ابتسام يوسف الطاهر
أشكركم جميعا واشكر دار السلام عسى ان يعم دارنا الكبرى السلام، أشكر الأستاذ غانم جواد على فرصة الحوار والتفكير معا بصوت عالي، عن امكانية مد يد الوفاء والعون للوطن وللناس المتعبين! البعض ربما بسبب وجعه وخيبته، اتهم الوطن بالجحود.. مع ان بعض أبناءه والمسئولون فيه هم الجاحدون وهم الحاقدون على الناس الطيبين الذين سعوا من اجل الوطن، الذي هو ليس فكرة وليس أُما تفرق بين أبناءها او تعامل بعضهم بقسوة! كما يرسم البعض صورة كاركتيرية للوطن!
الوطن، العراق هو الاسم الأول، (هو أكثري وأقلي) استعارة لقول الحلاج، هو الأم رمز الحياة والعطاء، واليوم هو عيد الام في العراق..تحية لكل الامهات ولكل النساء هناك بهذا اليوم، واليوم هو ايضا عيد الشجرة او نوروز للبعض وشم النسيم لبعض اخر.. المهم هنا هو الربط بين الشجرة والأم.. كلاهما تعطي ولا تأخذ وان اخذت فالقليل مقابل ما تمنحه لنا للحياة! البعض في العراق يعتبر ان عيد الام بدعة! ابتدع للتشويش على يوم المراة! ولكن لاعلاقة لعيد الأم بيوم المرأة العالمي 8 اذار الذي هو تمجيدا للعاملات اللاتي قتلن في ذلك التاريخ مع زملائهن لانهم اعتصموا في احد المصانع احتجاجا في امريكا!
فعيد الام تحتفل به كل بلدان العالم مع اختلاف بالتواريخ! لكن معظمهم يحتفل في شهر اذار (مارس) الذي يتجسد في الربيع ويوم 21 هو اليوم الذي يتساوى فيه الليل والنهار..اي بداية بشائر الربيع.
العراق هو الام التي للأسف لم ننصفها حين تعبت او حين مرضت، تركها الأبناء عرضة لهجمات الابن العاق، لحقد وهجمات الحاقدين، الذين انتزعوا عنه كل ما هو جميل..الوطن والذي حين كان معافى وقويا كان الكل يرفض الانتماء لغيره، فهو الذي كان ومازال محطة استراحة للراحلين المتعبين من كل الأقوام اتراك فرس ارمن افغان عرب واكراد وغيرهم
ولكن بعد ان تعب العراق وتكاثرت السكاكين عليه، فوجئت ببعض من العراقيين يسارع لمحدثه ليدفع عنه تهمة الانتماء للعراق! هذا ايراني وذاك تركي وهذه ارمنية والأخرى (كردستانية) او هندية الى غيرها من الاقطار!
ينتابني الأذى والحزن حين أرى واسمع عن حب بعض الأجانب للعراق وحرقتهم عليه أكثر من العراقيين انفسهم!
هل نحن مغلّفين باغلفة الحروب والحصار والسرقات وحكام لايعنيهم شأن البلد! وكلها اغلفة تشوش الرؤيا لدينا؟ بينما الغريب يرى العراق على حقيقته بعيدا عن سطوة الكوارث التي حلت بنا..
ولكن مذا عنا نحن؟ الذين عشنا اكثر من نصف العمر بالخارج وخبرنا الناس وحبهم لكل ماهو جميل لبلدهم، لماذا تتلاشى الرؤيا التي كانت بالأمس اقل قتامة.
احد الشعراء المغتربين قال في الثمانينات من القرن الماضي (نحن لم نهجر او نغترب بل تمددنا ووصلنا لكل اطراف العالم) كلامه ذكرني باغنية لوديع الصافي (واحنا بحبك يابلادي ما النا حدود) خرجنا لا فاتحين ولا غازين بل اجبرنا على الرحيل باشكال متعددة. المحظوظون منا وجدوها فرصة للعلم والمعرفة..لعلنا نستثمرها يوما في بلدنا. والبعض اصابه الاحباط والياس..واخر الغى الوطن من باله وارتاح .ربما..
