30-04-2014 –
أحمد المهنا، مالك الجواهر، ومرشد الأصدقاء إلى الكتب النفيسة –
بحثَ عن السلام في كل عواصم العالم فوجده في شارع المتنبي
عدنان حسين أحمد
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية احتفائية للكاتب والصحفي أحمد المهنا تثميناً لدأبه وعطائه المتواصلين على مدى عقود عدة. وقد اشترك في هذه الأمسية ستة أدباء ومثقفين عراقيين وهم الكاتب خالد القشطيني، والشاعر فوزي كريم، والروائي عبدالله صخي، والشاعر عوّاد ناصر، والباحث غانم جواد وكاتب هذه السطور المتواضعة.
قبل أن نلج إلى المحاور الثلاثة التي ركّز عليها المُحتفى به لابد من الإشارة إلى أن أحمد المهنا قد جاء إلى الصحافة من عالَم اللغة العربية التي درسها في الجامعة المستنصرية وتفوق فيها على أقرانه، وكان من المفترض أن يواصل دراسته العليا ويتعمّق في هذا الاختصاص الذي أحبّه وتفوّق فيه. غير أن الظروف السياسية لم تكن تسمح بذلك فشدّ الرحال إلى بيروت عام 1979، ثم تنقّل بين دمشق ونيقوسيا ولندن وعمل في عدة صحف وقنوات فضائية قبل أن يقفل راجعاً إلى العراق عام 2004 وينغمس في العمل في أكثر من صحيفة كـ “المدى” التي كان يكتب فيها عموده اليومي “أحاديث شفوية” ثم صحيفة “العالم” التي رأس تحريرها وخلق منها أنموذجاً متحرراً يحترم ذهنية الإنسان العراقي الذي بدأ يتذوق طعم الحرية بعد ثلاثة عقود ونصف العقد من الاستبداد، ومصادرة الحريات الخاصة والعامة. أصدر المهنا كتابين الأول يحمل عنوان “الإنسان والفكرة” والثاني هو “الأمر رقم واحد” وهما أقل بكثير من الجهد الثقافي الذي يبذله على الأصعدة الفكرية والثقافية والصحفية.
باب الاضطرارات
ارتأى المهنا أن يسلّط الضوء على ثلاث مقالات كان قد كتبها في الشهر الثاني من عام 2012 ، حيث حمل المقال الأول عنوان “على بساط الريح” موضحاً فيه أن سبب مغادرته العراق عام 1979 هو هيمنة النظام الشمولي على بلد النخل ولجوئه إلى بلد الأرز الذي بدت فيه الحرب الأهلية “برداً وسلاما” على الفارين من جحيم الدكتاتور الذي بدأ يتغول على البلاد والعباد ولا يجد حرجاً في أن ينهش خاصرة هذه الدولة الجارة أو تلك، أجنبية كانت أم عربية. تتمحور مادة هذا المقال على الفرق بين صحافة المعلومات وصحافة الرأي،والفرق الكبير ما بين الصحافتين متخذاً من صحيفتي “السفير” و “النهار” اللبنانيتين مثالاً حيث تمثل الأولى “ناراً كبرى” بينما تمثل الثانية “رصانة كبرى”. ولعل الفرق الرئيسي الذي لمسه المهنا بين صحافتنا العراقية المؤدجلة أنها تكبِّر الأشياء عشرات المرات، أما الصحافة الحرة الديمقراطية فإنها تصور الأشياء بحجمها الطبيعي الذي يحترم عقلية القارئ.
يكشف المهنا في هذا المقال عن السبب الذي دفعه لمغادرة بيروت إلى دمشق عام 1981 لكن السوريين شقّوا منظمة فتح عام 1983 فتعذر عليه البقاء بدمشق لذلك يمّم وجهه شطر نيقوسيا. لم يتخلص من العمل مع المنظمات الفلسطينية التي تبدو مثل قدر يلاحق المثقفين العراقيين أينما حلّوا أو ارتحلوا حيث تعرّف على مجموعة منشقة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة وعمل لمصلحتها حيث كان يدبّج لهم البيانات الساخنة خلافاً لطبعه الهادئ “فيرتد ذلك على معدته اختناقاً بالغازات، وعلى أعصابه اكتنازاً بالتوترات”. وكان هذا العمل من باب الاضطرارات لا من صحافة المعلومات، وقد حمد الله أنها كانت آخر عهده بهذا النوع من الاضطرارات.
