صادق الطائي –
استضافت مؤسسة الحوار الانساني بلندن يوم الاربعاء 12/8/2015 القاصة والروائية العراقية الاستاذة سميرة المانع في امسيية ثقافية تحدثت فيها عن دور المبدع في المجتمع و اثر العزلة عليه وتجربتها الشخصية في كتابة القصة القصيرة والرواية. والاستاذة سميرة المانع ولدت في البصرة – العراق وهاجرت الى بريطانيا حيث تعيش منذ العام 1965 ، وقد صدر لها في حقل الرواية (السابقون واللاحقون ، حبل السرّة ، القامعون ، شوفوني.. شوفوني، مَن لا يعرف ماذا يُريد والثنائية اللندنية) اما في حقل
القصة القصيرة فقد صدر لها (الغناء ، الروح وغيرها) ،كما صدر لها في حقل الترجمة (رواية صباح الخير يا منتصف الليل للروائية جين ريس) . وقد عملت سكرتيرا لتحرير مجلة الاغتراب الادبي طوال مدة صدور المجلة ،كما اشتركت في العديد من المؤتمرات والندوات الثقافية في العديد من دول العالم.
عوالم الروائي
وقد ابتدأت الاستاذة المانع كلمتها بالقول ؛شُبه كتّاب الرواية في الماضي بالمحارة، فهم انطوائيون ، داخل صَدفة،قيل هذا قبل انتشار وسائل الاعلام وثقافة الشهرة نتيجة الاتصالات والعلاقات العامة. كانوا، أنذاك، يفضلون الانعزال، وان الحكم عليهم لم يكن يتم الا من خلال قراءة كتبهم فقط ، يختلفون في سلوكهم الابداعي، عن الممثلين والمغنين والشعراء، اولئك الذين يتلقفهم الجمهور، وجها لوجه ، ببهجة وانتعاش،و يتبادل معهم ما يفعلونه من نشاط، بلهفة وانبهار. يقابلونهم بتصفيق حاد، فهم مصدر ارتياحه في لهوه وانسه . واوضحت قائلة ؛ليس بامكان كاتب الرواية ان يبهج المستمع على طول الخط كما يفعلون، بسبب كونه يتحدث عن الحياة ، والفرق بين الكاتب الروائي والفنانين الآخرين ، ان الاول في عزلته يتحدث عن سلوك البشر وافعالهم في حياتهم اليومية ،وكما قالت الاديبة الاميركية ( سوزان سونتاك ) مرة 🙁 اريد ان اعيش بالقدر الممكن لارى كيف يكون العالم سخيفآ ) .
ثم انتقلت الاستاذة سميرة المانع قائلة، حقيقة، وكما لا يخفى عليكم ، قليلا ما يبتهج المرء بالعالم، بسبب افعال الانسان به و كيف يغدر بأخيه ، الانسان غالبا ماكان كثير الطمع، قاسيا، انانيا، مخترعا وسائل مدمرة من اجل الحروب لازالة خصمه من الوجود. مع كثرة الكراهية والغيرة والاحقاد عنده. ولهذه الاسباب، تكون الكتابة الروائية محاولة لفهم سلوك الانسان، هذا المخلوق العجيب.
ثم تحاول سميرة المانع ان تقدم فرشة من الامثلة من التجارب الروائية فتشير قائلة ؛وكما تقدم، النثر والرواية بالذات وليد العزلة والتفكير الصامت، المعاناة المتوحدة اثناء العيش مع الابطال بانفراد. الكاتب مسؤول عن سلوكهم ومشاعرهم، في جعلهم شبه احياء ليحاسبوا اويمتدحوا ،والقاريء هو الحكم عليهم اثناء القراءة ، بينما يظهر الكاتب مسؤولا عن خلقتهم وسلوكهم آنذاك، يُحاسب ويُنتقد اذا ظهر ابطاله اشخاصا مزيفيين غير مقنعيين وحينها ستكون روايته فاشلة في نظر المتلقي، ففي حياة الروائية (جين اوستن) التي عاشت قبل مائتي سنة تقريبا، تحدثت عن سلوك الانسان بتقنية عالية ، فيها الكثير من العمق السيكولوجي والسخرية الخافتة، ولقد كانت حياتها الشخصية خالية من الاحداث المثيرة، خامس طفلة من بين سبعة، علاقاتها دائمة الوئام مع عائلتها ، كانت تسرع لاخفاء اوراقها تحت منضدة المطبخ اثناء دخول زائر ما لتعاود تقشير البطاطة. اربعة من كتبها طُبعت، اثناء حياتها، باسماء مستعارة ، وتباع بالملايين الآن. ولقد اشار نقاد جين اوستن الى ان قرائها ارادو ان يقرأوا عن انفسهم وهذا ما تقدمه لهم اوستن فازداد الطلب على على اعمالها بعد وفاتها.
وتستطرد الاستاذة المانع مبينة ان تطورا كبيرا حدث في تقنيات السرد ، فبدلا من ذكر حكاية ما جرى للبطل ،يجب ان ندخل الى وجوده كشخصية حية ، نفهمه وننغمر في جوه وعالمه الخاص، بمعنى ( الحضور الحقيقي للشخصية) ،لا فائدة من قول الكاتب ان الشخص كان كذا وكذا . لا يكفي ان نقول ان فلانا بخيل أو اناني وانما نترك افعاله توضح لنا ذلك. اليوم بات مطلوبا من السارد ان يعطينا بيئة الابطال وشخصياتهم،وانفعالاتهم وعوالمهم الخاصة حتى نشعر وكأننا نعرفهم ،كما ان الرواية الحديثة تعتمد على السيكولوجية المتخيلة للافراد، ولا يهم ان يكون البطل موجودا في الحياة ولكن يجب ان تكون شخصيته محتملة الوجود فيها.
