أقامت مؤسسة الحوار الانساني بلندن يوم الاربعاء 21 تموز/يوليو 2021 امسية ثقافية على منصة زووم ناقشت فيها أحداث 14 تموز 1958 والسجال الذي يدور حولها كل عام ، وتحدث في الامسية الاستاذ غانم جواد وحاوره صادق الطائي
المقدمة
احتدام صراعات الديكة على منصات التواصل الاجتماعي العراقية الذي يشتعل مع كل تموز في كل عام بات أمرا مفروغا منه. المشكلة في صراعات ونقاشات صفحات التواصل الاجتماعي إنها شملت بسطحيتها الباحث المتعمق في تخصصه والمراهق الذي يرمي بالتهم جزافا. حفل صاخب مداده الشتائم او المدائح المبالغ بها. الفصيل الاول يبلغك ان يوم 14 تموز عام 1958 كان الفاجعة التي فتحت باب الانقلابات اللاحقة وجعلت العسكر يركبون موجات الانقلابات وصولا الى الحالة التي وصل لها العراق، وفي هذا التحليل الفوقي وغير العميق تكال الشتائم للعميد عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام عارف بشكل خاص باعتبارهما واجهة مجموعة الضباط الاحرار والمسؤولان عن اعلان حركة الجيش يوم 14 تموز واعلان مولد الجمهورية.
بينما يخبرك الفريق الثاني المكون من القاسميين واليساريين والشيوعيين وهم يمجدون ما حصل ويطلقون على تحرك الجيش منذ لحظته الاولى توصيف”ثورة” جزافا، ويصرحون بان وضع العراق كان مأساويا تحت حكم العائلة المالكة، وان الاقطاع كان يسوم الفلاح سوء العذاب، وان مهاجري الريف ملئوا أحياء أحزمة الفقر من الصرائف التي انتشرت على اطراف العاصمة، وان المظالم الاجتماعية والفروق الاقتصادية والظلم وسوء الخدمات هي السمة الغالبة للمجتمع العراقي في ظل الملكية وجاءت الثورة لتخلص المجتمع من هذه العذابات.
إن الزعيم النزيه، نصير الفقراء، ابو العراقيين، الذي لا ينام … الخ ويمكن للقاريء ان يختار ما يشاء من 55 لقبا رسميا اطلقتها الصحافة والاعلام الحكومي على قائد الانقلاب العسكري عبد الكريم قاسم، هو من حقق المعجزات بشكل فردي في أقل من خمس سنوات، إذ حقق عبر تنفيذ المشاريع العملاقة نقلة في الوضع العراقي وضعته في مصاف الدول المتقدمة، وان هذه النجاحات أججت دسائس ومؤمرات أعداء الثورة فاطاحوا حكومة الزعيم وثورته بانقلاب دموي في 8 شباط 1963.
الحدث والتعامل التاريخي معه
بعد هذه الاطلالة السريعة على طبيعة السجال العقيم الذي يدور كل عام، أحب ان اشير الى ان كل بحث تاريخي علمي لايمكن ان يربط حدثا تاريخيا كبيرا في بلد ما بعامل واحد، أي ان أحادية السبب في المنهج التأريخي إنقرضت او تكاد من المنهجية التاريخية الرصينة. وان التعاطي التاريخي مع الاحداث بصيغة الابيض والاسود ايضا تكاد تنقرض، لان هنالك طيفا من تدرجات الرمادي بين أقصى السواد وأنقى البياض في الاحداث التاريخية.
في التجربة الملكية العراقية والظروف الدولية والاقليمية التي افرزتها الكثير مما يقال، هي ليست تجربة ملائكية كما يحاول ان يشيع دعاة الملكية اليوم، ولا هي سوداء شيطانية كما يحاول أن يسوق دعاة الثورية. هي تجربة لها ما لها وعليها ما عليها، تجربة ولدت من رحم تغيرات دولية أفرزتها نتائج الحرب العالمية الاولى من إنهيار الامبراطوريات القديمة وولادة وشيوع نمط الدولة القومية الحديثة،وهذا ما حدث في وسط اوربا والشرق الادنى والشرق الاوسط. والعراق جزء من هذه المنطقة مر بتغيرات جوهرية منذ 1914 ،عام احتلال البصرة حتى 1921 عام اعلان المملكة العراقية.
سبع سنوات من ادارة جزئية الى ادارة شملت مناطق العراق كافة، إنتقلت من الادارة المباشرة من قوة الاحتلال البريطاني ومحاولة ربط العراق بادارة الهند ونائب الملك فيها وصولا الى إقرار قوات الاحتلال بوجوب ايجاد حكومة محلية مرتبطة ببريطانيا بصك إنتداب أقرته عصبة الامم اولا ثم بسلسة معاهدات محكومة بظروفها التاريخية التي تبقي العراق ضمن منطقة النفوذ البريطاني، ثم التحول بعد الحرب العالمية الثانية الى مظلة النفوذ الامريكي في ظل اندلاع الحرب الباردة عبر الدخول في حلف السانتو الذي تحول الى حلف بغداد قبيل إطاحة النظام الملكي في تموز/ يوليو 1958.
