تستضيف مؤسسة الحوار الانساني بلندن د. اسماعيل نوري الربيعي في امسية ثقافية يوم الاربعاء 2/12/2015 يتحدث فيها عن رؤية مغايرة للتاريخ عبر قراءة للتاريخ العراقي من زاوية الإنسان العادي، لا النخب و الزعماء و الوجهاء الذين أشبعوا درسا
و تمحيصا و قراءة، إنه مسعى للغور في التفصيلات التي تتعلق بحياة الانسان العادي في العراق .
الدكتور إسماعيل نوري الربيعي ؛ باحث و أكاديمي عراقي ، مهتم بدراسة التاريخ الثقافي . له العديد من المؤلفات المطبوعة و الأبحاث العلمية ، شارك في العديد من المؤتمرات الدولية .
التاريخ من أسفل – قراءة في القاع الاجتماعي العراقي
صادق الطائي
ضيفت مؤسسة الحوار الانساني بلندن الدكتوراسماعيل نوري الربيعي في امسية ثقافية يوم الاربعاء 2/12/2015 تحت عنوان (التاريخ من أسفل – قراءة في القاع الاجتماعي العراقي ) تحدث فيها عن رؤية مغايرة للتاريخ عبر قراءة للتاريخ العراقي من زاوية الإنسان العادي، لا النخب و الزعماء و الوجهاء الذين كما اشار في محاضرته بانهم قد أشبعوا درسا و تمحيصا و قراءة، وبين إنه يقدم مسعى للغور في التفصيلات التي تتعلق بحياة الانسان العادي في العراق .والدكتور إسماعيل نوري الربيعي ؛ باحث و أكاديمي عراقي ، مهتم بدراسة التاريخ الثقافي . له العديد من المؤلفات المطبوعة و الأبحاث العلمية ، شارك في العديد من المؤتمرات الدولية .
قدم الدكتور الربيعي في بداية محاضرته تعريفا بالمنهجية التي استخدمها في تناول الموضوع مشيرا الى انها منهجية لم تعد حديثة في الدراسات التاريخية ،اذ انها استعملت منذ سبعينات القرن العشرين وعرفت بمنهج التاريخ الجديد ، الذي يقوم على دراسة (التاريخ من أسفل) ، حيث التطلع نحو قراءة الأحداث من زاوية الإنسان العادي، لا النخب و الزعماء و السراة و الوجهاء الذين أشبعوا درسا و تمحيصا و قراءات. واشار الى انأهمية هذا المنهج تكمن في ترصد التجارب الآيلة إلى الانقراض ، بافتراض عدم أهمية منتجيها و متداوليها،فكم من المواقف تم إغماطها و التغاضي عنها تحت دعوى عدم أهمية من أنجزها ، وكم من الأحداث تم تجاوزها انطلاقا من تركيز موجهات النظر نحو الأكثر أهمية و الأشد مضاء و حضورا في تشكيل الواقع . فيما يكشف منطق التاريخ العميق و الأصيل عن بلاهة التمفصل و التجزئة في التاريخ . إذ لا وجود لما هو مهم و آخر أكثر أهمية.
وذكر د.اسماعيل الربيعي مفهوم ( الترميم Restoration ) الذي اشار اليه عالم الانثروبولوجيا الفرنسيكلود ليفي شتراوس حول ؛ التغير الاجتماعي و قضايا الإندماج و تشوش القيم واهتراء النماذج الثقافية والاجتماعية .كما ان روجيه باستيد تناوله في تبيان الحاجات الرمزية و ترصد الاختلال الثقافي والاجتماعي والوهن الذي يطال صميم العلاقات و الروابط و المثل و المعايير و القيم السائدة ،والوضعية التي يتعرض لها الوجدان الجمعي إلى الثقوب ( Holes) ؛ جرّاء التغيرات الحادة الكبرى مثل النزاعات و الحروب و الجوائح و التهديدات التي تطال مفاصل الحياة الرئيسة ، وبين كيف تتطلع تلك الجماعة إلى استحداث ممارسة ثقافية ،يتم من خلالها مواجهة الأخطار التي تهدد عقلها ووجدانها الجمعي وذاكرتها الثقافية .
