدوام. بسبب هذه الحيرة يلجأ إلى الماضي الذي أصبح بدوره غريبا،أو كما يقول كاتب انكليزي :”الماضي وطنٌ غريب”. الحواس في بيئتها الاصلية تتواطن مع ما ترى وتسمع وتلمس وتتذوق، لكنها في الغربة مستفزة دائما لانها في صراع اشبه ما يكون بـ “صراع البقاء للاصلح”. نتيجة هذه الحيرة، لجأ القصاصون العراقيون المغتربون إلى براءة الطفولة في البداية.
ولكن قبل التمعن بهذه الثيمة لابدّ لنا من العودة باختصار إلى بواكير السرد العربي المغترب، وكيف أثر في السرد العراقي بعدئذ، وهذا شيء مهم خصوصا ان الرواية بمفهومها الحديث، انحدرت الينا من اقطار عربية، تأليفا وترجمة، والاخيرة تاثرت بالرواية الاوربية كما يظهر. تتبع ناقد حديث مسار السرد الروائي المغترب، وقسمه إلى مراحل:
المرحلة الاولى وصول البطل الروائي إلى اوربا دون معرفة بلغة البلد أو تأريخه أوجغرافيته كما في رواية توفيق الحكيم ( عصفور من الشرق) الصادرة في الثلاثينات من القرن الماضي.
المرحلة الثانية يكون البطل الروائي قد ألمّ باللغة الاجنبية كما في قصة يحيى حقي بعنوان ( قنديل ام هاشم) وعاد إلى وطنه ليوفق بين ما تعلمه بالخارج في علم الطب وما يطبق بالداخل من ممارسات شعبية بالأعراف.
المرحلة الثالثة أكثر نضوجا تمثلت برواية الطيب صالح ( موسم الهجرة للشمال) حيث كان البطل مصطفى سعيد يتقن الانكليزية اتقانا تاما قبل وصوله إلى لندن وغادرها ليعيش في بيئته القديمة بالسودان راضيا بالنهار وعائدا إلى صومعته الانكليزية الثقافية في غرفته الخاصة ليلاً.
المرحلة الرابعة هي المرحلة الراهنة، ابطال الروايات المغتربة يعيشون في المهجر فترة طويلة. عليهم أن يتكيفوا بصورة ما . زمن النفي طال لسنوات وسنوات، بالاضافة إلى الشعور بالمجهول الغامض القادم الموجود باعماقهم الدفينة. يتعمق البعد طالما امتدت فترة القمع بالوطن الاصلي متلازمة مع استمرار انعدام الخلاص. فلا غرابة أن يحنّ الكتّاب في البداية، كما ذكرنا، إلى براءة الطفولة وبساطتها. لجأ المغتربون إليها في كتاباتهم الاولى للخلاص من التعقيد ولينجوا من الكآبة، وكأنما اثقلت كواهلهم السياسة وآفاتها.
هنا لا تخفى صعوبة الإلمام بروايات المنفى كافة، كون اصحابها تفرقوا بانحاء المعمورة ولفترات مختلفة. مع هذا لابد من المحاولة، ولو بصورة عامة، لاعطاء صورة تقريبية عن ثيمات رئيسة لبعض روايات منفى علها تساعد في تتبع مساراتها وفهم مضامينها، باختصار كبير، دون ذكر للروايات والاسماء، من أجل الانصاف في التقييم .
لحسن الحظ، معظم كتاب المنفى اليوم موجودون في بلدان ديمقراطية مهتمة بحقوق الانسان حيث حق حرية التعبير محترمة. سييسر هذا لنا تتبع تطور ما جرى لنصوصها والتغييرات التي حفلت بها نتيجة العيش بشكل فيه الكثير من الشفافية والوضوح. سنجد، آنئذ، أنهم في المرحلة الاولى من ابتعادهم عن أوطانهم يكونون كثيري الالتصاق ببيئتهم الاصلية، تراهم أكثر تطرقا لمضامين متعلقة بماضيهم، متذكرين طفولتهم ، أصدقاءهم في المدرسة، الأم، الجدة، المدينة، القرية..الخ. هم تواقون، دوما، في البحث بين ثنايا الماضي كمن يحاول استعادة وضع يتعذر استرداده الآن. خصوصا أن الذاكرة البشرية تحمل الماضي كحقيبة يد متنقلة.
