غانم جواد
باحث في قضايا حقوق الانسان ويحضر حالياً لنيل الماجستير في القانون الدولي لحقوق الانسان، مثّلَ المنظمات غير الحكومية العراقية في عقد التسعينيات في اجتماعات لجنة حقوق الانسان في جنيف التابعة للأمم المتحدة، واشترك في العديد من مؤتمرات منظمة العفو الدولية، له عدة مؤلفات منها تطور وثائق حقوق الانسان في الثقافة الاسلامية، والعدالة الانتقالية: ماذا بعد التغيير في العراق، والشيعة والانتقال الديمقراطي.
سيشرح الباحث العدالة الانتقالية كمفهوم جديد دخل عالم التطبيق في أكثر من 25 دولة في العالم عندما تحررت البلدان من الأنظمة الاستبداية لترسم مسار التحول الديمقراطي للأنظمة الجديدة عند شروعها في بناء الديمقراطية الناشئة في دولها
مدخل للـ “عدالة الانتقالية”
قدم السيد غانم جواد خلال الموسم الثاني لنشاطات بيت السلام بتاريخ 16/2/2011 محاضرة عن مفهوم “العدالة الانتقالية” بشكل عرض على سلايدات موضحاً فيها المفهوم ومكوناته وتجارب الشعوب التي خاضت تجربتها وما أدت إليه من استقرار للأوضاع فيها بعد الأخذ بتطبيق عناصرها الاساسية، ولأن الموضع واسع ويستغرق وقت طويل فقد تم تقديم الجزء الأول وسيتابع شرح عناصرها الرئيسية في لقاء أخر، لذا يمكن أن نقول أنها مدخل الى العدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية هي فلسفة منهجية تشترك في تركيبتها منهاج من علوم القانون، السياسة، الاجتماع، والقيم الأخلاقية والانسانية، لتعالج أرث انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان وقمع الحريات الأساسية، ولتهيئة الأجواء العامة على انتقال المجتمع بكل تشكيلاته وبشكل مباشر وسلمي من حالة الاستبداد والدكتاتورية إلى الديمقراطية.
والتعريف، يتضمن مفهومي العدالة والانتقال، نستنتج منه المعنى الدلالي الذي يقودنا الى: بناء العدالة أثناء زمن الانتقال الديمقراطي. وقد وردت تعار يفات متعددة تؤدي كلها المعنى الأساسي المتمثل في بناء العدالة والتمهيد لإجراء الانتقال الديمقراطي في مجتمع كان يرزح تحت النظام الدكتاتوري. وذكر التعاريف يوضح المعنى أكثر فهي:
1- المنهج العملي لتحول المجتمع بأكمله من حكم النظم التسلطية الى البناء الديمقراطي.
2- برنامج للتحول السلمي في مجتمع تعرض للاستبداد السياسي والاجتماعي والاقتصادي وتعرض أيضاً الى الانقسام العرقي والطائفي ولانتهاكات صارخة لحقوق الانسان، الى مجتمع تسوده الديمقراطية وقبول الرأي الأخر والتعددية واحترام حقوق الانسان، لكن بشرط إزالة أثار حقبة الاستبداد وإعادة التوازن داخل المجتمع، وضرورة هذا الشرط تكمن باعتباره الدافع لتلاحم الجميع من أجل تحقيق القيم الجديدة.
3- حقل من النشاط يسعى من أجل بناء مجتمع أكثر ديمقراطية لمستقبل آمن، و يركز على التحقيق في المجتمعات التي تمتلك إرثاً كبيراً من خروقات حقوق الانسان، الإبادة الجماعية، أو أشكال أخرى من الانتهاكات تشمل الجرائم ضد الإنسانية، أو الحرب الأهلية.
ومن هنا نستنتج أن المصطلح لم يأتي من فراغ وأجريت له تطبيقات في أكثر من 35 دولة في العالم كي تمهد لبناء دولة القانون والمؤسسات.
المجتمعات التي حكمتها أنظمة الدكتاتورية وإن بنسب مختلفة منها، فقد تعرض المجتمع الى صور شتى من انتهاكات حقوق الإنسان وقمع للحريات، ولأنه لا يمكن التقدم للأمام وتحقيق أي انتقال ديمقراطي ما لم تتم معالجة ملفات الأرت الماضي وما تركب من جرائم وجنايات بحق الأفراد واضطهاد للأقليات العرقية والدينية والقمع السياسي.
العدالة الانتقالية جاءت لمعالجة الأوضاع السابقة، وهي لا تقوم على الثأر والانتقام، لكنها تهدف إلى إنصاف الضحايا وذويهم وعدم إفلات الجناة من العقاب مهما كان بسيطاً في ظل معالجة حكيمة بين مرتكب الانتهاكات وضحاياه، من أجل إعادة بناء وطن يسع الجميع، قوامه احترام حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة حكم القانون.
