الدكتور صباح جمال الدين
ولد جمال الدين في فترة تقلبات وانقلابات سياسية وفكرية حادة، وتخرج من كلية طب بغداد. عاصر الادب العربي الكلاسيكي والحديث متأثراً ببيئته المحلية من الناحية اللغوية والأدبية والاخلاقية ككل ابناء جيله، طوح به الزمان فرأى من الأماكن والبشر ما رفد تجاربه المعرفية، وهذا ما يأمله لنفسه من الحضور.
يقدم الطبيب جمال الدين دراسة علمية تستهدف تأثيرات البناء البيولوجي للجهاز العصبي في المبدع باللغة العربية والأدب العربي المعاصر والمتلقي العربي لإنتاج المبدع، ويوضح مدى عمل الدماغ البشري في كليهما. مع تقديم بعض القراءات الأدبية
الأبداع الادبي من وجهة نظر طبية
بحث الدكتور صباح جمال الدين
لا أبداع بلا ثقافة ولا ثقافة بلا فكر ولا فكر بلا لغة
كلامي يتناول الجانب العلمي الطبي لدماغ الانسان ، المبدع والمتلقي ، وبصورة خاصة بمجال الادب وبصورة اخص الشعر ، وهو قمة جماليات الادب .
اللغة هي الفاظ مشفرة بحروف محدودة العدد بكل لغة، وبالعربية التي تتميز عن باقي اللغات بانها (اللغة الاشتقاقية)، يكون الثلاثي اساس الاشتقاق، وتكوّن كل كلمة ما نسميه (الصورة الدماغية) ومن خواص الدماغ البشري انه يستطيع بالنطق او الكتابة ان ينقل هذه الصور الدماغية الى البشر الناطقين بلغته، وهذه الصور اما ان تكون لمسميات مادية كالإنسان والشجرة او لمسميات معنوية كالصدق والكذب واما (لغة الموسيقى)، وهي لغة لها نفس مواصفات النطق الفيزيائية، فهي ايضا اصوات (ذبذبات بالوسط الناقل)، الحانها كالحروف تتناسب حسابيا (كمفردات الكلام) مع بعضها لتعطي معان مجازية في الدماغ البشري .
والشعر العربي الكلاسيكي، كان يعتمد على القاعدة الثلاثية في تكوينه، القافية والموسيقى او الوزن والمعنى، وبتطور الحياة تطور الشعر، فاقدا قوافيه، ثم رأى بعض الشعراء ان لا ضرورة لموسيقاه، وقد تطرف بعض الادباء تشبها ببعض الادباء الغربيين بما يرونه في عدم ضرورة المعنى ايضا، والبحث بالتراث العربي حتى بدايات القرن الماضي، لا يجد نصا شعريا بدون القافية، لأنها كما يعتقد البعض، جزء من الموسيقى الشعرية، اما الاستغناء عن الموسيقى اي (الوزن) فيجب ان لا ننسى ان (موسيقى الحرف العربي) تضفي على المعنى باللغة العربية لونا من المعاني التي تؤثر في المعنى العام للبيت الشعري، فكل حرف من حروف المباني العربية بالذات يعطي مفاهيم خاصة بجرسها للاذن العربية، ولو رجعنا الى فقهاء اللغة العرب منذ الخليل الفراهيدي، لوجدنا في بحوثهم ان حرف الغين اذا جاء في اول الكلمات العربية يعطي الكلمة معنى الغياب، وحرف النون اذا تلاه الباء اعطى انطباع الظهور، هذا بالإضافة الى خواص حروف اخرى تعطي الكلمات معان او (ظلالا من المعاني) مما لا تجده في اللغات الاخرى، وهذه الخصوصية في لغتنا وخواص اخرى تجعل موسيقى الشعر العربي التي تنبع اصلا من جرس الحروف العربية، ضرورة للوصول الى الابداع الشعري، اي الصور الدماغية الجديدة للمتلقي، (فالأبداع) لغة معناه ايجاد صور جديدة، واللغة وعاء الفكر، فليس من المنطق ان تكون هي الهدف دون الفكر، ان الفكرة واللغة مثل الخمرة الكأس، اذا اخلينا هذا الكأس من خمرته، لن نعطي المتلقي الا كأسا فارغة !!.
