لندن / عدنان حسين أحمد –
12/12/2012 استضافت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن الكاتب الساخر خالد القشطيني لمناسبة صدور كتابه المعنوّن “الظُرف في بلدٍ عبوس” عن دار “المدى” بدمشق. وقد ساهم في تقديمه كاتب هذه السطور الذي توقف قليلاً عند أسباب تقزيم النكتة العراقية أو قمعها من وجهة نظر القشطيني نفسه الذي يرى أن انعدام الأجواء الديمقراطية، وغياب حرية الرأي والتفكير، وافتقار العراق إلى المسرح في بعض الحقب التاريخية هي التي حجّمت من انتشار النكتة والفكاهة والمواقف الساخرة في العراق. استهل القشطيني حديثه مخاطباً كاتب السطور: “أنا أتطلع يا عدنان إلى يوم تكون فيه جالساً في مكاني، وأن أكون أنا جالساً في مكانك لأنك تتوفر على معلومات كثيرة تكفي لكتابة عشرات الكتب، وأتمنى في يوم من الأيام أن أكون أنا المُعرِّف بك وبكتاباتك.” ثم انتقل للحديث عن كتابه الجديد وقال: (قد يبدو عنوان كتابي “الظرف في بلد عبوس” غريباً بعض الشيئ، ولكن ما أن تذكر “البلد العبوس” حتى يخطر في ذهنك فجأة العراق، هذا البلد الحزين، فالحزن هو السمة الغالبة على معظم العراقيين، كما أن ملابسهم السوداء، وعزاءاتهم المتواصلة، وحتى غنائهم الحزين يوحي بمخزون الألم الكبير الذي نحمله في دواخلنا.) تساءل القشطيني أمام الحاضرين قائلاً: “ما سرّ الحزن العراقي إذن؟” وأجاب: “أنا أعزو الحزن العراقي العميق إلى سبب جيوفيزيائي مفاده الفيضانات التي تدمر المحاصيل الزراعية على وجه التحديد. فنهر النيل، على سبيل المثال لا الحصر، يفيض بعد موسم الحصاد وجمع الغلات، لذلك ترى المصريين فرحين مسترخين يقولون النكتة ويستمتعون بها، أما فيضانات نهري دجلة والفرات اللذين ينبعان من الأراضي التركية فهي تحدث قبل موسم الحصاد أو في أثنائه وتتلف كل شيئ تقريباً، الأمر الذي يفضي من دون شك إلى الحزن على الجهود الجهيدة التي بذلها الفلاحون طوال السنة، بل أن هذه الفيضانات قد تدمر العديد من القرى الزراعية المحاذية للنهرين الكبيرين في العراق.” أما السبب الثاني فقد أرجعَه القشطيني إلى الجغرافية ومفاده أن العراق بلد مكشوف ومنبسط ولا تحميه المصدات الطبيعية مثل الجبال أو بقية العوارض الطبيعية الأخرى فلاغرابة أن يقوم البدو بشن غزواتهم من الصحراء الغربية على مدن النجف وكربلاء والحلة كي ينهبونها، وتتكرر هذه المسألة نفسها من جهة الشرق حيث يتربص العيلاميون الإيرانيون في جبالهم العصية منتظرين مواسم جمع الغلال كي يهجموا عليها ويسلبونها في رابعة النهار، ولذلك فقد أُطلق عليهم اسم “أفاعي الجبال”، كما أن المحتلين كلهم قد مرّوا بالعراق وأعتبروه رأس جسر إلى أهدافهم الحربية. ذكرَ القشطيني بأن الاحتلالات المتعددة للعراق سببت العديد من المآسي التي لا ينساها العراقيون مطلقاً ولعل أبرزها هجوم هولاكو الذي اقتحم بغداد وقيل إن نهر دجلة قد اصطبغ باللون الأحمر أول الأمر بسبب الدماء العراقية الكثيرة التي سالت في النهر، ثم تغير لون دجلة إلى الأزرق بسبب الأحبار التي دونت بها مئات الآلاف