الشغف بالمهنة
يتمحور المقال الثاني على كلمتين لا غير وهما ” الإثارة والرتابة” فالمهنا مدفوع بهاجس العمل ومنقطع إليه على الرغم من كل المتاعب التي يحصدها في نهاية النهار. فحينما يبدأ العمل تتقد في داخله 100 شمعة، وحينما ينتهي من عمله يعود بشمعة واحدة مضاءة. يصف المهنا مشقة عمله اليومي ورتابته في بعض الأحيان حينما يتوجب عليه أن يملأ كل يوم ثلاث صفحات فارغة بالأخبار والتقارير والصور. إذاً، ثمة صراع يعيشه المهنا بين الرتابة والإثارة، وبين الموت والتجدد، ونصيحته الأولى والأخيرة ألا يسقط الكاتب في خانق الاعتياد الذي ينقضّ على الروح ويقضي عليها تماماً. يرى المهنا “أن لكل مادة صحفية روحاً ما، وأن مهمة الصحفي هي اكتشافها، وعرضها بطريقة يستشعرها المتلقي”. غير أن هذا الاكتشاف لا يتم ما لم يكن الصحفي شغوفاً بمهنته، محباً لها، ومنقطع إليها كليا. ثم يخلص المهنا إلى القول بأن الشغف هو صنو الإعلام الحر الذي نهفو إليه، وهو يولد، أولاً وأخيراً، من رحم الإثارة، لكنه يتلاشى ويموت كلياً إذا ولج إلى دروب الرتابة ومتاهاتها المؤسية.
ذكرَ المهنا “بأن زميلة مخلصة له نبهته من أجل سلامته النفسية في وسط يتوجس من الهمّة والجدية، إلى ضرورة الاقتصاد في إظهار مهارته! وهي دعوة لأن يعمل ليعيش في حين أن المطلوب من الصحفي أن يعيش ليعمل. فالصحافة طريقة حياة. لكنه كان ينسى تلك النصيحة فيرتكب الحماسة في ذلك الوسط المحكوم بالرتابة”. ثم يختم مقاله الجميل بالقول: ” إن الصحافة الحقة هي ابنة الحرية. وبغياب ملكوت الحرية تغيب عنها الفرحة. وكل عمل بشري من دون مسرّة دليل غربة وطريق وحشة. وباطل ثم باطل كل جهد وكل كدّ يسبب التعاسة”!
الإعلام الحرَ
لم يخرج مقال المهنا الثالث عن إطار صحافة المعلومات وصحافة الرأي، فهو يرى “أن صحافة المعلومات تقدم خدمة الحقيقة إلى المتلقي وتحترم عقليته أما صحافة الرأي، أي صحافة الحزب أو الحكومة، فمهمتها ترويج عقيدة أو فكرة، وهدفها اقناع المتلقي. الأولى تشتغل عند القارئ، والثانية تشتغل بالقارئ. صحافة المعلومات تعرض الحياة، ولك أن تتفكر وتتدبر معها أمورك بنفسك. وصحافة الرأي تقدم الفكرة أو العقيدة لتكون وسادتك الخالية من هم التفكير والتدبير”.
يخلص المهنا إلى القول بأن صحافة المعلومات هي الاسم الآخر للإعلام الحر الذي مازال بيننا وبينه الكثير من المشقّات والأهوال. وعلى الصحفي الناجح أن يقدّم الحقيقة للناس وأن يقول ما يعتقد بصحته فقط.