يظل المنفيون متعلقين بها، بطريقة أو بأخرى نابضة بالحياة، كأطفال متصلين بأمهاتهم عضويا عن طريق حبل السّرة. تصبح اللغة هنا عامل تأكيد وتثبيت للماضي، لدرجة أنها قد تفوق حاستي اللمس والبصر. يسرع المنفي للانتشاء أثناء التقاطه نغمة الفاظها، ينطق بها أحد ما قربه، أحيانا. يسمعها، خطفا، أثناء مروره بالاسواق بالبلد الغريب. يسمع كلماتها المألوفة لديه، فتثيره وتستفزه فورا، ليبدأ وعيه باستعادة طفولته وشبابه منتعشا بشكل غريب غامض . يجب ألا ننسى أن الذاكرة ليست حيادية معظم الوقت، فهي تنحو للانتقاء والحجب وطمس اللامرغوب فيه. تبقى متذكرة شمس الاصيل، نبتة الرازقي والورود العطرة وتغض الطرف مبتعدة، قدر الامكان، عن ملامح الانسان القبيحة القاسية والتجارب القديمة المؤلمة المحزنة و هي من دون شك، السبب في هجرة هذا الشخص المنفي حاليا .
تمر السنوات تباعاً، بينما تظل أنباء الاوطان تُقلق المنفيين وهي تزداد سوءا على سوء، سنة بعد أخرى، خصوصا أن خروجهم منها بالدرجة الاولى كان نتيجة حروب أججها طاغية من أبناء جلدتهم أو قمع متزايد لابناء الشعب في الداخل، بالاضافة إلى الفساد، المحسوبية، الطائفية، الفروق الطبقية نتيجة استغلال النفوذ، القسوة وعدم الاحساس بمعاناة الآخرين إذا لم يكونوا من العشيرة واصبحت بعد ذلك الحزب أو جماعة المتنفذين بالحكم. يبدأ الكاتب بالمقارنة بين البلد الحالي الذي يسكنه وكيف عومل فيه، وهو الغريب، وما سبق من تفرقة بين الناس في وطنه الأم . يزداد استحسانه، لقيم جديدة وجدها نافعة، منها ضرورة المساواة بين البشر جميعا، لأنهم سواسية.
بات يتساءل ما جدوى التمايز بين البشر بسبب القومية، الدين، أو الجنس ألخ … وما الذي افادته البشرية من هذا التمايز سوى الحروب وما ينجم عن ذلك من دمار. مع ذلك قد يدرك المغترب تدريجيا أن الشرّ متأصل. وما على ذوي الألباب إلاّ ّ إيجاد الوسائل لدرء خطره وتحجيمه وحجره ما أمكن إلى ذلك سبيلا. وأن ما ذُكر سابقا في بيئته الاولى كان صحيحا وهو في قوله تعالى بالآية : ” وما ابريء نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء …” وكأن النفس هنا عامة ، لا تقتصر على قوم دون قوم. لكن، مما يزيد في الألم آلاماً أنْ يكون خصمك من قومك ودينك وطائفتك ثم يعتدي عليك ويهينك ويضرك دون أي قدر مناسب من الانسانية.
أفكار كهذه، جديدة على بعض كتاب المنفى سرعان ما تكون جزءاً أساساً في كتاباتهم، تبعث هي بدورها نمطاً آخر من التفكير في اكتمال الجذور و الهوية. لا عجب إنْ تطرّقت نصوصهم إلى موضوعات جديدة و معانٍ مختلفة، كالبحث عن الحقيقة والشوق إلى الحرية والعدالة والآخوة الانسانية، مناشدين معانيها بنظرة عالمية للأمور، متوسمين المواطنة وحقوق الانسان على نطاق البشرية جمعاء. يشجعه على ذلك مشاهدة ما توصل وتنبه إليه ابناء بيئته الجديدة بعد قرون من حروب وصراعات وتجارب وتضحيات ابنائها، ليدركوا أخيرا كيف تصبح أوطانهم صالحة للعيش لهم وللاجئين اليها من امثاله.