وبين د. الربيعي ان هذا المنهج يمثل مسعا للغور في التفصيلات التي تتعلق بالعامة ، حيث الجمهور الذي يعيش و يتنفس و يكره و يحب ، و يشاغب و تنطلق بين جنباته الإشاعات و الأقاويل و الترهات و الحقائق و التقاطعات ،هو الذي يجب ان تنصب عليه الدراسة والتركيز على أهمية الاقتراب من فهم الجماهير و مدركاتها و مواقفها و مشاعرهاو الأسباب الكامنة و راء التحديات و الرؤى و التصورات و الإرادات و الموجهات التي تحكمه سعيا نحو إعادة بناء مستوى العلاقات التي تنتجها و طريقة تعاطيها مع الواقع والمواقف الصادرة عنها .
ثم استطرد د. الربيعي مشيرا الى ان التعاطي مع التاريخ بحسب هذا المنهج إنما يقوم على ( الوعي بالواقع) الذي يتشكل من العلاقة الصميمة بين المكونات و الأجزاء و تلاحمها ،فليس من المعقول أن يظهر قائد من دون جنود ،و لا يمكن لملك أن يعيش من دون رعية ولايمكن لعظيم أن يحس بعظمته أو حتى تمييز معالم العظمة لديه ، من دون مقارنته مع أقرانه و مكافئيه ،إنها الوضعية التي تذكرنا بحالة نابليون بونابرت حين سئل عن سر هزيمته في معركة و اترلو ، فكانت إجابته ؛ ( إنه ركّز على أشجار الغابة ، دون أن ينظر إلى الغابة كلها ) .
وبين د.اسماعيل الربيعي ؛و هكذا تتبدى أمامنا ثنائية ؛ الكل و الأجزاء ، المظهر و الجوهر ، الرئيس و الثانوي ، الجوهري و الطاريء، المتون و الهوامش ،والتاريخ الجديد يكون بمثابة الفسحة التي تتيح للمؤرخ البحث في قضايا جديدة تكون بمثابة المعبر نحو طرح الأسئلة غير المفكر بها ،باعتبارها التعاطي مع الوسيط الأوسع و الأرحب الذي يتمثل بالناس و خطاباتهم و تداولاتهم و مشغلاتهم و أنّاتهم و أوجاعهم و أحزانهم و مسراتهم،إنها بوابة الولوج و الدخول في صميم الخطاب الإنساني ، و التفاعل في صلب الفضاء العمومي .
ثم عرض د.الربيعي مجموعة من صور الحياة اليومية للعراقيين في مطلع القرن العشرين محاولا تقديم قراءة تحليلية تاريخية اجتماعية لتفاصيل الحياة اليومية من الاشكال الى الازياء والمهن ووسائط النقل والعمارة وغيرها عير عرض اكثر من 20 صورة فوتوغرافية قديمة استخدمت كوثائق مرئية لتقديم قراءة للتاريخ من الاسفل.
ثم انتقل د.اسماعيل الربيعي الى مفهوم اخر في محاضرته وهو الفضاء العام أو المجال العام ( Public Sphere ) الذي يتكوّن من أمكنة مثل (المقهى، الصحافة، المحكمة، الراديو، أماكن الاجتماعات..) حيث يجتمع المواطنون لمناقشة مواضيع تتعلّق بالمجتمعإذ يثير الأفراد في هذه الأماكن نقاشات أو يقومون ببعض الأعمال (إضرابات، عرائض، تظاهرات..) تتعلّق بالصالح العام ويمكن لها أن تؤثّر في القرارات السياسيّة“،فهو إذن يمثّل حيّزا من الحياة الاجتماعيّة ينشأ عبر تفاعل الأفراد وحواراتهم الحرّة والعقلانيّة مع بعضهم البعض في مسائل تخصّ الصالح العام، بقطع النظر عن انتماءاتهم والفروق التي قد تكون موجودة بينهم، ويمكن من خلاله أن يتمّ تشكيل ما يقترب من الرأي العام.