لا الوم من لا يفكر بالعودة، فمن غير المنطقي بالنسبة للبعض ان يترك فسحة الحرية والأمان والماء الحار والتدفئة المركزية، وحل كل معضلات الحياة بمكالمة تلفونية..ويعود للحر والذباب والغبار والكهرباء الوطنية والصراع مع المولدة الكهربائية او الوقوف مع طوابير المساكين على شبابيك أو قضبان الدوائر الحكومية .
ولكن بالامكان ان نمد يد الوفاء ولو من بعيد كل حسب مجاله وامكانياته. فمن لا خير به لوطنه لن يكون له خير في أي ارض يقطنها..وفاءنا للوطن هو امتداد لوفاءنا للأرض التي نعيشها في الغربة، فالوطن ليس أم فقط بل ارى هو الابن اكثر منه ام او اب.. فالابن مهما كان انانيا او غير مطيع أوبأي شكل يكون، نتعلق به ونحبه وندافع عنه..ونسعى ونضحي لينال اعلى الدرجات وينجح في حياته وحتى لو اخطأ او تخلف في دراسته نبقى نفاخر به ونمني النفس بان يكون من المتفوقين. فكيف اذا كان الابن جميلا ومحبا ومخلصا! اذن العراق جميل وكريم، لكن اهمالنا له هو الذي جعل البعض لا يرى أي مسحة للجمال، ليبرر جحوده او ليبرر تخليه عن مسؤوليته ازاء تلك الارض.
البيئة في العراق هي الضحية الثانية بعد الانسان هناك!وتجاهل ذلك من قبل المسؤولين وحتى ألمواطنين يعرض الارض والناس لشتى المخاطر وبشكل يدعو للقلق.. وان كنت غير مختصة بالزراعة وما يتعلق بها.. نستذكر هذاالامر اليوم بمناسبة عيد الشجرة وعيد الأم في العراق، نلاحظ الربط بين الأم والشجرة رمزا للمحبة والعطاء، رمزا للتضحية بلا مقابل. فالشجرة تعطينا كل حياتها وحتى حين تموت تترك لنا الدفء في ايام البرد. كل عام وكل ام وكل امرأة بخير، كل عام وكل يوم ونحن نتأمل لنزرع المزيد من الأشجار والنخيل في كل ساحات العراق.
فمن حق الأرض التي لعبنا وركضنا عليها يوما أن نصغي لندائها، أي قسوة ان لا تصغي لمن يستغيث بك! حتى لو كان المستغيث غريبا، فكيف اذا كان اقرب لك من اسمك! فأرضنا تنادي عطشا وحرمانا، لنزرعها في كل زيارة ..لنسقي غصنا ونستحث من نعرفهم لعمل ذلك، في الساحات القريبة منهم في الشوارع أمام بيوتهم.
احدهم اقترح ان يحمل زوار الكاظم او الإمام الحسين ممن يقطعون الأميال سيرا على الأقدام ، ان يزرعوا الأرض التي يمرون بها أشجارا قد تنفعهم في الاتي من الأيام ليستظلوا تحتها او ليقطفوا ثمرها ان كان نخلة او غيرها من الأشجار، وهذا لعمري أكثر ثوابا واقرب لروح الحسين والأئمة الصالحين.
ضحك البعض من فكرتي لو نزرع الطرق الخارجية بين المدن او بيننا والاردن او سوريا على الاقل لحدود العراق، أليس ظل الأشجار أفضل من ظل المظلات الأسمنتية القليلة التي بنيت لتكون مكان استراحة للمسافرين. كما فعل السائق الجزائري الذي زرع عدة اشجار من نخيل وغيره في طريقه بين العاصمة والصحراء..
في زياراتي الاولى لبغداد بعد سقوط النظام البعثي.. تساءلت هل تغيرت بغداد كثيرا، أم ان ذاكرتي غربلت المشاهد ولم تحتفظ الا بما هو جميل؟ بل ربما أضافت من الخيال والأماني الكثير لتجعلها أكثر قربا للروح.