يتذكر كيف جرت المساواة بينه وبين ابناء الشعب الغريب المتواجد فيه حاليا ليعتبر انسانا وكفى. مدى تأثير المعاملة التي لقيها منهم عندما لم يسأله احد منهم يوما عن دينه أو قوميته، وجلّ ما طلبوه منه في أوراق التسجيل الرسمية ليصبح مواطنا مقبولا ليعيش بينهم ، لا بدّ لهم من أن يعرفوا تأريخ ومكان ولادته ، مع سؤاله في حقل آخر فيما إذا ارتكب جريمة او جنحة ليعرفوا تاريخه الشخصي من ناحية السيرة الذاتية كفرد، حماية للمجتمع منه وتبعا للقانون. يشعر، أحيانا، أثناء استفسار السكان العاديين له عن موطنه الاصلي، لا يكون قصدهم من الاستفسار، معظم الاوقات، سوى معرفة مقدار صلاحية هذا الوطن للسياحة والسفر في العطل السنوية بالمستقبل لهم. هكذا توصل المنفي إلى براءة السؤال حينما يصبح التمسك بالانسان وكفى سمة البلدان التي سافر لها.
أثناء هذه المسيرة الدرامية للروائي تزداد جرأته السياسية واهتماماته العالمية بمضمون الرواية التي يكتبها مع نظرة تأريخية ووجهة نظر قد تكون سياسية او ذات أبعاد روحية جديدة مختلفة عن الآخرين، مفضلا ترك القضية مفتوحة للقارىء كي يتجاوب معها تبعا لاخلاقه وظروفه في النهاية .
بدوره يكتشف قاريء رواية منفى، أحيانا، تأثر كاتبها بأساليب جديدة عصرية، نتيجة المعايشة وتعلم لغات تطلعه على آداب هذه الامم التي استوطنها وتقنيات ادبائها المتطورة الحديثة. ابتعدوا أو كادوا عن الروان و اسلوب السرد القديم البطئ، يحس أن فصوله الآن بدأت تتزحلق بين اصابعه ، متنقلة بيسر بين البلدان والعصور، القفز من بلد إلى آخر بسهولة تامة كما في الهاتف والتلفزيون الحالي، مما يجعل القارئ العصري مشاركا ومتعايشا ليس في وطنه حسب وانما في العالم الفسيح، ولم يعد مقتصرا على شارع واحد أو مدينة معينة مكتفيا بجيرانه وابناء وطنه مختصرا الكون كله بهم . أصبحت النصوص حتى وإنْ لبست لبوس المحلية ذات منحى أخر وإنْ دارت في شارع ضيّق أو مدينة صغيرة.
من سمات الرواية المغتربة أيضا، الابتعاد عن الوصف المبالغ فيه أو الاكثار من الحشو والتكرار والتحذلق. إنها مهتمة بإيصال المعنى بأقل ما يمكن من الكلمات. لا يخلو أسلوبها في نفس الوقت، من السخرية أو الضحك على الذات عن طريق ممارسة اسلوب تيار الوعي. التقنية الادبية التي ظهرت في القرن العشرين لايصال أفكار الابطال ومشاعرهم عن طريق المنلوج والحوار الداخلي وما فيه من مفارقات مسلية / مؤسية فيما يعالج من مسائل.
يتحقق التفكيك والكولاج في سرد الرواية، أيضا، بشكل طبيعي بسبب مظاهر عيشه ووجوده في بيئة عصرية تنقله وهو في غرفة الجلوس إلى ما يجري في اليابان وغيرها، فيتغير نمط السرد عنده، حتى قبل ان يقرأ كتاب الناقدة والكاتبة الاميركية (آني ديلارد)في كتابها ( العيش بالحكاية ) الصادر سنة 1982 حول الرواية اليوم والتي تؤكد فيه قائلة : ” لا شيء يمثل السرد الحديث أكثر من تشظيه لتمزيق النموذج السردي . مثلما تزيل الحركة التكعيبية بالرسم أثاث غرفة كاملة فتجعل منها تسعة اقدام مربعة لقماش معد للرسم الزيتي.