من الكتب المخطوطة التي ألقاها التتار في النهر، ثم استمرت المأساة بسبب النزاعات المتواصلة بين الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية اللتين كانتا تتناوبان في شن الهجمات المتواصلة على العراق حتى قال قائل: “بين العجم والروم بلوة ابتلينا”. أشار القشطيني إلى الجانب الإيجابي أيضاً حينما قال بأن العراق عندما يصبح قوياً وعزيزاً ومعافى فإن العراقيين يظهرون روحهم الفكهة وحبهم للنكات وهم ليسوا قليلي حظ في هذا المضمار، فحينما أصبحت بغداد حاضرة الدنيا أيام الخلافة العباسية، ومنارة للعلم والعلماء، ومركزاً عالمياً للتجارة، ازدهر الأدب، وأنتشر الشعراء الظرفاء الذين غذّوا المجتمع العراقي بنكاتهم وفكاهاتهم أمثال أبي نواس وابن الرومي والجاحظ الذي يعتبره القشطيني واحداً من أعظم فكاهيي العالم. الملاحظة الغريبة التي لفتت انتباه القشطيني أن غالبية الظرفاء العرب هم من أصول غير عربية مثل أشعب الطمّاع الذي ظهر في زمن الخلفاء الراشدين وعرفنا كل نكاته عن الجوعية، كانت عينا أشعب زرقاوين، وبشرته غريبة، فما الذي أتى به إلى مكة أو المدينة وهو غير عربي؟ يجيب القشطيني بأنّ أم أشعب كانت مومساً، وكانت تختلط مع الروم أو الأجانب عموماً الأمر الذي أفضى إلى هذه الهجنة. ثم توقف القشطيني عند ابن الرومي الذي يعتبر من كبار كُتّاب الفكاهة وكان من أصول إغريقية، كما أن الجاحظ له جذور أفريقية، وأبو نواس فيه عرق فارسي من جهة أمه. وفي العصر الحديث يمكن الإشارة إلى الشاعر الزهاوي الكردي الأصل وقد استمر هذا الخيط الفكاهي الكردي حتى وصل إلى الرئيس جلال الطالباني الذي خصص له القشطيني فصلاً كاملاً من كتابه الأخير “الظُرف. . .” والرئيس الطالباني من وجهة نظر القشطيني هو الرئيس المنكت الوحيد في العالم لأن رؤساء الجمهوريات في العالم لا ينكتون إلا لماما. أشار القشطيني إلى أن الشعراء الظرفاء ازدهروا في العصر العباسي لأنهم عاشوا عيشة مجونية متهتكة بسبب الحريات الشخصية التي كانت متاحة آنذاك وشبّههم بالوجوديين مثل أبي نواس الذي يعتبره القشطيني شيخ الشعراء المُجان واستشهد بهذه الأبيات الثلاثة التي تتوفر على قدر كبير من الحرية والتحدي وشجاعة التعبير حيث يقول:
“فإذا أردتم فتاة / أتيتكم بفتاة
وإذا أردتم غلاماً / صادفتموني مؤاتي
فشاورونا مجوناً / في وقت كل صلاة”
تحدث القشطيني عن بعض النكات والنوادر التي تمس النحويين منها واستشهد بما قاله أحد الشعراء:
“قلت لنحوي وفي بطنة / قرقرة: ما هذه القرقرة؟
فقال: يا جاهل في نحونا / هذي تسمّى الضرطة المُضمرة”
فشكّل هذا النوع من التهكم باباً واسعاً من أبواب الفكاهة العربية. نوّه القشطيني بأن كتابه يقتصر على الفكاهة والسخرية في العراق وليس في كل البلاد العربية. وقد حصره منذ بداية العصر العباسي حتى وقتنا الراهن، وقد توقف فيه عند بعض الظرفاء الذين ظهروا في القرن التاسع عشر، والعهد الملكي في العراق وصولاً إلى نكات فخامة الرئيس العراقي جلال الطالباني. وقد روى القشطيني واحدة نكات الرئيس التي