لم يكن من الخيال وجود شوارع في بغداد تصطف على جانبيها الأشجار دائمة الخضرة.. ولم يكن من الخيال رؤية الورود تطل من خلف أسوار الحدائق حتى من البيوت الصغيرة. ولم يكن من الخيال اننا كنا نحتمل حرارة تموز وآب اللهاب.. بالرغم من أن اغلب البيوت لم تكن تملك المبردات ولا المكيفات لم يكن هناك غير المراوح الأرضية والقليل من السقفية. هل هو التعود جعلنا نحتمل بل ونزداد تعلقا بتلك الشوارع وبتلك الأرض التي معاناتها فاقت معاناتنا.
صحيح ان الغربة جعلت الذاكرة تركز على مشهد شوارع بغداد بأشجارها يطغي على مشهد الشوارع المتربة والنفايات التي يلجأ الناس لحرقها للتخلص منها. فهل تغير المشهد كثيرا؟
نعم تغير المشهد بشكل دراماتيكي، فقد فوجئت إن معظم الشوارع اختفت معالمها الجميلة لاسيما أشجارها التي قطعت لتوفير الوقود في زمن الحصار وربما حتى قبل الحصار.. وباختفاء الأشجار اختفت الطيور والعصافير. واختفت ايضا نسائم الربيع حين تمر على ندى الأشجار فترطب الجو وتخفف من جحيم الصيف. وبالتالي اختفت فرحة العيون وراحتها وهي تتمتع برؤية اللون الأخضر بدرجاته وألوان الورد التي تبعث على الراحة. وباختفاء ذلك تختفي المشاعر التي تخفف عنا عناء الحياة وثقل كوارثها.
فالوضع البيئوي الماساوي زاد من التعب الذي كاد يخفي كل اثر للجمال الذي اعتدناه في موانئ الغربة للناس المرتاحين فالحزن والغضب والقلق والخوف والحرمان، كل واحد منها يجعل الإنسان مقطبا عابسا مقهورا ومحزونا، وبالتالي يكون مجدبا لا حياة فيه، فكيف لو اجتمعت كلها؟ فتلك المعادلة التي تقول الحياة هي الجمال والجمال من الحياة، قد اختل توازنها في العراق فالجمال يمنح الحياة للأشياء وبالتالي للإنسان..
والجمال الذي اعنيه هو كل ما نراه متناسقا ويمنحنا الراحة البصرية والروحية ، كل ما يخفف عنا أعباء الحياة ومتاعبها. فقد قيل ان الجمال يعني تلائم الأشياء وانسجامها. وبعيدا عن التنظير وفلسفة علم الجمال ففي حديث تلفزيوني مع المرحوم الشيخ زايد، تحدث بكل بساطة عن وجهة نظره لعمل المستحيل لزرع الصحراء “اللون الاخضر ورؤية الاشجار تريح العين واذا ارتاحت العين ارتاح القلب وسعى للحب والعطاء”. بهذه الرؤية وهذا الإصرار وحب الوطن نعم حب الوطن تحولت الإمارات من صحراء عجز مهندسون من الغرب عن مجرد تخيل الأمر، بل وسخروا من فكرة زراعتها، تحولت بوقت قياسي لجنات وحدائق غناء. ومنت عليها السماء بأمطار بل بثلوج أيضا. أعطي للأرض تعطيك أكثر، وتكسب حب السماء أيضا.
في الصين ولإيقاف الزحف الصحراوي جعلوا مشروع زراعة الصحراء هو مشروع حياتي في صراعهم مع الطبيعة..فكل صيني يجب ان يزرع شجرة في كل مراحل حياته لذا في وقت قياسي زرعوا ملايين الهكتارات، لم يوقفوا زحف الصحراء فقط بل انتصروا عليها وبدل ان يدعوها تبتلع أراضيهم قلصوها بجعل الصحراء غابات شاسعة من مختلف الأشجار التي تحتمل العطش والجفاف. فاخذوا على عاتقهم تصحيح ما ارتكبه الإنسان بحق الأرض والبيئة. فلابد ان تعطي للأرض بقدر ما تأخذ منها ليبقى التوازن الطبيعي.
*وفي مقال للمرحوم الدكتور عصام البغدادي عن احد الفلاحين التايلنديين، الذي قرر ان يزرع شجرة في كل يوم خلال حياته، حتى صارت غابة سميت باسمه. فلو اتخذ الزوار بنصيحة ذلك الشاب او الفلاحين في العراق عرفوا عن ذلك الفلاح التايلندي الفقير ومساهمته بزرع ذلك الكم من الأشجار، كم غابة سيكون لدينا؟
واعتقد انها حقيقة علمية ان كثرة الاشجار تجلب الامطار والغابات المطرية (Rain Forest) خير دليل. لعل الباحثين والمتخصصين زراعيا يحققون في هذا الامر.