ويكاد يتّفق علماء الاجتماع على أنّ الفضل في بروز هذا المفهوم يعود إلى الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورجن هابرماس الذي قدّمه في سياق نظريّة واضحة المعالم من خلال كتابه الصادر سنة 1961 تحت عنوان: “التحوّل البنيوي للمجال العام” (Structural Transformation of the Public Sphere) ،واشار الربيعي الى ان مفهوم الفضاء العام يمنحنا التركيز على الاقتراب من تفصيلات دنيا العيش و الوقوف على المجمل من التفاصيل التي تزخر بها أساليب الحياة ،و بالتالي الوقوف على أنماط التفكير و الأحاسيس و المشاعر و الحياة الروحية ،والانفتاح على قراءة العقليات و المزاج النفسي لجماعة ما و طريقة تشكلها. إنها الفسحة التي يتم عبرها ترصد مكامن السيطرة و القوة وتوزيعاتها و الخضوع و التراتبية و سبل الوجاهة و التنافس على المواقع الاجتماعية ،والتقصي في صلب الغامض و الهامشي و المبتذل و المهمل . ليكون الانفتاح على طرح الأسئلة الجديدة الساعية للإفلات من براثن و سطوة و هيمنة الجاهز و المباشر و الشائع و المعروف ، الموغل في حقيقته و بديهيته .
وقد اشار اسماعيل الربيعي الى انه حاول تجنب استخدام مفهوم ( الوعي التاريخي )،و آثر توظيف مفهوم ( الممارسة التاريخية )لاعتبارات تتعلق بالبحث في طبيعة الممارسة و السمة الواسعة التي تنطوي عليها ، انطلاقا من احتوائها لنمطين يتمثلان في الممارسة التي تقوم على ؛ الإنتاج – الفعل ، و الوعي المستند إلى ؛ التأويل – الفكر. وذكر ان البحث في المستوى الوظيفي الذي توفره طبيعة العلاقة القائمة بين التعبير الدال Signifier و المحتوى المدلول Signified،و ليس الاحلال البديهي الذي تستدعيه المخيلة حول الربط بين كلمة و معناها . إنه المسعى للخلاص من براثن الدلالة Semantic ، حيث مستويات المعنى القائمة على ؛
1. التجريد وتنوع المصطلحات
2. السرد و تحقيق القيم
3. القول ووضع القيم في الكلام .
و التطلع نحو إنتاج الدلالة Semiotics ، حيث البحث في ؛
1. الطريقة
2. دلالة الشيء
3. الأشياء لا تولد دلالتها
4. الذات الملاحظة
5. إبراز المعنى
6. المعنى في نموذج
7. التأثير و الإدراك .
وذكر مثالا لذلك كلمة مثل الحرب العظمى تمثلها العراقيون بطريقة وظيفية ، قامت على المقارنة الفاضحة ، بين الدولة العثمانية المتهالكة و القوات البريطانية التي تبسط سيطرتها على نصف الكرة الأرضية ،هذه المقارنة لم تتحول إلى علامة خشية أو ذعر يدب في النفوس. و ذلك يعود إلى الإدراك الذي وقف عليه العراقيون لمعنى ( الوجود البريطاني ) من خلال السياق السياسي الذي كشف المزيد من اللبس حول هذه ( الإمبراطورية العظمى ) و التي تعمل من أجل مصلحتها .
وملابسات السياق Context بوصفه مجالا تكشف عنها :
1. النص والوحدة الدلالية
2. الواضح عبر الخطاب السياسي
3. المضمر حيث الأسباب
4. النظرفي أثره في الدلالة المنتجة .