العزلة والروائي
تقول الاستاذة سميرة المانع ان العزلة للروائي لاتعني مقاطعة العالم والهروب منه ، بل العكس، هي التمعن فيه ، اعادة المشاركة بالمعاناة، الالتزام بمصائر الابطال وايجاد حلول لها إذا امكن، حيث يود الكاتب ان يفسر من شكّل هذا ومن فرض ذاك، من قدم نفسه ومن اُبعد، كيف جرى الامر ، وباي حق، ولماذا ؟! وغير ذلك من الاسئلة الملحة. آخرها هل يستطيع الانسان ان يحقق توازنه بصفات جوهرية كالصدق والنزاهة والزهد…الخ. ثم تبين ان الكاتب المنعزل يحاول ان تكون روايته ذات رؤية واضحة جلية وليست مضببة لا يعرف تصفيتها فنسميها “غامضة” ان ذلك يعد عجزا وقلة مهارة ، خصوصا عندما يقرأها المرء فلا يخرج منها بشيء مفيد يشير لفكرتها على الاطلاق ، تبدو وكأنه لم يقرأها. وانا ارى ان الرؤية الختامية مهمة حتى لو كانت متشائمة وفيها الكثير من التساؤلات.
وتسطرد في القول ؛احيانا يفضل الكاتب الابتعاد عن الامور الغرائبية الا في الحالات الضرورية، كون مجتمعنا ، في اعتقادي لا يختلف عن غيره من المجتمعات، الاشخاص فيه يتمتعون بصفات لا تقل عن غيرهم، كصفات المكر والحيلة والغش ، الطيبة والنبل والدماثة وما شاكل من الصفات الانسانية ، كما ان لدينا ما لدى الشعوب الاخرى من تطلعات وبؤس واحلام وقباحات . كلنا بشر متشابهون. وكل هذه الصفات تظهر في الروايات عندنا ولديهم. حين تتوفر الحساسية والتوتر الشديد في السرد، وهنا لابد من الاشارة الى ان تطوير ملكات وادوات المبدع بالمطالعة المستمرة المتأملة امر مهم بل اساسي في ابداع الكاتب، وكما قيل، اذا تُرك الامر للطبيعة ، دون رعاية، يفقد الثمر جودته وينضب شجره، مثل بذرة اذا القيت في ارض يباب.
الكاتب واضواء الشهرة
تشير الاستاذة سميرة المانع الى ان ابتعاد الكاتب عن اغواءات الشهرة امرا ضروريا، كي لا يُقحم نفسه لمجرد ظهور اسمه ككاتب تحتفي به وسائل الاعلام .. وتوضح قائلة ، ان الروائيين عادة ما يكونوا انعزاليون بطبيعتهم، لكن في عصرنا الحالي تغيرت الحالة بشكل اضطراري، لقد امتلأت الساحة بكثرة ظهورهم عن طريق انفتاح وتوسع وسائل الاعلام ، فاصبح الروائي يحاول ان يزاحم الاخرين على الكاميرات والمقابلات والتصريحات والاجوبة على الاسئلة الصحفية في المهرجانات واللقاءات الادبية. ويطرح بعض الكتاب انفسهم وكأنهم يمتلكون رأيا في كل شيء، كي تنتشر اعمالهم عن هذا الطريق ، سيما اذا كان لديهم صحفيون اصدقاء. والا سيهمل ويسدل الستار على الروائي ولو كان متفوقا . رغم هذا ، الاجدر ان تبحث الشهرة عن الكاتب وليس العكس، ففي الحالة الاولى ستذهب شهرته بمجرد موته او ابتعاده عن الميدان.
ختامها قراءة في رواية
واخيرآ تقول الروائية سميرة المانع ؛ لقد لوحظ اليوم ، ان الاهتمام بالاعمال الابداعية السردية اخذ بالتنامي في عصرنا وبات يطلق على الرواية اسم (التاريخ غير الرسمي للشعوب) او التاريخ اللين للحضارات بموازاة التاريخ الصلب او الرسمي الذي يكتبه المؤرخ ، لذلك بات يعتمد اليوم في بعض الاحيان، على الاعمال الابداعية من قصة ورواية ليؤشر على صفات المرحلة التي يعالجها الباحث اثناء بحثه.
والخلاصة ،ان الرواية اليوم تعكس الحياة باستمرارية البحث عن تصرفات البشر، بكل تجذرها وقيمها ومعاناتها وهموم وشؤون من يعيشها في المجتمع المعين الذي تدور فيه الاحداث.وقد ذكر الناقد والتر بنجامين مفسرا اهمية عزلة الكاتب اثناء الكتابة قائلا : ( ان مسقط رأس الرواية هو الفرد المنعزل) ، وهنا اريد ان اقرأ لكم مقطعا من احدى روايتي اعتقد ان فيه بعض الدلائل والايضاحات على ماذكرته من تناول نظري سابق . ثم تلت القراءة طرح العديد من الاسئلة والمداخلات من الحضور انصبت اغلبها على معنى العزلة وموازنة عزلة الكاتب الروائي مع اهمية معايشته ومعرفته للمجتمع الذي يكتب عنه وقد اجابت الاستاذة المانع على الاسئلة مبينة وجهة نظرها في اهمية توفر العزلة للكاتب اثناء الكتابة ودورها في تخمير الافكار التي يريد ان يبينها في عمله الابداعي .