التلميذ المعلّم
كان أول المتحدثين في الأمسية الاحتفائية الشاعر عوّاد ناصر الذي وصف أحمد المهنا بـ “التلميذ المعلّم”، وحين يقول تلميذا فهو يعني “شغفه بالتعلّم مهما بلغ من الثقافة بمعناها الفكري المنتج”. أما عن الخصال التي يتمتع بها المهنا فقد قال عوّاد ناصر: ” عرفت أحمد إنساناً كريم النفس، وأعني أن كرمه الإبداعي يصل كرمه الاجتماعي، يغنيه ويغذّيه على عكس مبدعين عرفتهم صرت أشك بإبداعهم لأنهم بخلاء اجتماعياً: أي في المحبة والتسامح وإبداء العون لمن يحتاجه. تحية لصديقي أحمد. . تحية لألمه حيث الألم، حسب تعريفه، نوع من المعرفة”.
بستان الفكرة المقدسة
على الرغم من فارق السن بين فوزي كريم وأحمد المهنا إلاّ أن هذا الفارق الذي يمتد إلى تسع سنوات لم يكن حائلاً أمام المنفعة المتبادلة التي يعترف بها الأستاذ قبل التلميذ. فلقد اتجه أحمد المهنا إلى قراءة الكتب الفكرية، كما عمل في الصحافة التي فتحت له آفاقاً سريعة صوب القوى العقلية التي يعززها في قراءاته المتنوعة. يعترف كريم بأنه أميل إلى الفوضى في حياته، لكن هذا لم يمنعه من الإفادة من المهنا الذي كان يغذّيه بأفكار وأنوية صغيرة كانت تساعده على الكتابة وحلّ بعض القضايا الإشكالية التي تستعصي عليه كما هو الحال في قضية الإسلام العربي أو غير العربي. وقد توصل كريم، من خلال المهنا طبعاً، إلى أن العلة لا تكمن في الإسلام العربي، وإنما في الذهنية العربية التي حرّمت أشياء كثيرة في الرسم والموسيقى، وبسبب هذه الالتماعة الفكرية عرف كريم سبب افتقار العرب إلى الموسيقى التي وفدت إليهم مع الموالي. أشار كريم إلى إعجابه بنثر المهنا الذي أسماه بالحافة الحادة في التعبير لأن القارئ لا يضيع في الجملة النثرية التي يكتبها المهنا، وهو بخلاف الكثير من الصحفيين يتوفر على لغة نقية صافية. وفي ختام كلمته تمنى فوزي كريم على الحاضرين أن يقرأوا كتاب المهنا المعنون “الإنسان والفكرة” والذي قال عنه أن أهمية الكتاب لا تكمن في مقالاته، التي هي ممتعة بالتأكيد، وإنما بالخيط الذي يجمع المقالات كلها، وهذا الخيط هو الخيط العقلاني في النظر إلى الظاهرة، والعودة إلى البديهة، ومحاربة الفيض العاطفي المستمدة مصادره من ابن آدم. يخلص فوزي كريم إلى القول: “بأننا نتاج بستان الفكرة المقدسة، ونحن أبناؤها المشوَّهون بطريقة ما”.
القطيعة والصدود
أراد القشطيني أن يسدّد دَيناً معلّقاً برقبته منذ مدة زمنية. فهو يشكو من مقاطعة المثقفين والإعلاميين العراقيين له، ولم يفتحوا له باباً للعمل وتحصيل الزرق الحلال. فهو يكسب عيشه من العمل والكتابة في عدد من الصحف العربية وعلى رأسها “الشرق الأوسط” وبعض الصحف العُمانية والبحرينية والكويتية والفلسطينية. ترى، ماسبب هذه القطيعة؟ وما الذي يقف وراء صدود المثقفين والإعلاميين العراقيين من كاتب فكاهي مثل القشطيني؟
لقد بقي هذا الإحساس بالقطيعة والصدود قائماً إلى أن رنّ هاتفه ذات يوم وإذا بأحمد المهنا يعرض عليه كتابة عمود يومي في صحيفة “العالم” التي يرأس تحريرها، وحينما سأله عن الأجر الذي تدفعه الجريدة للعمود اليومي جاءه الجواب مخيباً للآمال. فالقشطيني له أجره الخاص بعد هذه الخبرة الزمنية الطويلة لكن المهنا، الذي صفن قليلاً، وقال: “أُكتُب بالأجر الذي تريده”، فشرع بالكتابة منذ صدور العدد الأول للجريدة.
