قّدم الدكتور سيار الجميل استاذ تاريخ الشرق الاوسط محاضرته في مؤسسة الحوار الانساني في لندن من على منصة زووم الساعة السابعة من مساء يوم الاربعاء 13 يناير / كانون الثاني 2021 وتحدث المحاضر من تورنتو في كندا مع مشاركة لفيف من المثقفين والمهتمين، وقدم المحاضر الاستاذ صادق الطائي الذي رحب بالمحاضر وقال ان المحاضرة تعالج موضوعا معقدا ومركبا ولكنه ممتع ومشوق وطرحه صاحبه من خلال اسئلة اشكالية وحفريات علمية مستكشفا اللامفكر فيه والغاطس من تاريخنا العراقي الاجتماعي والثقافي حتى اليوم .
بدأ الجميل بتقديم بحثه شاكرا المؤسسة استضافتها له ، وتكّلم في البدء عن منهجه الذي اختزل فيه موضوعه الموّسع ليلقيه في ساعة من الزمن طارحا معنى ” المهجر ” و ” المهجريون ” قاموسيا ومعرفيا ، وتساءل : لماذا يعد العراق طاردا لاهله وجاذبا لغيرهم على امتداد التاريخ ؟ ثم حلل العوامل والمسببات وراء الهجرة او النزوح او المغادرة او الهروب او الانتقال من ابناء مدن العراق الى اماكن واقاليم ودول أخرى وقال بأن التاريخ يخبرنا أن اولئك الذين نفروا من العراق كانوا طلاب علم ، أو علماء ، أو تجار، او سياحة ، او دعوات دينية ، او هروبا سياسيا ، او لجوءا انسانيا ، او نفورا اجتماعيا، او ملاحقة قسرية ، أو اسرا عسكريا ، أو نفيا سلطويا ، أو لجوءا وخوفا من الارهاب ، أو تبشيرا فكريا أو مذهبيا .. الخ ” وأردف مؤكدا بأن أغلب العراقيين الذين كتبوا عن الموضوع نتفا أو سيرا عزا كل واحد الى أسباب معينة وأغلبها تنصّب منحازة لهذا الطرف او ذاك بعيدا عن التثبّت والتدقيق.
لقد قسم المؤرخ الجميل مضمونه تحقيبيا على امتداد خمسة قرون مركبة، وذكر بأن كل قرن يأتي بعد سابقه يكون أكثر اكتنازا ، وانتقد استخدام ” الفترة المظلمة ” التي كان اطلقها طه حسين ، ولكن تاريخنا الحديث لم يكن مظلما بدلالة توصيف المؤرخ مجيد خدوري له بالتاريخ المسكوني وانتهى بتوصيف المؤرخ سيار الجميل له بالتاريخ السكوني !
عالج الباحث موضوعه تحقيبيا حسب تسلسل القرون 16 – 17 – 18 – 19 – 20 وقال : أن العراق في القرنين 16- 17 لم يكن مظلماً كما كان حال مصر، فعلى مدى 200 سنة كان هناك الواسطي البغدادي، ويوسف بن علي بن برهان، والرضائي وكبار الشعراء أمثال : فضولي البغدادي وشمسي وفضلي ، وعهدي ، وروحي .. وهناك في بداية القرن 17 نظمي وخادمي وذهني وكلامي وغيرهم ، ثم يأتي الحائري، والكعبي، والطريحي، والغرابي، والنحوي، والعمري .. وغيرهم كثير من المهجريين الذين تركوا العراق واختاروا لهم مواطن اخرى غيره متخذين من العاصمة استانبول مستقرا لهم ، وذابت ذريتهم فيها . ولقد استمر هذا في القرنين 18 و 19 . وكانت طبيعة ثقافة تلك النخبة عالية المستوى مختلفة كثيراً عن طبيعة التقليديين، إذ كانت أكثر تحرراً من القوالب الجامدة، وأقل ارتباطاً بالمناهج المتوارثة التعليمية الدينية، واكثر تأثراً بآداب الأمم المجاورة الأخرى ..