وقبل الخوض في التفاصيل لابد من الإجابة عن تسأل يتردد دوماً مفاده لماذا العدالة الانتقالية:
1- لتعزيز اجراءات التحول الديمقراطي عبر إرساء مفاهيمها الأساسية منها: اعادة بناء المجتمع، إرساء الثقافة الديمقراطية، الحكم الرشيد( محورها منع إدماج الحزب في الدولة)، المحاسبة القانونية البعيدة عن الاتهام والدوافع الضيقة، عدم الإفلات من العقاب وليس بدافع الثأر والانتقام، وكليهما يخلق نوعاً من الردع كفيل بالحيلولة دون ارتكاب أعمال جنائية في المستقبل.
2- نحتاجها لمعالجة سطوة الأنظمة الدكتاتورية وتطور وسائل قمعها وسيطرتها على مرافق الحياة اليومية للمواطن.
3- انطلاقاً من الشعور بالوازع الأخلاقي والضميري اتجاه الضحايا وذويهم و تذكرهم وتأهيل الناجين منهم ولأجل عدم نسيان فضائع الماضي، لابد من مسار للعدالة كي لا تعبر عن إعادة الإحساس بالظلم والإهانة مرة ثانية للضحايا.
4- نتيجة التوسع الهائل في وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي بين الأفراد والناتج عن ثورة الاتصالات والمعلومات، .
5- تزايد تأثير ضغط مؤسسات المجتمع المدني وخصوصاً المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال حقوق الانسان والعدالة والسلم لأنصاف المظلومين ولتحقيق التحول الديمقراطي.
6- لمنع غليان الغضب وتفجره بتمردات فردية أو جماعية قد يعبر عنه بالانفلات الأمني في أي فرصة سانحة نتيجة عدم الرضا وفقدان العدالة واستمرار القهر بسوء الأوضاع المتردية الجديدة.
7- تعاظم النزاعات وصراعات الهويات العرقية والمذهبية داخل الدول المفضي الى تقوية مشاعر التقسيم والانفصال ما لم لا تخذ العدالة مسارها الصحيح.
8- شمول الأفراد كأشخاص للقانون الدولي لحقوق الانسان بعد أن كان مقتصراً على الدول فقط، يستوجب محاسبة الذين قاموا بارتكاب مخالفات للقانون الدولي لحقوق الانسان.
يرجع تاريخ العدالة الانتقالية إلي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ومحاكمات نورمبرغ والقضاء علي النازية، وقد توطد مفهومها فيما بعد وأخذت الشكل الأكثر نضوجاً الذي نعرفه اليوم بفضل: تجارب الشعوب التي اتخذت من العدالة الانتقالية مساراً لها عند اجراء الانتقال الديمقراطي: فقد تجلت تجارب الشعوب في كل دولة بشكل واضح في تركيزها على واحد من مجالات(مسارات، سياقات) العدالة الانتقالية فبعض البلدان لم تتبنى كل مساراتها، فمثلا:
• 1- بدأت أول تطبيقاتها للعدالة الانتقالية في اليونان خلال أواسط سبعينيات القرن الماضي(1975-1977) عند مثول الحكام لمسائلتهم عن خروقات حقوق الانسان.
• 2- جهود لجنة تقصي الحقيقة في الأرجنتين والتي أدت الى إجراء محاكمات الطغمة العسكرية فيها 1983 بعد مرور سنوات من إزاحتهم عن السلطة.
• 3- لجنة تقصي الحقيقة في تشيلي 1990 والتي قضت بمحاكمة الدكتاتور بنوشيه وتسليمه في عام 1998 بتهمة ارتكاب جرائم ضد حقوق الإنسان. وكانت من نتائج لجنة تقصي الحقائق المارة الذكر توفير أشكال مختلفة من التعويضات لصالح الضحايا أو ذويهم.
• 4- تجربة المغرب عندما باشر الملك الحسن الثاني بإجراءات التحول وتسليم الحكم الى المعارضة في 1995 والتي أفضت الى أنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة لتقصي الحقائق واختتمت أعمالها في دفع تعويضات للضحايا 2005.
• 5- منع منتهكي حقوق الانسان السابقين في ألمانيا الشرقية من الوصول الى مناصب السلطة بعد (فتح ملفات الأمن الداخلي) 1989 بعد سقوط جدار برلين.
• 6- إعادة تشيكوسلوفاكيا 1989 تجربة ألمانيا بعد سقوط النظام فيها، وسميت عمليات التطهير الحكومي.
7- وكان للجنة الحقيقة والمصالحة الذائعة الصيت برئاسة الأسقف توتو للتعامل مع
ضحايا ومنتهكي (جلادون) حقوق الانسان والتي أنشأتها جنوب أفريقيا 1995 دور كبير ومهم في دفع مجتمعات أخرى لتبني فكرة العدالة الانتقالية.
وأخيرا، تكللت كل تلك الجهود في مجال العدالة الانتقالية، بإنشاء المحكمة الجنائية
الدولية التي تعتبر قمة التطور في نضال البشرية ضد امتهان كرامة الإنسان
وحقوقه.
8- أول تطبيقات القانون الدولي لحقوق الانسان( ضمان المحاسبة الجنائية الدولية) كانت في محاكمة مجرمي الحرب الأهلية في يوغسلافيا سابقاً، ومن ثم قادة جمهورية الصرب على جرائم في البوسنة منذ أواخر التسعينات الى 2005.