نعود الى الطب، دماغ الانسان جهاز بحجم جوزة الهند ، وبشكل نصف الجوزة الاعتيادية ، وبلون الكبد النيء ، وبطبيعة (الجلي) ، خلاياه في كل انسان ثابتة العدد ، بحدود مئة بليون خلية عصبية (في كل انسان) ولذلك فذكاء الانسان لا يعتمد على عدد الخلايا وانما على عدد الترابطات بينها ، وبالتالي الخيوط العصبية ونهاياتها التي تربط الخلايا ببعضها البعض ، وهنالك تدرج في حجم الدماغ من الاحياء البسيطة الى الانسان ، وحقيقة التطور يثبتها تطور كل الاحياء وكل الاجهزة الاخرى . حواس الانسان الخمس لا تعطيه الا خريطة للعالم الخارجي ، وبمعونة المراكز الدماغية العليا يكون الصورة (الحقيقية) للعالم المحيط ، في نقاط التقاء نهايات الاعصاب بالخلاايا الاخرى ، تتكون مواد بالغة الدقة في مقدارها ، بالغة التأثير على الانسان فكرا وتصرفا وانتاجا ، معضمها ذات صفات تشبه الى حد بعيد المخدرات ، بل ان خمسة منها من المركبات الافيونية ، ومادة اخرى تسمى كيمياويا السيروتونين ، تشبه الى حد بعيد مادة ( LSD) التي تؤدي الى الهلوسة ، واعطاء متعاطيها شعورا غير اعتيادي بالخفة والسعادة ، والمادة الثالثة الرئيسية هي الدوبامين ، تجد ادناه خواص هذه المواد ونتائج تأثيرها على الدماغ البشري :
السيروتونين
(هورمون السعادة) مع انه ليس بهورمون
يعمل السيروتونين على :
1 . الهدوء والتفاؤل والرغبة الجنسية .
2 . تقل شهية الطعام بزيادته .
3 . زيادته البالغة تؤدي الى الهلوسة لمشابهته للتركيبه الكيميائية لل( LSD) .
4 . تنظيم درجة الحرارة ، وضغط الدم .
5 . تنظيم النوم (دورة النور والظلام) .
6 . تنظيم الايقاع (السير والنوم والاحساسات الموسيقية والشعرية) .
7 . فعالية الجهاز التناسلي الانثوي (الايقاع الزمني) .
8 . تخفيف الآلام الجسدية .
9 . يساهم في الذاكرة والتعلم .
10 . موجود بالصفائح الدموية ويساهم بتكون الخثرة الدموية (مضيق للاوعية الشعرية) .
11 . يساهم مع هرمون النمو بالنمو .
12 . يساعد في عمليات ايض الكبد اعادة تشكيل خلايا الكبد المصابة(في الادمان الكحولي) .
13 . في حالات ارتفاع مستواه قد يؤدي الى الاورام المسماة بالكارسنويد مما يؤدي للتناذر المصاحب لها (تورد الوجه والاسهال المصحوبان بمشاكل بالقلب – الصمام الثلاثي الايمن)
14 . زيادته تؤثر سلبيا على صلابة العظام .
15 . في كبار السن قد تؤدي زيادته للاصابة بالسمنة وداء السكري من النوع الثاني .
تؤدي قلته الى :
1 . الصداع النصفي .
2 . الكآبة وفي حالات قد تؤدي قلته للانتحار .
3 . الشعور بالغثيان فان كثر ادى الى التقيء .
4 . زيادة شهية الطعام .
5 . صعوبة شفاء الجروح .
6 . حركة الامعاء .
7 . قلته المفاجئة في الاطفال الصغار يؤدي الى الموت المفاجيء (لمفعوله على مركزي القلب والتنفس في جذع الدماغ)
يتواجد في الفطريات وفي نهايات الاشواك النباتية وفي الاميبا مسببا الاسهال وفي قشور البذور يساعد على سرعة خروجها من القناة الهضمية . وفي سموم الحشرات كالنحل ، وفي الانسان في مصل الدم والغدة النخامية وعضلات الامعاء والصفيحات الدموية . اهم مصادره الغذائية التمر والموز والفاي فاي والجوز .
الدوپامين
اما الدوبامين فيعمل على :
1 . تنظيم مستوى اليقضة .