*فالحصار وقبله الحروب قضت على البنى التحتية ومنها البيئوية، فقد أحرقت بساتين النخيل من قبل كلا الطرفي المتحاربين، إيران بقصفها الجنوب ببساتينه وصدام احرق البساتين بحجة إيواءها الأعداء او الهاربين من الحرب! ثم واصلت أمريكا وبريطانيا قصفها خلال سنوات التسعينات بالرغم من انسحاب صدام ورضوخه لكل شروطهم. بهذا صارت الأرض جرداء محرومة من الجدار الأخضر الذي كان يحميها.
ولم يكتف الحلفاء بذلك فقصفوا محطات الكهرباء، التي هي العماد الأول لكل إنتاج اقتصادي وفني حتى. وتهرب الدولة من مسؤوليتها بتوفير تلك الخدمة التي تتوقف عليها الحياة ، جعل الناس تلجا لحلول يفترض بها ان تكون مؤقتة.. لكن الدولة وجدت بها ضالتها، مستغلة الحصار لتلقي باللوم على الدول المعادية، وبالتالي تستغل الأموال المخصصة لتلك الخدمات لمصالحها الذاتية. لم يفكروا بالخطورة التي سيترتب عليها استخدام المولدات الصغيرة للكهرباء والمولدات الكبيرة التي وجد فيها البعض تجارة سهلة ومربحة غير مبالين بما تنفثه من حرارة متواصلة ودخان .. وهذا ما جعل الشوارع لا تطاق وكأننا نسير وسط أفران مفتوحة الأفواه تنفث جحيمها علينا من كل اتجاه.
وبعد التغيير جعل المسئولون على هذا الجيب طين وعلى الاخر عجين.. المليارات التي ادعت وزارة الكهرباء تخصيصها لهذه الخدمة، لم يلمس المواطن منها شيئا بل بقي الحال يتضاعف سوءه.
فازدادت تعرية الشوارع وتضاعفت العواصف الترابية التي لم تعد تنتظر الرياح لتتجول بالشوارع، بل صارت تهطل أمطارا من السماء ولا مجال لتجنبها حتى بغلق النوافذ والأبواب!. كما نصح احد العاملين بالوزارة الوهمية! وبعد ان كنا نراها بضع مرات بالعام صارت بالأسبوع خمس مرات واحيانا باليوم مرتين او ثلاث!. وبمناسبة غلق الأبواب والشبابيك، فزارعي العبوات الناسفة ومفجري السيارات المفخخة كثير ما يختارون اليوم المغبر وأمطاره الترابية، فاغلاق الشبابيك يحقق لهم قتل أكثر وموت رخيص لان الانفجار سيكون أكثر قوة ومن لم يمت بالتفجير سيموت بشضية ومن شضايا الزجاج المتطاير. اذن اتمنى لو احد يجد التعليق الملائم لنصيحة ذلك المسئول العبقري!
ونتيجة لذلك صار اللون احد ضحايا الحروب والجشع السلطوي، اختفت معظم الألوان من الشوارع والحدائق والبيوت. وحين يكون الفن واللون أو ذائقة الإنسان، ضحية، فالقصد الأبعد هو الإنسان نفسه ومن ثم المجتمع بشكل عام.
فكأن هناك مؤامرة ضد اللون والفرح والجمال وحب الحياة. وبالتالي ضد العراق، فاللون يكاد ان يتلاشى من الشوارع التي كانت حافلة باللون الأخضر وأشجارها الخضراء تطل زاهية من فوق أسوارها يزينها البرتقال والرمان والعنب في مختلف فصول السنة. والتي انتظرتْ طويلا لمن يزيح عن أشجارها شعارات أقوال الريس او النائب، وصوره. لكنها وجدت نفسها مغرقة بأعلام سود وشعارات لا تمت للحياة ولا للجمال أو الفن بأي صلة.. فاللون بات يتدرج بين المغبر والأسود!