وبين اننا لا نزعم بأن الفرد العراقي في تلك الحقبة ( الحضري أو العشائري ) قد بلغ الوعي السياسي العميق و الدال ، لكن هذه الأحداث الثلاثة كانت من سعة التداول ، إن تركت تأثيرها في النخبة المثقفة و المتعلمة ،والتي على الرغم من صغر حجمها إلا أنها استطاعت أن تستثمر المستوى الوظيفي في التعبير ، و تبث فيه المزيد من الشحنات المتعلقة بالمصير و لهذا تم التلازم بين مفردتين ، غدا تداولهما بافراط في الفضاء الاتصالي العراقي ( الوطنية – الاستقلال). هكذا تحول الصوت الذي همست به النخبة المتنورة ، إلى موضوع تم من خلالهإنتاج المواقف التي تبنتها العامة،ليتحول إلى مفهوم يعيش في صلب الممارسة التاريخية للمجتمع. ثم تناول الدكتور الربيعي مفهوما خر من خلال التعريف بنظرية الدور Role Theory التي تسعى إلى رصد مستوى العلاقات القائمة بين المراكز الاجتماعية ، و الممارسة الاجتماعية الفردية الصادرة عن هذه المراكز ،والتوقعات المرتبطة بالوضعيات و المكانة ، تلك التي تحدد و تعمل على ترسيم مستوى العلاقات في مجتمع ما ، إنها المعايير التي تحدد سلوك الفرد و تحدد مسار و ظيفته داخل الجماعة ،وهو القيمة التي يتم من خلالها تمييز المكانة و الدور و الموقف الاجتماعي.و من واقع البحث في الوضع الاجتماعي للفرد في البناء الاجتماعي ، تبرز أهمية التمييز بين السمات الشخصية و الأنشطة التي تميز عمله ،و القيمة المتحققة داخل المجتمع فيما تتبدى أهمية الموقف الصادر عن الفرد في التفاعل الاجتماعي .فيما تتبدى أهمية العلاقة القائمة بين الفرد و المجتمع من خلال ما يمكن أن يقدمه الفرد للجماعة ،و إبراز مجال الدوافع التي تحدد مسار دور الفرد حول قضية ما و لا يمكن فصل دور الفرد عن أدوار الجماعة الفرعية التي ينتمي لها أو الجماعة الكبرى التي يتفاعل وسطها،و مدى ارتباط مجال الثبات و التغير في المواقف بناء على مدى العلاقة القائمة بين الفرد و الجماعة التي يعيش فيها. و لايمكن إغفال تأثير نمط الجماعة ( الصغيرة أم الكبيرة ، المستقرة أم العابرة ، الحداثي أم التقليدي ، الريفي أم الحضري ) على تحديد دور الفرد.
وقال د. الربيعي وهنا لابد من ذكر مقاربات النمط الآسيوي للإنتاج بسبب تناول بعض الباحثين او ربطهم لهذا النمط مع الوضع الاقتصادي العراقي ،ان هذا النمط من الانتاج الذي يتميز بالاكتفاء الذاتي وغياب الملكية الخاصة وقلة التمايز الطبقي ، مما يضعف التطور الاجتماعي. كل ذلك قد تحول او ابتدأ بالتغير بعد خروج العراق من سيطرة الدولة العثمانية وسيطرة الحكومة المركزية القوية التي كانت تسعى نحو تحديث المجتمع. فشهد العراق مجموعة تغيرات ،حيث كانت الروابط القديمة التقليدية تربط بين الاجتماعي والاقتصادي في القرن التاسع عشر عبر علاقات وظيفية تخدم تماسك المجتمع القديم ،من ذلك مثلا تخصص القبائل او العشائر بمهن معينة مثل ، الحمالون:كانوا من عشيرة البو مُفرِّج ،والعَلوَجية (وهم أصحاب متاجر المنتوجات الزراعية، أو أسواق الجملة)همَ عشيرة الكُرْوية ،والحماميون هم عشيرة البو عَجيل ،والطباخون من عشيرة بني عِز،والعكامون (وهم خدم القوافل وحراسها) عشيرة البو صقر والجنابيون والسواكن،وصناع الحُصر: عشيرة الجعيفر ،وأهل الأطعمة (الأكمكجيون): جماعة الفلاحات،والمكاريون من جماعة الوشاحات،والقصابون هم عشيرة المهدية،والفحامون من عشيرة جميلة ،اما حراس المخافرفكانوا من عشيرة البو شِبل. ولم تكن هذه المهن تمثل نقصا في القيمة او الاهمية الاجتماعية بين القبائل بقدر تمثيلها لاحتكار اقتصادي على اساس الروابط الاجتماعية لما قبل الحداثة (القبلية)
المصدر: محمد خورشيد: سياحتنامه حدود ، ط. حجر استانبول، ص213- 216)
وكذلك ذكر الدكتور الربيعي في مجال الأوضاع الاقتصادية إن التحولات الاقتصادية كانت قد شملت العاملين في حقل التصدير.حيث كان توجيه القدر الأكبر من العوائد نحو تسديد القروض والفوائد لصالح المستثمرين والمقرضين.وتركز النفوذ المالي والاقتصادي بيد عدد محدود من العوائل التجارية والإقطاعية ،مما ادى الى بروز نمط الاستهلاك والرفاهية لدى فئات محدودة من سكان المدن والمرتبطين بفعاليات الإنتاج الرأسمالي.وتوجيه العوائد المالية نحو توسيع نمط الحياة الأوربية ، وتوظيفها في مجال السعي نحو النفوذ السياسي، والحصول على المناصب الرسمية،مما ادى الى تحالف البعض من الرأسمال الوطني مع توجهات ومصالح الرأسمالية الأوربية ، حتى أنهم عملوا على توفير المجال لصالح القوى الأوربية للتدخل السياسي في شؤون المنطقة.
