د. عبد الحميد الأنصاري –
نظَّم مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، مؤتمراً هاماً، حول «مستقبل الثقافة العربية الإسلامية الوسطية»، شارك في فعالياته نخبة متميزة من المفكرين والباحثين المعنيين بمستقبل «الثقافة الوسطية» في عالم يموج بالتطرف والتعصب والغلو الديني، كما استقطب جمهوراً حيوياً شارك في مداخلاته وقضاياه الساخنة.
ويأتي هذا المؤتمر في وقت عصيب، يتصاعد فيه التعصب المذهبي لدرجة الاقتتال وسفك دماء الأبرياء من الطرفين، أو الأطراف المتصارعة. ولطالما كانت «الوسطية» شعاراً رناناً رفعت لواءه كافة الأطراف المتخاصمة وادعته جميع الفرق والطوائف، لكن قلَّما ترجمه أحد المدعين في سلوكياته وأقواله ومواقفه تجاه الآخر. بل أزعم أن رموز دعاة «الوسطية» هم أول من نقضوها بفتاواهم وخطبهم المحرضة على كراهية الآخر. ولا أريد التعميم هنا، فذلك خطأ معرفي وأخلاقي، لكن جانباً كبيراً من هؤلاء الذين صدعوا رؤوسنا بأحاديث «الوسطية» في كتبهم وبحوثهم ومقالاتهم وخطبهم، ونظروا لها تنظيراً بديعاً، هم أنفسهم الذين غذوا ثقافة الكراهية والتعصب والغلو بسلوكياتهم وفتاواهم. وأذكر إماماً للوسطية، كما يسميه أنصاره وحواريوه ومحاسيبه، وعلى امتداد عشر سنوات كان يبجل زعيم «القاعدة» ويسميه «الشيخ أسامة» ويحرض أبناء المسلمين -عدا أولاده- على الالتحاق بصفوف الجهاد لمقاتلة الأميركيين في العراق، مؤكداً أن «الشيخ أسامة» بريء من هجمات 11 سبتمبر براءة الذئب من دم ابن يعقوب، بل قال في خطبة مسجلة له وعلى الملأ وعبر فضائية مشهورة: «أميركا تعلم علم اليقين براءة بن لادن». والغريب أن أحداً من المضلَّلين وهم كثر ممن انخدعوا بخطاب هذا الشيخ، لم يسألوه: من أين لك هذا اليقين يا شيخنا؟ واستطرد الشيخ الإمام مؤكداً أن أميركا وراء هذه الفعلة… لكن لماذا؟! يجيب متحدثاً عن نواياها: لاحتلال أفغانستان، وضرب الإسلام والمسلمين، ومحاربة المجاهدين… بل وصل هذا الشيخ في غلوه إلى درجة أن صرّح بأن «الحرب على الإرهاب» هي «حرب على الإسلام»!
استطردت في الحديث عن ذلك الشيخ لأوضح رأيي بكل جلاء وأقول إن تأزم «ثقافة الوسطية» في عالمنا العربي والإسلامي، وعدم ترسخها في التربة المجتمعية، هو من مسؤولية ذلك الشيخ وأمثاله من الخطباء والدعاة والشخصيات الدينية، والذين يتظاهرون بالوسطية ليكسبوا الجماهيرية والحظوة عند صناع القرار، ويقدموا أنفسهم للمجتمعات العربية والدولية باعتبارهم ممثلي «الوسطية الإسلامية» القادرة على كبح جماح المتشددين وترشيدهم ودفعهم للاعتدال، وهم يفتقدون المصداقية في أعمالهم وسلوكياتهم وأقوالهم.