*وصارت كل الشوارع والمساكن سوقا لبضاعة ايران من الأعلام السود والصور الدينية، بالرغم من ان شوارع طهران تخلوا من هكذا بدعة، كما يقول زوارها! لكنهم وجدوا فيها تجارة مربحة اقتصاديا وسياسيا. وليس هناك سوق لتلك البدع غير العراق، وهذا لصالحهم، ان يبقى العراق كئيبا محزونا ليكون ضعيفا مريضا غير قادر على التفكير والانتاج او الإبداع! فبعض الدراسات تؤكد ان للون تأثير كبير على الإنسان، على نشاطه ومزاجه وحيويته وبالتالي على تواصل ابداعه..
في الدول الآسيوية في كوريا وتايلاند مثلا هناك اهتمام باللون حتى في نظامهم الغذائي، فيعتبرون تلون المائدة او الصحن يجعل هناك توازن وانسجام يؤثر على صحة الإنسان وفتح شهيته للطعام. فلابد من وجود اللون الأحمر والأصفر والأخضر وغيرها من الألوان في اطباقهم الغذائية.
واختفاء اللون في شوارع بغداد لم يقتصر على الأرض بعد مجازر النخيل والبساتين، فالمساكن هي الأخرى وحد الغبار والدخان لونها. وليزيدوها كآبة سوروا كل حي بأسوار كونكريتية.. التي لا اعرف لماذا اعترض البعض على رسوم مناظر بألوان الطبيعة لتخفف من كآبة تلك الجدران الكونكريتية التي فرضها المحتل والطائفيون والإرهابيون من مقاومي حزب البعث وعصابات القاعدة!
بالاضافة لكل ذلك لعبت بعض الأعراف والتقاليد دورا بانحسار التذوق الجمالي والاهتمام باللون بالرغم من أهميته في الحياة، فمثلا نساءنا ما ان تتجاوز الأربعين من العمر تصير لا تلبس غير الألوان الداكنة. أما اذا فقدت الزوج فلابد أن تتجلل بالسواد لآخر العمر وإلا ستتعرض للنقد اللاذع من قبل المجتمع.. وهذا اعتراف ضمني بان اللون المبهج يدل على حب الحياة ومواصلتها، لذا اتخذت تلك التقاليد وسيلة أخرى لتعطيل المجتمع لاسيما وشريحة الأرامل اليوم قد تضاعفت بسبب الحروب والإرهاب. فهم يعرفون ان الإبداع والعطاء للنهوض بالمجتمع، لابد له من روح محبة للحياة بكل ألوانها وتناسق عناصرها.
حتى الرجل، هناك الكثير منهم من يفضل الألوان الداكنة، الغبارية منها بشكل خاص، والسبب معروف كثرة الغبار بالجو التي تضطره لغسل قميصة أو تبديله لثلاث او أربع مرات باليوم.. وقلة الماء والكهرباء تجعل مهمة الغسل أصعب بكثير من مهام البرلمانيين للمصادقة على قانون لصالح الفقراء المتقاعدين مثلا!!؟
تلك الكارثة البيئية وانحسار اللون وكآبة المشهد زادت من كآبة النفوس، والتي لعبت التقاليد وبعض القيم الغريبة دورا في تعزيزها! اضافة الى تخلي المسئولين عن الوطن والناس! ليس من باب المقارنة، لكن وجدت الناس هنا الضحكة والابتسامة يطلقوها حرة تشيع بالمكان بهجة ومرح. بل يعتبرون إخفاء الابتسامة بوجه الآخر في الشارع او في الدوائر هي دلائل على قلة الذوق أو عدم لياقة اجتماعية أو وظيفية. وفي اليابان يخضعون الموظفين من كلا الجنسين لدورات تدريبية يتعلم كيف يستقبل المراجعين والزوار والزبائن بابتسامة عريضة.
بينما في مجتمعاتنا يعتبر الضحك خاصة بالنسبة للفتاة، عيب، فلا يجوز لها الضحك والفرح. واذا ضحكت المرأة نراها تخفي فمها بفوطتها أو يدها. وسرعان ما يحاولون طرد شيطان الضحك بتعويذة (ضحكة خير يارب)، او (اللهم اجعله خير). لهذا لاحظت ان البعض صار لا يعرف متى يضحك وارتبكت الأمور عليه بحيث يضحك بالوقت الذي يتطلب منه التعاطف او التظاهر بالحزن على الأقل.