وفي مضمار تناول تفاصيل الحياة اليومية كدراسة تاريخية حاولد. الربيعي النبش في احداث مثلت معلما في التاريخ الحديث مثل حرب القرم والحرب العالمية الاولى وفرض العثمانيين التجنيد على العراقيين ففي ما عرف (سفر برلك) يذكر الملا عبود الكرخي :
صرت مقلاجي و أفتر كله من درد السفر بر
جاءت عبارة ( سفر برلك ) باللغة العثمانية ؛ بمعنى ( تعبئة ، نفير عام ، تأهب للحرب، استعداد للحرب ) ، لتسد المنافذ و تغلق كوة التفكير، فقد راح الفرد يسترجع كل المآسي التي ارتبطت بهذه العبارة ، حيث الفقد و الموت و غياب الأحبة و الأقارب ، الذين سيقوا إلى جبهات القتال من قبل السلطات العثمانية ،فيما اختزنت الذاكرة العراقية المزيد من المآسي حول الحرب.
واشار الربيعي الى مفهوم الصورة الزائفة – او المحاكاة التافهة Simulacrum ‘ تلك التي تتجه نحو الانتقاء و البحث عن الصوري و ليس الحقيقي، إنها الصورة التي يتم إلباسها معنى ، عبر اللعب في حقل الدلالة و اعتماد نظام تفسير يقوم على الشبيه ،إنها أحوال التطلع نحو لعبة صناعة ( المثل السائر و الشائع ) ، لما فيه من قوة تأثير في العامة . و الاندراج في الألعاب البلاغية النائية بنفسها عن المضمون العميق و الأصيل لمفهوم الدولة و الوطن و الوطنية .
وهنا تناول الربيعي السردية العثمانية بخصوص الحرب والجهاد فذكر امثلة من الصحافة المحلية فجريدة مثل ( صدى بابل) اندرجت بحماسة مفرطة في تقديم سيل من العبارات المتباينة القائمة على التجريد و البعيدة عن الواقع . في معرض وصفها لموقف العراقيين من النفير العام . حيث الحضور الطاغي لــ مفردات و جمل من نوع : ( استقبل العراقيون بسرور و بشاشة ) ، ( تقاطر الأفراد إلى دائرة الرديف كالسيل المنهمر) ،بينما الحقيقة تقول ان مدينة بغداد كادت ان تفرغ من الناس الذين تم استدعاءهم للتجنيد ، حتى أغلقت الحوانيت و هرب الكثير منهم إلى المناطق العشائرية ، و لم يتردد البعض من التخفي بملابس النساء ،بينما الصحافة تستخدم سيل عارم من الكلمات و الألفاظ الخالية من المعنى . وهنا تسائل الربيعي ،اذا ماذا تبقى من الدولة؟ فقال ان القراءة العميقة للتاريخ تقول ان معنويات الجيش العثماني،كانت متدنية جدا مما ادى الى انتشارالهروب بين صفوفه ،الأمر الذي دفع وزير الحربية أنور باشا ، الى اصدار أوامره بإعدام نصف عدد الفارين ، و إعادة النصف الآخر إلى جبهات القتال ، وفقا لمعيار الحظ و القسمة و النصيب؟! ،في هذا الوقت نجد جريدة الزوراء تقول : أسايش بر كمال ( الأمن مستتب ؟!) فيما الأشقياء يسيطرون على مناطق بغداد وانتشار او استفحال ظاهرة الشقاوات التي كانت موجودة قبل الحرب لكن الانفلات الامني ادى الى تفاقمها حتى عرفت المحلات البغدادية اسماء محددة لاشقياء او فتوات الاحياء الذين يحصلون على اتاوات من الناس مقابل حماية حياتهم واموالهم وبيوتهم فمثلا في المقلع ( باب الطلسم ) كان الشقي هو طه ابن الخبازة ، حسين شيالة ، عبيد النكاب، شاولي الكردي ،والمنطكة ( منطقة جامع براثا ) كان فيها عباس السبع ، مهدي كجل ، ساهي و لاهي ،والكاظمية عرفت شقاوتها الشهير حسن جبريت،وكذلك عباس عزيزة ، عباس عدولة وكذلك إبراهيم الحوارني الذي عرف عنه انه قاوم الاحتلال البريطاني ،مما عرضه لعقوبة الاعدام التي واجهها برجولة.
ومن حفريات الدكتور اسماعيل الربيعي التاريخية الاجتماعية انه تناول شخصيات بغدادية مميزة بغرابتها او ظرافتها او مهنتها لفهم مقاربة التاريخ من الاسفل فذكر ،ان من ظرفاء بغداد المشهورين كان عبدالله الخياط الذي يحكى انه طلب من زوجته أن تغطيه باللحاف لتخفيه، ولما سألته عن سبب ذعره، قال لها: إن الحكومة تجمع الحمير لتعدمهم، فلما قالت له وما شأنك أنت بالحمير؟.. أجابها: إذا اشتبهوا بي وأخذوني فلن أستطيع أن أثبت لهم أني لست حماراً ،حتى يذهبوا بجلدي إلى الدباغ ،كذلك هنالك شخصية توفيق اجانص الذي كان يلتقط الاخبار التي كان يحصل عليها من البيوتات والشوارع والمحلات ويذيعها وهو يمشي في الشوارع والميدان وكأنه جهاز راديو متنقل ،اما الشخصية التي حفظتها ذاكرة البغداديين ودخلت امثالهم فهي شخصية خلف بن أمين،ويعرفه سكان محلات (البو شبل والكبيسات وقنبر علي) ،حيث كان يتخفى كلما وقعت جريمة قتل او سرقة، موحيا ومدعيا للناس وللسلطة بأنه هو الذي قام بها لكي يزعم الاهمية لنفسه حتى ان اتهمها بارتكاب جرائم او مشاكل قد يحاسبه عليها القانون،ومثله كان جاسم ابو الهبزي ،الذي كان يدعي المراجل والشقاوة فكلما تقع جريمة قتل يتردد على المقاهي ومراكز الشرطة ويسأل ان كان قد ذكر اسمه في قائمة المشبوهين،اما احمد بنية فانه كان يمشي مسرعاً متلفتاً ذات اليمين وذات الشمال يوحي للناس بانه ذاهب لعمل مهم ، ويسمع كلمة اتريح من هنا او هناك فيجيب (لا والله عندي شغل مهم) والحقيقة ان لا عمل ولا شغل لديه لكنه كان دائم الحركة السريعة دون هدف ما.