استمع إليها منه مباشرة حينما كان مدعواً لمؤتمر الأديان في السليمانية. قال الرئيس الطالباني ذهبت إلى الصين في زيارة رسمية والتقيت خلالها بالرئيس الصيني وسألته عن سبب هذا التعداد السكاني الهائل، فرد عليه الرئيس الصيني: إن المرأة الصينية تنجب كمعدل مولوداً في الدقيقة الواحدة، فقال الطالباني: بينما تحتاج المرأة الكردستانية إلى تسعة أشهر لتنجب مولوداً واحدا!! وختم القشطيني محاضرته بالقول: إن الرئيس الطالباني شخص ظريف، خفيف الظل، ولا يُشعِرك بأنك جالس إلى جوار رئيس جمهورية لأنك لا تلمس منه أي أثر للتجبّر والعنف والقسوة، بل بالعكس تشعر وكأنه واحد منا. بعد انتهاء القشطيني من محاضرته دار حوار طريف بينه وبين روّاد مؤسسة الحوار الإنساني نذكر منهم أميل كوهين، د. صباح جمال الدين، د. أحمد عبد السلام، أحمد المهنا، د. عبد الله الموسوي، غانم جواد، سمير طبلة، فاروق رضاعة وغيرهم. ومن بين المحاور المشتركة في أسئلة الحاضرين ومداخلاتهم “أن المزاح يقلل من الهيبة والكرامة بحسب منظومة القيم العربية الموروثة”، كما اختلف د. أحمد عبد السلام مع المحاضر الذي وصف العراقيين بالعُبوس والتجهم وقال بأنهم أصحاب النكتة السوداوية، وهي ذات النكات اللاذعة التي اشتهر بها الكاتب البريطاني جورج برناردشو، وأضاف بأن هذه النكات العراقية لها مغزى واستشهد بواحدة من القصائد الدبدبية لعلي المغربي يقول فيها: ” أي دبدبا تدبدبـي / أنـا علـي المـغربـي / أنا الذي أسد الثرى / في الحرب لا تحتفل بي / ولا عرفت النحـو غير / الجر بالمـنتصـب / ولا عرفت من عروض / الشعـر غيـر السـبب”. فكان رد القشطيني بأن كتابه هو رد على الشعوب العربية التي تعتقد أن العراقيين لا يتوفرون على روح النكتة ولهذا فقد ذكر العديد من الشخصيات العراقية المعروفة بروح النكتة بدءاً بالجاحظ وأبي نواس وأبي العيناء وأبي دلامة وانتهاءً بالزهاوي وفخامة الرئيس جلال الطالباني، وكان يتمنى أن يفرد فصلاً عن النكتة اليهودية، لكنه عكف عن هذه الفكرة لأن جعبته المرحة لا تحتوي إلاّ على ثلاث أو أربع نكات يهودية لا غير. تساءل الكاتب أحمد المهنا عن السبب الذي دفع القشطيني لإهمال نكات الفنان الراحل سعدي الحلي الذي كانت نكاته متنفساً للعراقيين في أثناء الحقبة الدكتاتورية المقيتة، فرد القشطيني بأنه لم يهمل هذا الموضوع في كتابه ولكنه يتفادى الحديث عن نكاته الحساسة بسبب وجود بعض السيدات في الجلسة. أكد الدكتور عبد الله الموسوي بأن العراقيين ليسوا يائسين وحزينين، ولكن الأنظمة السياسية القمعية هي التي تتحكم بهم، وأشار بأنه كان يسمع قهقهات الناس في المقاهي والبارات بينما كان يلهو مع أقرانه في شوارع بغداد المشهورة. سأل الأستاذ غانم جواد عن الأسباب التي تدفع الإنسان للجوء إلى النكتة فقال القشطيني بأن هذا السؤال يحتاج إلى بحث نفسي طويل لا مجال لتناوله الآن. وختاماً يمكننا القول بأن القشطيني ينهل فكاهته ودعابته من كاتبين كبيرين وهما الجاحظ، بحر الفكاهة العربية، وبرناردشو بحر الفكاهة الأنكلوساكسونية.