2 . الشعور بالخفة والنشاط (والتأنق اللفظي والبياني(
3 . جنون العظمة (شديد الشك والغيرة من المنافسين(
4 . الهياج (زيادة دقات القلب) والهلوسة وزيادة ضغط الدم .
5 . مع الاوكسيتوسين يساعد على انتاج رعشة الجماع .
6 . زيادته تؤدي المبالغة في المجاملات .
7 . وزيادته ايضا تؤدي الى زيادة الرغبة الجنسية .
8 . زيادته تؤدي الى زيادة الشهية للطعام .
9 .مهم للذاكرة والتعلم والانتباه وذاكرة العمل .
10 . تواجده مهم للقيام بالحركات السريعة (الخوف و المعاركة و الهرب) .
وفي حالة قلته :
1 . انعدام الانتباه والتركيز .
2 . الكسل والنوم والبلادة واللامبالات .
3 . الاحساس بالدونية وحقارة الذات .
4 . الكآبه وقد تؤدي بوجود الظروف الى الادمان .
5 . الانسحاب من المجتمع (اعراض الشيزوفرينيا).
6 . عدم القدرة على بدء الحركات الارادية .
7 . الرعاش العصبي (مرض باركنسن) وامراض مشابهة .
8 . التوحد (غالبا في الطفولة) .
من ناحية التركيب الكيمياوي : الدوبامين والسيروتونين والنورادرينالين متقاربون ، ويعمل الثلاثة في (التفكر والاحساس والتصرف) اي اليقضة والادراك والانتباه والالتفات للنفس .
الميلاتونين
يفرز اثناء الليل ، تتناسب كميته تناسبا عكسيا مع النور ، زيادته تؤدي الى النوم ، وقلته الى الارق . لا آثار عقلية له .
الافيونيات
وهي خمسة مواد في الجهاز العصبي المركزي (الانكيفالين – الداينورفين – الاندورفين – والاندومورفين – والاورفانين ) .
تفرز في الحالات التالية :
1 .الحب وهزة الجماع .
2 . الهياج والقلق .
3 . الالم والمعانات .
4 . تناول المواد الحارة كالفلفل .
5 . زيادة حرارة المحيط كالساونة .
افرازها يؤدي الى :
1 . الاحساس بالارتياح والرضا والسعادة .
2 . الاحساس بالارتخاء .
3 . توقف الآلام .
4 . منبه لشهية الطعام ، والرغبة في شرب الماء .
5 . تقليل الاحساس بالبرودة ، بتوسيع الشرايين الدقيقة بالجلد .
6 . الزيادة البالغة تؤدي الى (ذهول العلماء !!!) .
7 . الزيادة المرضية تؤدي الى اختلاط الحواس ، فيبصر صوت البلابل ويسمع لون الورد ويشم رائحة الآلام ويلمس طعم البطيخ !!!
ملاحظات :
الافيونيات الخمس تقلل افراز الدوبامين ، وتزيدمفعول الكوكاين ، وتولد اضطرابا بالاحساس الزماني والمكاني (فيرى المريض نفسه يقفز في الجنة او في النار) .
الداينورفين اقوى من الاندومورفين عشر مرات .
في (الحشيش) اي القنب ، توجد مادة اسمها (الانامايد) لها نظيرة يفرزها الدماغ في حالات القلق والمنافسة مع النظراء او المتنافسين في الحقول الرياضية .
ويتباين الناس وراثيا ومرضيا في مفاعيلها على (الصور الدماغية) وما يمكن ان يعطيه (المبدع) لهم من (ابداع شعري وادبي) ، مجرد ان تتأمل فعلها على (الدماغ المبدع) تعرف مسار التطور الادبي وبالتالي (الابداع) ، كما يعطي هذا فكرة عن المفهوم القديم عن الخيط الدقيق الذي يفصل االمبدع العبقري عن المجنون ، سيما وان الهزات العصبية التي تنتج عن الحياة العامة في الحروب والتغيرات التي يتأثر بها المبدع قبل غيره لحساسيته في السنين الاخيرة ، ستؤدي الى ظهور شعر وادب لا يعلم الا الله مدى بعده عما كنا نسميه (العقل( !!
صباح جمال الدين