ثم تحدّث المؤرخ الجميل عن هجرة التجار واقامتهم في الهند وهم يتاجرون بالخيول العربية التي استفاد منها الهولنديون والانكليز في سباق الداربي الشهير ومن ثم نقلها الى انكلترا واشتهرت الموصل كونها المدينة الوحيدة في الشرق في تربية الخيول المحسنة المشاركة بهذة السباقات . وهنالك أيضا تجارة رائدة مع موانىء اوربا الغربية على سواحل المتوسط. هي تجارة الانسجة ومنها اقمشة الموصليين او الموسلين الرائقة والتي كانت مشتهرة جداً بسبب الطلب المتزايد عليها من الطبقات الارستقراطية الاوربية. وما تنتجه نولات الموصل في الجومات العميقة . ولم يقتنع الباحث ان رئيس ايطاليا بنديتو موسليني هو من اصول موصلية كما جاء في واحد من البحوث حول اصول الاسم Mussoliniوقال : اعتقد ان هذا الخبر حتى لو كان صحيحا ، فان الموصل لا يشرفها انتساب ابو الفاشية اليها !
وانتقل إلى القرن 17 عندما غدت البصرة متنفساً حقيقياً ورئة للعراق وسميّت بفينيسيا الشرق ابان العصر الماركنتالي. وفي حين كانت هناك مجتمعات عربية ميتة ابان القرن 17، كانت فلسطين متقدمة جدا ، وكان أحد العراقيين قد وصل إلى أميركا الجنوبية ليكون اول شرقي آسيوي عراقي يصل هناك وهو الياس بن حنا الموصلي ، وهو من أبرز شخصيات العراق في نهاية القرن 17، (كان حياً سنة 1692م) اذ قام برحلة سياحية طويلة إلى قارتي أوربا وأمريكا، إذ غادر بغداد سنة 1668م، ومر بحلب فالإسكندرية فالبندقية فروما، ثم فرنسا وإسبانيا ومنها رحل إلى قارة أمريكا الجنوبية ، فمر بأجزاء من بناما وكولومبيا وبيرو وبوليفيا وشيلي ثم المكسيك، وعاد إلى روما سنة 1683م، ليقضي فيها ما تبقى من حياته، ولم نقف على تاريخ وفاته، لكنه طبع في روما كتاباً سنة 1692م ويعد هذا الرجل العراقي أول سائح شرقي/ أسيوي زار العالم الجديد بعد استكشافه من قبل الاوربيين .هناك شخصية مهجرية عراقية موصلية اخرى يتمثلها العلامة يوسف عتيشة الموصلي المولود بالموصل عام 1599 وتوفي في المانيا عام 1680. سافر الى فلسطين ، ودرّس اللغات السامية وتاريخها ، ثم سافر الى المانيا ملتحقا بمعهد الاستشراق التابع لجامعة فيتننبيرغ . وغدت له مكانته الرفيعة ، ولم تزل صورته المحفورة على الخشب موضوعة في رواق الجامعة اعتزازا وتكريما له .. وكان هناك عدد آخر من المهجريين امثال : الطريحي النجفي وعبد القادر بن عمر البغدادي المتوفى في القاهرة، صاحب “خزانة الأدب”
أما في القرنين 18و 19، فيبرز خضر بن إلياس هرمز والعلامة فتح الله الموصلي الذي عاش في دارندة..وهناك خورشيد باشا واحمد عزت باشا الفاروقي محرر جريدة زوراء في بغداد ومحمد رشيد بن داود السعدي الرحالة الذي اسس مطبعة في بومباي بالهند .وبرز العلامة اقليمس يوسف داود الذي انتخب عضوا عاملا في الجمعية الاسيوية الملكية البريطانية سنة 1890 ، وعد من رواد النهضة الفكرية العربية . وهناك الفيلسوف رسول مستي افندي ، صاحب كتاب ” حوادث وعناصر ” الذي نشر سنة 1873م والذي سبق جارلس دارون في افكاره عن اصل الانواع . وهناك الموسيقار الضرير الملا عثمان الموصلي المعلم الاول للفنان المصري سيد درويش بتأكيد الوثائق المصرية . وهناك كل من جرجس عبد يشوع خياط و اغناطيوس بهنام بن بني في روما والعلامة أدي شير في باريس و محمد مهدي كركوكي استقر في مصر وعمل مترجما للفارسية عند اسرة الخديوي اسماعيل .. ويقف المؤرخ الجميل عند شخصية ماريا تيريزا أسمر ( 1804- 1870 م) التي تنقلت بين مهاجر عدة بين فلسطين ولبنان وحظيت بمكانتها في قصر الدين لدى الشهابيين ثم عاشت في روما وباريس ولندن ووصلت الى الملكة فيكتوريا والفت كتابا من جزئين بعنوان ” اميرة بابل ” وعند نهايات القرن 19 هاجر عبد المحسن الكاظمي عبر ايران والهند واستقر في مصر التي اعتبرها مهجرا له ..