انجازات العهد الجمهوري أم انجازات العهد الملكي؟
ولم يعد خافيا اليوم ان الخطوات التي حققتها جمهوريات ما بعد 14 تموز قد إستثمرت ما بذرته الحقبة الملكية من تأسيس نظم إتسمت بادخال الحداثة لولايات عثمانية كانت تعيش بنمط العصور الوسطى حتى مطلع القرن العشرين، بينما حقق النظام الملكي مع ما يؤخذ عليه من مشاكل ومآخذ تحقيق إدخال الحداثة للتعليم والاعلام والسياسة وبالتالي وسم نمط العيش بسمة المعاصرة، وتحديدا في عقد التغيرات الكبيرة، عقد الاربعينات، وما ان دخل عقد الخمسينات مؤسسا حقبة القفزات الاقتصادية نتيجة تعديل إتفاقية النفط بين حكومة نوري السعيد وشركة نفط العراق، وتأسيس مجلس الاعمار، وما نتج من نجاح مشاريعه وانعكاس ذلك على رفاهية المجتمع، كل ذلك لعب دورا تأسيسا ساهم بشكل كبير في نجاح ما نفذته جمهورية قاسم لاحقا.
يجادل بعض من يخوضون السجال التموزي السنوي بالقول، ان النظام الملكي كان قد وصل الى وضع مهتريء نهاية الخمسينات وان الانقلاب العسكري الذي تحول الى ثورة شعبية نتيجة إلتفاف الشعب حوله كان أمرا لا مفر منه. وهنا أيضا يجب ان نبين بعض المعطيات التاريخية. فانقلاب العسكر وتدخلهم في السياسة كان من أبرز سمات مؤسسة الجيش العراقي، اذ يسجل للفريق بكر صدقي العسكري السبق في هذا المضمار عندما نفذ أنقلابه في اكتوبر 1936 وأطاح حكومة ياسين الهاشمي وشكل حكومة حكمت سليمان، ليطاح ببكر صدقى وحكومة الانقلاب بعد عشرة اشهر فقط، وليتم إغتيال صدقي من عناصر الجيش أيضا، ليبقى جنرلات الجيش على إمتداد الخمس سنوات اللاحقة هم المتحكمون بالمشهد السياسي حتى قيام انقلاب العقداء الاربعة وتشكيل حكومة رشيد عالي الكيلاني في آيار/ مايو 1941 ، ومن ثم إعادة إحتلال القوات البريطانية للعراق في حزيران /يونيو من نفس العام، ومع كل هذا الاحتدام والحراك لم يجروء أحد جنرالات الجيش على إعلان إسقاط النظام الملكي حتى في أحلك الظروف ، إذ تم عزل الوصي على العرش الامير عبد الاله، واستبداله بوصي أخر من العائلة الهاشمية المالكية هو الشريف شرف.
لكن تأثر المنطقة بما حصل في تموز/يوليو 1952 في مصر وما لحقه من إعلان إسقاط النظام الملكي في حزيران 1953 واعلان الجمهورية في مصر، فتح الباب للانقلابات اللاحقة في المنطقة العربية للسير على خطى تنظيم الضباط المصرين بخلع الانظمة الملكية وإعلان الجمهوريات في عقود الستينات وما تلاها، ليصبح ذلك ديدن التغيرات التي شهدتها اليمن وليبيا ومحاولات او سعي الحراك الثوري الذي اندلع في منطقة الخليج والجزيرة العربية في عقدي الستينات والسبعينات بدعم من الانظمة الجمهورية العربية لتحذو حذوها وتطيح الامارات والمشيخات والسلطنات لتعلنها جمهوريات، لكن معطيات الصراع الدولي لم تسمح لمشهد الصراع بالوصول الى هذه النقطة نظرا لعمق المصالح الغربية في تلك المنطقة وتمسك الغرب بالنظم القديمة المتخادمة مع مصالحه.
خلاصة واستنتاج
كما إن للنظام الملكي محاسنه ومنجزاته، فله مساوئه كأي نظام ولد وبدأ يحبو باتجاه تحقيق النمو والتكامل، فقد كان التمثيل السياسي في عراق العشرينات والثلاثينات وحتى منتصف الاربعينات مشوها إذ يسيطر على المجالس النيابية الشيوخ القبليون شبه الاميين، بينما يسير سياسية البلد ملك غريب تم استيراده من الحجاز لاسباب عديدة تحيط به مجموعة من الضباط الشريفيين المخلصين له.
لكن هذا النظام طور نفسه كنتيجة حتمية لتحديث وتطوير المجتمع، ودخل التمثيل السياسي صراعات حزبية حقيقية تمثلت في وجود احزاب تمثل اليمين واليسار المعتدلان اللذان تنافسا نيابيا في حقبة الخمسينات، وبالرغم من كل ما شاب الحياة البرلمانية من عدم شفافية الا انها مثلت نواة لحياة سياسية ليبرالية يمكن ان تتطور بالاتجاه الصحيح.
لكن انقلابات العسكر الذين سيطروا على الحياة السياسية وقمعوا الاحزاب وتحكموا بالعمل السياسي وفق رؤاهم الايديولوجية حجمت العمل السياسي الحر والصحافة الحرة وبات العمل وفق الشرعية الثورية هو المسيطر على الساحة السياسية . وبذلك يمكن ان نعدد منجزات العهد الملكي مثلما نستطيع نعداد منجزات عهود الجمهورية اللاحقة، ويمكننا ان نعدد سلبيات وهفوات المجتمع في ظل الحكم الملكي مثلما نستطيع تعداد الاخطاء والخطايا التي أرتكبتها النظم الجمهورية اللاحقة، إذ لاوجود للتميز الحاد الابيض والاسود في عالم السياسية الا في أضيق الأطر لأن هامش اللون الرمادي هو الذي يغطي أغلب حقب حياتنا.