تأخذ الرواية خمسين سنة من حياة انسان فتقطعها ثم تلصقها ببعضها في حدود شكل زمني، وهذا هو الكولاج السردي…” وتضيف الناقدة : “عالج جيمس جويس المنفي- الذي بدأتُ اليوم كلمتي به – بقطع السّرد في رواية (يوليسيس ) ، فوجهة النظر في الرواية تتغير وتتداخل لعدة حكايات، سؤال وجواب الخ.. حصل هذا بعد 163 سنة من ظهور روايات الكاتب( شترن ) المولود بايرلندا سنة 1713 الانكليزي المعروف بشهرته في معالجة موضوع الزمن . كان شتيرن في نظر الشاعر الألماني جوته : ” من أكثر الاشخاص تحررا في القرن الذي عاش فيه ” . أما الكتاب المعاصرون الجدد بعد جيمس جويس فقد دفعوا بالسرد بعيدا بحيث اصبح مقسما إلى اجزاء صغيرة كفصول للكتاب وغالبا ما أعطوها عنوانا أو رقما للفت الانتباه اليها.
كل هذه المستحضرات التجميلية هي للسرد المتشظي في الرواية. هكذا اصبحت هذه التقنية مقبولة تمارس باعتيادية تامة فلا تلاحظ وتنتقد، مثلما لا تثير استغرابنا وصلة تركيبية مقطوعة اثناء مراقبتنا للتلفزيون…. وفي حالة استعمال التقطيع أو ما يسمى بالكولاج يستطيع الكاتب، عادة، خلق عالم مبعثر بلا احساس وبالتأكيد إنه غريب ” بدورنا لا ننسى أن العالم ، في الماضي واليوم ، يتميز بهذه المواصفات رغم اختراق الآفاق والقفز على الحواجز القديمة بسبب الثورة التكنلوجية الحديثة. يظهر في الفن الروائي أيضا، وكما نرى، اشراك أنواع فنية أخرى كالاغاني والشعر والقصة داخل القصة متحدثا مع القاريء الملول، يشده إليه، عارفا ومدّركا بحالة هذا المسرع العجول، الذي لا وقت له لا سيما بوجود الالة والانترنيت والملاهي الاخرى.
يذكر د. شاكر مصطفى في كتابه ( القصة العراقية المعاصرة) كيف أن ” تطورا اثبت نتائج ايجابية رغم المصاعب التي رافقته، الا وهي الهجرة. أجبرت الحروب والعقوبات الكثيرين على مغادرة البلاد وجعلتهم على اتصال واسع مع التقاليد الثقافية للبلدان التي حلوا ضيوفا عليها. الاتصال المباشر مع الثقافات الغربية بعث القوة في الكتابة العراقية” ويتساءل الشاعر د. شاكر لعيبي في مقالته (هل هناك حقا ثقافة عراقية في المنفى ؟) قائلا:
” ليست إقامة المثقفين العراقيين في اقطاب الدنيا اغترابا سعيدا يتجدد الروح الانساني فيه على الدوام، وليس مهجرا ادبيا قام لاسباب اقتصادية أو ثقافية طوعية كما في ادباء المهجر اللبنانيين..” لكنه يعود فيذكر : ” يمكن القول بوجود علاقة سيمائية ( علامة) بين مصطلحي ( المهجر) و ( الاغتراب)..”
في كل الاحوال، ربما نجد تشابها اليوم بين الكتاب المنفيين وبين ما سمي بادباء المهجر وشعرائه سابقا، اولئك النخبة من اهل الشام حين هاجروا من أوطانهم إلى الامريكيتين ما بين سنة 1870-1900 وبعدها، بسبب تردي ظروفهم والاضطهاد في فترة الحقبة العثمانية. تفاعلت قيم استيطانهم الجديدة بقيمهم الموروثة فتولدّتْ قيم هي، بين بين، إذا صحّ التعبير.
اصبح هؤلاء المهاجرون بعدئذ سببا مؤثرا في نهضة الشعر العربي الاولى فسمي بـ (شعرالمهجر) ممهدين لبروز الموجة الثانية للتجديد الشعري الحديث في أواخر الاربعينات بالعراق وغيره من البلدان الناطقة بلغة الضاد. صاروا آنذاك مجددين حقيقيين ثائرين على الادب القديم الموروث وتقاليده العتيقة بعد زمن الانحطاط والنوم الطويل الذي عاشه العرب بعد سقوط بغداد على يد المغول في منتصف القرن الثالث عشر. أشاع هؤلاء المهاجرون بين القراء ضرورة الاستفادة من تطور الحضارة الحديثة ومراجعة قيم ما سمي بـ(عصر الانوار) المنبثق عنها، نبذ التعصب والتطرف الديني، والتعلم من ادابها وفنونها وعلومها وبث المثل الانسانية التي عانى مفكروها وادباؤها طويلا لترسيخها.. لقد اختار المهاجرون العرب الاوائل الشعر بينما برز النثر والرواية بالذات عند المنفيين اليوم، كما هو مُلاحظ.