ويقف المؤرخ الجميل عند الضباط العراقيين القدماء في مهاجرهم بدءا بمحمود شوكت باشا وهادي باشا العمري وسامي باشا الفاروقي وغيرهم محللا مكانتهم وادوارهم .. ويحكي لنا عن قصص بطولية عنهم مقترحا ان تكون قصة توفيق الدملوجي في هروبه من سيبريا الى الصين وكان اسير حرب سيناريو درامي لفيلم اكشن ! كما تناول شخصيات كردية عراقية من المهجريين وادوارهم القوية في الدولة او في مصر الخديوية ومنهم يوسف ضياء باشا و احمد فائزالكلزردي البرزنجي و الوزير عزت بك خندان اخو سعيد باشا وزير الخارجية العثماني .. وامير اللواء اسماعيل باشا بابان ومصطفى ذهني باشا بابان وولده اسماعيل حقي بك بابان الذي كان يصول ويجول من اجل المصالح العراقية ونشر كراسا بعنوان ” رسائل العراق ” عام 1913 ، وهناك سليمان نظيف بك وغيرهم . ثم انتقل ليحلل الرواد الكلدان الأوائل ووصولهم الى العالم الجديد وكان من اشهرهم بول شيكوانا ويوسف شمم و شمعون دابش وججو حجي والقس توما بيداويد وغيرهم عند مطلع القرن العشرين ممن استقروا في كندا واميركا والمكسيك . ويحدثنا الجميل عن المستشرقة نبيهة عبود التي غادرت العراق منذ طفولتها لتغدو مؤرخة شهيرة في جامعة شيكاغو.. وهناك الشاعر احمد الصافي النجفي الذي تنوعت مهاجره بين ايران وسوريا ولبنان .. وهناك يونس بحري بقصصه العجيبة في المهاجر ، وهناك احسان دوغرامجي عميد الاكاديميين في تركيا ، وايضا محمد محمود الصواف الذي اتخذ من السعودية مهجرا وهو مؤسس الاخوان المسلمين في العراق ويتناول المؤرخ الجميل ذكر عشرة فنانين عرب كبار من أصول عراقية ومن الموصل بالذات ، هم نجيب الريحاني وأنور وجدي وزكي مراد وابنته ليلى مراد وابنه منير مراد وصلاح نظمي ( ابن احمد درويش افندي ) وكنعان وصفي ومنى واصف جلميران واختيها الفنانتين هيفاء وغادة .. كما ذكر اسماء نسوة ورجال عراقيين اشتهروا في مهاجرهم في اوروبا واميركا والشرق الاوسط ..
وخلص المؤرخ الجميل في نهاية محاضرته : كيف كان نزيف العراق البشري منه في حركة نحو مهاجر عدة في العالم ، منذ الحرب الاولى انتقالا الى هجرة الاثوريين في الثلاثينيات ثم هجرة اليهود في الابعينيات والخمسينيات ثم هجرة الملكيين علم 1958 ثم القوميين والمسيحيين اثر حوادث الموصل 1959 ، ثم هجرة الشيوعيين 1963 و 1979 ، ثم مأساة الحرب في الثمانينيات ثم مأساة الحصار في التسعينيات وهلم جرا لما بعد 2003 !!