من تظاهروا بالوسطية هم الذين سخروا المنابر الإعلامية والفضائيات والمواقع والمنتديات الإلكترونية للتحريض ضد الخصوم وزرع ثقافة الكراهية، ولم يتورعوا عن توظيف منابر بيوت الله تعالى في الدعاية الحزبية الرخيصة، فحرّضوا الجماهير ضد قادة الدول الأخرى وتدخّلوا في شؤون الآخرين الداخلية من غير أي حياء أو خجل. خطباء الإسلام السياسي الزاعمون أنهم من الوسطية، استباحوا حرمة المساجد لتأجيج الطائفية والمذهبية وتعميق الكراهية وتهييج الجماهير وترسيخ الفرقة والانقسام بين المسلمين وإفساد ذات البين. وما هو حاصل اليوم من اصطفاف مذهبي وطائفي واقتتال دموي، ما هو إلا ثمرة ما زرعوه وحصاد ما غرسوه في الأنفس والعقول على مدار عقد من الزمان.
واليوم، الإسلاميون الحركيون الذين قدموا أنفسهم للجماهير بوصفهم «المعتدلين» هم حكام دول «الربيع العربي»، وتجاربهم في السياسة والاقتصاد والإعلام والتشريع تثبت بجلاء أنهم إقصائيون، استعلائيون، مستبدون، يريدون الهيمنة ويسعون بكل قوة لأخونة المؤسسات وأسلمة المجتمع، لا يطيقون معارضة، بل لم يتورعوا حتى عن شن حملة شرسة على القضاء ورجاله، تشكيكاً وتشويهاً وطعناً ورفضاً لأحكامه، ولم يكتفوا بذلك بل حشدوا مليونية تطالب بتطهير القضاء وتحاصر دور العدالة وتهدد رجالها، واليوم هم بصدد تمرير قانون للتخلص من 4000 قاض في مصر لإحلال أتباعهم! إن أزمة الوسطية هي من أزمة مدعيها الكثر وعدم مصداقيتهم!
لقد كان المؤتمر مناسبة جيدة لتشريح هذا الفكر الوسطي المزعوم من قبل تيارات الإسلام السياسي، وبخاصة «الإخوان» في مصر. وقام باحثون أكفاء بعرض هذا الفكر على طاولة التشريح الفكري والعلمي ومن كافة جوانبه، وبتسليط الأضواء عليه وتحليله تحليلاً علمياً منهجياً لبيان أوجه الضعف والقصور فيه من حيث تناقضه وتهافته وعدم مصداقية دعاته وهم كُثر. وفي تصوري أن هذا المؤتمر يعد أول مؤتمر فكري عام يتصدى لطروحات مدعي الوسطية من تيار الإسلام السياسي ومن «الإخوان» بالذات وذلك على المستويين النظري والعملي. فعلى المستوى النظري أوضح المتحدثون عبر أوراق بحثية موثقة ما يتسم به هذا الفكر من تناقض بين ادعاءاته الوسطية والاعتدال ثم تبريره للعنف والفكر العنيف، وتسويغه لمن سماهم الجهاديين وعدوانهم على الأمنيين. وعلى مستوى الممارسة العملية في الحكم والسلطة والتشريع والاقتصاد والإعلام، تجلى ذلك في ممارسة الإسلاميين الحركيين للإقصاء والانفراد بالقرار.
ويُحمد للمؤتمر دعوته للإمام الأكبر شيخ الأزهر ممثلاً لثقافة الوسطية الحقيقية، ولتكون له الكلمة الرئيسية، وما ذلك إلا لأن الأزهر بمناهجه وثقافته ومؤسساته ورجاله، ممثلون بحق للثقافة الوسطية، لذلك فإن دعم الأزهر هو دعم لثقافة الوسطية في مواجهة الغزو الذي يتعرض له.
وختاماً فإن «الوسطية والاعتدال» هما ثقافة ومواقف وسلوكيات وممارسات لا شعارات دينية وسياسية يرفعها مدعون للتكسب السياسي، ومستقبل هذه الثقافة، يعتمد على قدرتنا على غرس قيم الاعتدال والوسطية في التربة المجتمعية بدءاً من المنظومة التعليمية مروراً بمنظمات المجتمع المدني صعوداً إلى الخطاب الديني والثقافي والإعلان التشريعي والسياسي.
ويبقى أن نذكر إشادة الحضور بدولة الإمارات، كونها أرضاً لثقافة الوسطية والاعتدال وموطناً لثقافة الحوار مجسدة في أكثر من 70 هيئة متخصصة للدراسات الإسلامية ومراكز البحوث.