حمده خميس –
مقهى السأم
لماذا يكون الإنسان ظلاً للآخرين؟ همست لنفسها بأنها لا ترغب أن تكون ظلاً للآخرين أو لأي أحد. لكن الواضح أنها ظل ذاتها الغامضة حينا، الواضحة المعالم حينا آخر. ظل نفسها المنقسمة، المتحدة. ظلها هي التي تتصارع فيها ذاتان، أو شخصان: ذات متمردة ثائرة عديمة الرضا، وذات مستسلمة، ساكنة وربما يائسة، حائرة مختنقة الحماس لكل شيء حتى في انتفاضتها، في حركتها. ولكنها مع ذلك قوية. كلتاهما قوية، الأولى في تمردها والثانية في سكونها، في تبلدها، في رغبتها الميتة. كلتاهما تتصارعان، كلتاهما قويتان، وهي الجسد، الإطار الذي يضمهما، يعاني التعب والإرهاق. كلتاهما يعمل بجسمها وعقلها. كلتاهما تنهكانها. تسلبانها نعمة الصحة والعافية. لقد أوهنا جسمها وعقلها وأذاباه. وربما بدافع اليأس، وربما بدافع الحقيقة أنها تجد بعضاً من عزاء، أو يجدان بعضاً من غفلة في قطعة موسيقى شفافة تنقلها إلى عالم تسمو وتهفو إليه بكل جوارحها. عالم ذاتها الراغبة، علم ذاتها القادرة المبدعة. ولكن دون أن تتغلب على الذات الأخرى. ليت لها قطعة منها. ليتها تمتلك وسائل تقوي ذاتها الرائعة المتمردة الخالقة.. ليتها تمتلك حريتها، أجل حريتها. هل تبدو حرة هي؟ كلا ألف كلا إنها مقيدة بذاتها المستكينة ذات الرغبة الميتة، مقيدة بها. حتى أنها لا تكاد تشعر أنها حرة. لمَ إذن هي مقيدة إذا لم تكن مقيدة بها، بعالمها المرير المحيط بها. أليست قادرة على خلق عالم أفضل لنفسها؟ أليس كون هذا العالم مؤلم وقاس ومليء بالأشواك، دافعاً لأن تخلق، لأن تزرع، لأن تنزع الأشواك. لأن تضمد الجروح لتخف حدتها.
أجل.. أجل كل هذا ممكن لو أن ذاتها النازعة إلى الإبداع، ذاتها المتمردة تنتصر، تسحق الذات المستسلمة الصادفة عن كل شيء، عن الشوك والوردة، الألم والسعادة. إنها مجرد ذات،لا شيء يحمل لا شيء.. إنها حس لا يحمل حس!!
◆◆◆
هل فعلت هي ذلك حقاً؟! أجل فعلته. ولكن كيف تصرفت. ولم هي ثائرة على نفسها الآن؟ نفسها! أهي التي دفعتها لأن تفعل ذلك.. ماذا تريد، وماذا تريد؟.. ولكنها كانت سعيدة لا بل كانت تعيسة يهزها الشوق، يحرقها، يعذب لياليها ويضجر نهارها. كان يمر مملاً كئيباً، ولكن تتمنى لو أنها كنت هناك. أجل تتمنى.. لم يعد الشوق يهزها الآن إلى أي شيء، ولن يعكر مزاجها، لن يجعل من جدران غرفتها المسكينة تزحف وتزحف من كل اتجاه نحوها فتضيق وتضيق وتعتصرها بين جدرانها حتى تكاد تختنق، وتكاد تصرخ. ثم تهدأ وتتنفس. ثم تعود المعركة وتعود تتخبط، وتعود تشتم وتلعن. ثم ينتشلها النوم ويحتضنها في رفق وحنان حتى ظهر اليوم الثاني. فتفتح عينيها لتجد أن الساعة تتجاوز الحادية عشرة فتغتسل وتترك غرفتها حبيسة الجدران التي تحتويها.. دون إفطار تخترق الشوارع ساهمة تسير متفرجة على ما حولها دون إدراك. تبحلق في الناس والأشياء والشمس الساطعة تحرق جلدها وتدفعها إلى إغلاق عينيها فتخشى التعثر. لكنها تسير، تجرها عربة السأم بطيئة وئيدة ثقيلة. ويظمئها القيظ فتقترب من بائع العصير وتشرب كأساً من مزيج الفاكهة، وتعرج على المقهى الذي يحتوي كل ركاب العربة!