تطورت الرواية، فصارت تنافس الفنون الادبية الاخرى وكأنما شعر الروائيون بالحاجة للرواية لمعرفة انفسهم وقومهم وهم يفسرون ويصفون ما جرى ويجري في بلدانهم الاصلية التي فارقوها جسديا بينما ظلت أرواحهم محلقة تطوف فيها، وهم ما زالوا يكتبون، في الوقت نفسه، عن المنفى والعزلة عن العدالة والحرب في القرن العشرين وكما ذكر الناقد المصري المعروف محمد مندور عن هذا النتاج :” إنه واقعي مرتبط بالحياة بعيد عن الخطابية والسطحية الثقافية” . واضيف، إنه منفتح على الثقافات الآخرى ومتفاعل مع الحضارات المتحاورة بشكل جيد، فيه تصوير لتأريخ الوطن ومآسيه حين يصور بشكل بعيد عن تضليل النفس والمؤرخين المتحيزين المتحجرين وعبث السلاطين.
يظهر الوضوح في هذا الادب ايضا لابتعاده عن الخوف فلا يلجأ الكاتب للترميز أو الغموض ، ولم يتحقق هذا لولا ابتعاده عن الرقيب والترهيب في الوطن الام. صارت المغامرة في الغربة ليست للخبز وأنما من أجل الحرية،والثقافة والعلم. يرى روائي كتابة منفى نفسه جزءا من البشرية جمعاء في هذا المجتمع الواسع الكبير بالعالم كله، يتعلم كيف يتطور فن العيش فيه بسلاسة و من دون منّة. يسعى البشر فيه لتوفير كرامة الانسان وحقوقه بعدالة ورحمة قبل اية مواصفات أخرى جربوها سابقا فلم تجلب لهم سوى البلوى والقهر والمآسي في مسيرتهم الطويلة المظلمة. من الواضح أن قوة الكاتب الذاتية، هنا، تلعب دورا مهما في الانتباه لهذه المواصفات، بحيث يتمكن من العيش بصبر وبتحمل للحياة وقسوتها وكأنها تستحق العيش في كل مكان.
نتيجة هذا كله تنحو بعض شخصيات روايات منفى، إلى نظرة تفاهم واسعة للتسامح مع أخوانهم البشر ، صار قسم من الروائيين لا يكتب عن الوطن حسب وانما عن الحياة بمجملها، وكل بطل لا ينظر إليه نظرة شمولية كتابع للآخرين إمعة يقاد دون تفكير منه ،ولكن كفرد مستقل حرّ مسؤول عن نفسه وسلوكه، عن خياراته وتصرفاته وحده. ومَن أحق بهذا التفكير والموقف أكثر من الكاتب العراقي، اليوم، يرى بلده مدمرا متلقيا السهام بالجروح الموجهة إلى صدره والاطراف طيلة الوقت ، وكلها ذات صلة بالكراهيات المفروضة عليه والتي لقن بها ببيئته بشكل اوتوماتيكي. فلا يطلب منه فقط أن يكره الانسان إذا لم يكن مثله دينا وقومية وطائفة إلخ… وإنما أن يكره قسما من أبناء وطنه، أيضا، الذين من المفروض أن يتعايش ويتفاهم واياهم على بنائه، متناسين حكمة قوله تعالى 🙁 يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم) وفُسرت ( لتعارفوا) ليعرف بعضكم بعضا … لا لتتفاخروا. مع هذا، ومع كل هذه المحبطات، يظل المنفي صاحب المشروع الروائي متفائلا، مستشهدا برأي الكاتب الفرنسي المشهور بفرنسا وبلجيكا جورج سيمنون القائل: ” أنا لا أشعر بالغربة لأنّ البشر، أساساً، متشابهون جميعاً” *
*الكلمة التي أُلقيت في”مؤسسةالحوارالانساني” بلندن بتأريخ 29.6.2011
.