فمرة كنت احكي عن خطورة الحصار ومضاره على الشعب العراقي بينما النظام وقادته كانوا متنعمين مستغلين الحصار لصالحهم. وحكيت عن بعض المرضى الذي توفوا بسبب قلة الأدوية او فقدانها او سوء الأجهزة الطبية. واذا بإحدى المسئولات عن جمعية عراقية تطلق ضحكة مدوية!.
الحقيقة بتراكم بعدنا عن الفرح والحياة وجهلنا بالثقافات الاجتماعية، جعلت الأمور ملتبسة ومضببة. وربما هو إصرارنا على الاحتفال بالموت جعلنا نبتدع مهرجانات للحزن.. فبعد ان كان عاشوراء عشرة أيام صار أكثر من أربعين يوما إضافة لباقي أيام السنة من التي نحتفل بميلاد او موت الأئمة عليهم السلام، أو أي شخصية دينية بنفس الطريقة ونفس الطابع الحزين. ليطغى اللون الأسود والكآبة لمعظم أيام السنة. وهذا له دور كبير بتعطيل عجلة البناء والإصلاح، بل وتعطيل فكر ومشاعر الناس إزاء الحياة والجمال.
يقول البعض ان الحزن متأصل فينا من أيام السومريين او البابليين، حين كان الناس تخرج تعبر عن حزنها باكية ولاطمة الصدور حين يدفن تموز او ينزل للعالم السفلي. لكنهم كانوا حسب الميثولوجيا العراقية، يحتفلون ويعبرون عن فرحهم، بالرقص والغناء وحمل باقات الياس والورود حين يبعث من جديد لعالمنا في فصل الربيع. وهذا الاحتفال اتخذته بعض الأديان لتحتفل بالإيستر أو عيد الفصح. او يحتفلون بعيد الشجرة في الربيع او شم النسيم في مصر.. بينما نحن اتخذنا الجانب الحزين منه فقط. واليوم تستغل تلك الشعائر ضدنا على كافة الأصعدة. بعد ان اتخذت وسيلة سياسية لتمرير بعض الأفكار وللانتصار لذلك الحزب او تلك الفئة.
لذا من الأسلحة التي يجب تزويد الشعب العراقي بها هو فسح مجالات الابداع ودعمها للنهوض بذائقة المجتمع وتطوير مفهوم الجمال لديه بتعزيز التفكير المتجانس السليم بالفنون والآداب. بل وحتى توعيتهم باتخاذ بعض الطقوس الدينية لتحسين البيئة وتغيير وجه المحيط للأجمل. لعلنا نترك للأجيال القادمة شيء من ذكرى جميلة معقولة.
لو فكرنا بأجيال متتالية من الشعب العراقي، والكم الهائل من ذكرياتها ذكريات بعيدة عن الفرح والسعادة. ذكريات لحروب وحصار وحرمان من ابسط شروط الحياة. صراع لتوفير لقمة العيش بكرامة او الصراع مع الظلام واستخدام كل قواه لتوفير شمعة تضيء له ليلا تطاول (وما الإصباح منه بأمثل).. في رواية هاري بوتر.. اخترعت الكاتبة كائنات مخيفة وبشعة جدا، تنتزع الفرح من قلوب الناس عن طريق تقبيل الضحية. كأبشع وسيلة لتعذيبها. والوسيلة الوحيدة للانتصار على تلك الكائنات، او الدفاع عن النفس هي بالتفكير بذكرى سعيدة..وكل ما زادت سعادة الذكريات زادت قوتها وسهل القضاء على تلك الكائنات.
فكيف لتلك الأجيال ان تصارع الكائنات التي سرقت منها الفرح وكل الذكريات الجميلة السعيدة.. من ديمانتورات النظام السابق الذي خرج من الباب ليدخل من كل النوافذ والشبابيك.. وهاهي كائناته تتضاعف وتقوى وتواصل سرقة الفرح من قلوبنا لتتركنا بلا روح بلا أمل أي بلا حياة.
لا بد لأي ذكرى سعيدة أن تصاحبها رؤية جميلة لمشهد ما أو شارع أو حديقة او كلمة ملونة تصاحبها ضحكة فرح ونجاح وامل.