ولا يمكن ذكر ضرفاء بغداد دون ذكر ابراهيم عرب ،وهو معروف بالمبالغة في الكذب او كما يسميه الناس (نفاخ من الدرجة الأولى)…كان صاحب مقهى في باب المعظم ويدعي ايجاد الحلول لكل شيئ ، في السياسة والاجتماع والاقتصاد ويقدمها لكبار القوم والمسؤولين مجانا ، اضافة الى أحاديث عن مغامراته في السفر والتجوال التي تفوق حدود المبالغة والخيال…منها: انه كان مدعواً للعشاء عند (الملك فيصل الاول) وقدم له النصائح في كيفية حكم العراق او ان المندوب السامي البريطاني (هنري دوبس) قد زاره منتصف الليلة الماضية وشرب عنده الشاي وحل له مشكلة مستعصيه كما ان (المس بل) قد عشقته وراودته عن نفسها ولكنه رفض ذلك بكل اباء ،كذلك لابد من تناول شخصية اخرى هي شيخان العربنجي المعروف بانه صاحب اشهر زيج في بغداد وقد كان يطلق زيجه من بداية شارع الرشيد مستمرا حتى حافظ القاضي ،وهو اشهر عربنجي في بغداد ، وكان يتم استئجاره في الخصومات السياسية للاستهزاء والاستهتار والسخرية من الخصم… كان الناس يتحرشون به وهو يتحرش بهم خلال ذهابه وايابه يقال ان ابنته قد تزوجت من ضابط معروف في الجيش ،الا انه كان يتجنب لقاءه رافضا منه او من غيره أي منة ، جدير بالذكر ان من بين الذين اشتهروا بالعفاط = الزيج في ذلك الزمان ، جعفر العسكري الذي اصبح رئيسا للوزراء وكذلك نوري السعيد ،وهو دليل على ان هذه العادة البذيئة كانت تخترق الطبقات الاجتماعية.
كذلك هنالك شخصية شفتالو وهو قزم اقرع الرأس ، كان يتظاهر بالبله، يعمل في مقهى (حسن عجمي) في الحيدرخانه ، وكان يعرف جميع روادها معرفة تامة فهو يتساءل دائماً عن اسمائهم وحسبهم ونسبهم وعملهم وهواياتهم ،وخليلو العارف جيداً بالمقامات العراقية والاغاني والموسيقى العراقية وحسن حراسه الذي اشتهر بالمراجل والشقاوة وقد الصقت به تهم قتل سياسية عديده منها مقتل (الكوميسير(المفوض اليهودي سلمان افندي ومقتل (توفيق الخالدي) ولكن التحقيق الطويل معه لم يثبت انه قد اقترف تلك الجرائم .
وفي حفرياته الاجتمعاية في الحياة الثقافية البغدادية ذكر د.اسماعيل الربيعي ان اول عرض سينمائي جرى في بغداد عام 1909 في بستان (ام الواويه) في منطقة العوينة في الرصافة ،ثم قام احد تجار بغداد اليهود الذي استهوته السينما بانشاء اول دار للسينما في عام 1911، وفي باحة البستان افتتح والي بغداد احمد باشا الدار وعرض اول فلم وكان يعرض تشييع ملك انكلترا (ادواردالخامس)،اما اول مقهى اسس في بغداد فكان في 1586عام عهد الوالي ( جغاله زاده ) صاحب الخان المعروف ( بخان جغان ) ومكانه الان قرب المدرسة المستنصرية ،اما اول مقهى اقيم فيه مرقص فهو (مقهى سبع) الواقع في الميدان وكان ذلك في عام 1907 ، وجاء سبع بالغلمان المخنثين الذي يسمى الواحد منهم بالعاميه ( شعار )، لربما جاءت التسمية من انهم كانوا يطيلون شعور رؤوسهم ويزيلون ويحفون الشعر عن وجوههم وسيقانهم كما تفعل النساء ، ويلبسون الفساتين النسائية ،ولم تصعد على المرقص في هذه المقاهي أمرأة الا في عام 1908 ، عندما قدمت الى بغداد من حلب راقصة يهودية تدعى ( رحلو) بنت فريده العراطه الملقبة ( جرادة ) التي بدأت ترقص في ( مقهى سبع)،ثم بدأ ت باقي المقاهي تقلد مقهى سبع بجلب الراقصات والمطربات للعمل في مراقصها من الشام ولبنان ومصرو توالت فيما بعد المقاهي التي وفرت فيها منصات الرقص ، على شاكلة مقهى سبع ، كمقهى العزاوي ومقهى السواس وغيرها من المقاهي .