لا يقتصر شكر القشطيني لأحمد المهنا على الأجر الذي منحه عن كتابة العمود اليومي، وإنما يمتد إلى أشياء لا تقل أهمية عن النقود. فلم يرفض له المهنا أية مقالة على الرغم من حساسية الموضوعات التي يكتبها في مقالاته. وقد شكا القشطيني من بعض المحررين الذين يرفضون العديد من مقالاته المشاكسة والمثيرة للجدل. يرى القشطيني أن عدم رفض المهنا لأية مقالة يبعثها إليه إنما تعكس شخصيته المتفردة، وقد وصفه بأنه واسع الأفق، وذو صدر رحب، ويمتلك إحساساً بالحرية الحقيقية التي يندر أن تجدها بين المثقفين العراقيين والعرب. وهو ، أي المهنا، بخلاف الكثير من المتحجرين والمتزمتين يعطي مجالاً للرأي الآخر، ومستعد للتعامل مع الآراء الأخرى مهما كانت أشكالها ومضامينها.
مالك الجواهر
كان الروائي عبدالله صخي آخر المتحدثين في هذه الأمسية الاحتفائية وقد عاد بنا إلى سبعينات القرن الماضي. تتميز كلمة الروائي عبدالله صخي بلغة مشحونه، وجمل أدبية وكأنه يكتب نصاً إبداعياً متفردا. وقد وصف فيه صديقه أحمد المهنا بأنه “مالك الجواهر” وهو كذلك، فلقد سبقه في الإشارة إلى محبته للكتاب وولعه بالكتب الشاعر فوزي كريم. لقد التقى عبدااله صديقه المهنا في أواسط سبعينات القرن الماضي يوم كان (الأدب ودوره في الحياة) هو الموضوع الأكثر شيوعاً آنذاك حيث تجاذبا أطراف الحديث عن روايات ذائعة الصيت يندر أن تفلت من يد مثقف عراقي مثل “الصخب والعنف” و “الساعة الخامسة والعشرون” و “الدون الهادئ”. كان المهنا، بحسب شهادة صخي، مطلاً على الأدب العالمي المترجم لذلك حثّ صخي على قراءة “الأخوة كارامازوف” وبعد ثلاثين سنة سيحثه على قراءة “مستقبل وهم” لسيجموند فرويد، فـ “الكتاب إنسانية مطبوعة” كما تذهب بابارا توكهام.
لا يعرف صخي كيف يشكر المهنا على اللقى الأدبية التي يقدّمها له واحدة تلو الأخرى فمن “لعبة الكريات الزجاجية” لهرمان هسه إلى كل مؤلفاته الأخرى حتى أنه ترجم مجموعة قصصية له عنوانها “أنباء غريبة من كوكب آخر” فلاغرابة أن يقول عن النفائس الأدبية بأنها تجد طريقها إلى يدي أحمد المهنا اللتين تنبعث منهما رائحة المخطوطات”.
شدد صخي على القول في كلمته بأن المهنا كائن يبحث عن الحرية” ويحلم بالرحيل لأنه يريد أن يعيش بسلام. عاش المهنا في عواصم عديدة فاتنة لكنه آثر العودة إلى بغداد بعد التغيير الذي حدث عام 2003 فسأله صخي عن سبب عودته إلى مدينة يمزقها العنف بأقصى طاقاته المتوحشة بينما هو يبحث، طوال حياته، عن السلام؟ فأجاب: لم أجد السلام في أي مكان ذهبت إليه لكني وجدته هنا في ببغداد” وهو يقصد شارع المتنبي الذي تفوح منه رائحة الكتب طبعا.