وفي مجال المسرح كان هنالك الاخباري البغدادي جاسم ابن الحجامة وزمليه منصور اللذان كانا من سكنة محلة (العوينه) و كانا يعرضان فصلهما منذ بداية القرن الماضي وحتى قبيل بدء الحرب العالمية الاولى في مقهى (الشبانة) في محلة( الفضل) ،اما جعفر لقلق زادة الذي أعجب بعروض الاخباري وشخصية (الهبش) التي كا ن يؤديها راشد بمعاونة زميله الحاج محمود ، و قدعشق هذا فنهما وتعلق بما كانا يقدمان ، بحيث لم ينقطع عن مشاهدة عروضهم التي كانت تقدم في بغداد ليلا ، فكان يضطر عند حضوره هذه العروض البعيدة عن مكان سكنه ، ان يبيت ليلته في ( خان الجبن ) بالكرخ لخطورة طريق العودة ليلا الى الكاظمية بسبب كثرة ( المسلبجية) الذين يكمنون في البساتين الكثيرة التي كانت تحف بجانبي الطريق ، وأخذ يقلد راشد افندي في دور ( الهبش) ويعيد في اليوم الثاني ماكان قد شاهده امام معارفه ، وعندما لمس منهم الاستحسان والتشجيع ، بداء عروضه الخاصة في مناسبات الافراح الخاصة والاعراس .
وفي نهاية المحاضرة قدم الدكتور اسماعيل نوري الربيعي استنتاجاته التي لخصها فيما يلي :
1. الفقد العظيم: لحظة استيلاء علي باشا اللاز على بغداد عام 1831 ، وقد فتك بها الطاعون فتقلصت نفوسها من 80 الف إلى 26 ألف نسمة.
2. الوعي الملتبس: الذي ولده الإنقلاب العثماني 1908 ، نتيجة صراع المشروطية و المستبدة.
3. الإدارة العثمانية الضعيفة: الجهاز الوظيفي الفاسد و الهزيل الذي تنقصه الكفاءة.
4. فقد الأمن و الاستقرار: أمراض أوبئة ، لا وجود لبنية تحتية (طرق ، مدارس ، مستشفيات)
5. قلة رؤوس الأموال: انعدام الاستثمار، تصدير الفائض إلى الخارج
6. سيطرة القوى المحافظة: انحسار نفوذ السلطة في داخل حدود المدن فقط
7. الموروث الاجتماعي و الديني: الصراعات المسلحة.
8. الدولة المركزية الناهبة: نهب الفائض الاقتصادي ، و بروز المركزية المستعارة لاحقا.
9. في الحرب العالمية الأولى: العثمانيون و سياسة المصادرة ، مجهود حربي.( كل شيء من أجل المعركة
10. الاحتلال البريطاني: زيادة الطلب على السلع و الخدمات
11. زيادة التبادل بين الريف و المدينة
12. لأول مرة ينتهي التهديد و سؤ النوايا بين الريف و المدينة ( ملامح التحضر)
13. نهاية الأنظمة الاجتماعية المغلقة (الجماعة الانتاجية – العسكرية)
14. القوى المحافظة ؛ الخوف على المكانة ، عدم الفهم ، التقاطع بالمصالح
15. إعادة تشكيل الخارطة الاجتماعية ، و اجهتها : التجهيل ، بث الوعي الزائف ، الانخراط في الأدلجة ، الاستعاضة بالصراع الأيديولوجي بدلا من صراع العشيرة و القبيلة .
16 . التحديث المشوه ؛ سد الحاجة ، تعليم التلقين الذي أنتج أفواجا من العاطلين ، ترييف المدن ، النمو البكتيري للمدن ، أحياء الصرائف .
17 . الاحتلال البريطاني وجد القوى الثلاث: ( الوالي ، رجل الدين ، شيخ العشيرة ) .
وفي نهاية محاضرته تلقى د.الربيعي عددا من الاسئلة والكثير من الثناء من الحاضارين لتميز المحاضرة بعلميتها العالية التي مزجها المحاضر بسلاسة تقديم واسلوبه الفكه المميز.