في 2007 بقيت في بغداد وعملت لمدة 8 شهور. فقد راعني الانقلاب البيئي والأمطار الترابية التي تتهاطل احيانا مرتين او ثلاث باليوم! بعد ان كنا نرى العواصف الترابية تلك مرة او مرتين بالعام! والذي اخافني اكثر، انه لا احد منتبه لتلك الظاهرة، او مرعوب منه! لذا جعلت لي هدفا هو تشجيع الناس على زراعة كل المساحات الفارغة والشوارع. وصرت أدعو من كل محفل او ندوة الناس للاهتمام بذلك الأمر الذي تتضاعف خطورته يوما بعد آخر. وبتشجيع من بعض الاخوة والاصدقاء ممن شاركوني رؤيتي اسسنا مجموعة اصدقاء الشجرة.
فلم اكن وحدي من فكر بأمر الشجرة وكيف لها ان تساهم بالتخفيف من عبء الصحراء وتعطل زحف الصحراء لمدننا، فهذا شاب يقترح باتخاذ الشعائر الدينية وسيلة لتشجيع الناس على الزراعة. وهناك جهود لكثير من الشباب بعمل جمعيات مثل مجموعة من اجل بغداد اجمل..او مجموعة ازرع شجرة.
لكن الجمال ليس متعلقا بالشكل المنفصل أو المنعزل عن مضمونه،فالمنفعة بالجميل قد تكون في راحة العين والنفس وليس منفعة حسية مادية. كل ذلك له علاقة بمدى وعي الإنسان وثقافته وتراكم معارفه وحتى طبيعة بيئته وتقييمه للجمال. ولاشك ان الاستقرار السياسي والاقتصادي وازدهار المجتمع لهم دورا كبيرا بتطوير معارف الإنسان ومداركه وتمنحه فرصة للتأمل والتمتع بالمحيط والتفكير بتغييره للأجمل والأحسن.
في مدخل كتاب ( ميزوبوتاميا- موسوعة البيئة العراقية) التي أشرف على كتابته نخبة من العلماء و الخبراء العراقيين و أعده السيد سليم مطر ففي مطلع الكتاب تجد و تحت عنوان ..إلى أجيال العراق القادمة
((اغفروا لنا خطايانا بحقكم ، إذ نورث لكم بيئة بلادنا الخربة ، ضيعنا النفط أكبر ثروات و مكارم بيئتنا في حروب و مشاريع طائشة ، تركنا أنهارنا و اهوارنا تجف، و هوائنا يتلوث بالأشعة و السموم القاتلة، و مزارعنا و بساتين نخيلنا الباسق تضمر، و آثارنا و أراضينا تصبح مقابرا للقمامة و الألغام و الأسلحة الفتاكة .
لكننا رغم كل هذا نمتلك كل الثقة و الأمل في خصب النهرين الخالدين و أرواح أسلافنا صانعي الحضارات العظيمة هي التي ستبقى إلى الأبد تغذي شعلة الحياة و الخلاص في الأجيال القادمة، فتموز مهما عطش و مات
، إلا أنه لن يكف عن الإنبعاث من جديد حاملا الحياة و الخصب و الخضرة إلى بيئتنا )) انتهى الأقتباس.
يا ترى هل ستقبل الأجيال القادمة من العراقيين هذا الاعتذار ..؟؟
ربما سيعذرونا لو احببنا الوطن اكثر، لو كفرنا عن ذنبنا بدلا من اتهامه بالجحود فليس الوطن من يقتل ابناءه، وليس الوطن من يغتال محبيه..بل هو الضحية الاولى، ضحية جهل البعض منا، ضحية أنانية البعض الآخر، ضحية اللامبالاة والهروب بعيدا عنه وتبرير ذلك الهروب.
لنمد له يد الوفاء، لنزرع شوارعه، لا نملك سلاحا غير ذلك الحب، سلاح الإصرار والوفاء وتوحيد الكلمة، لنعلوا كلمة الوطن قبل الاقليم وقبل العشيرة والطائفة بحماية الوطن سنحمي الإقليم والعشيرة والطائفة.. لكي لا تشتمنا الأجيال القادمة لنعمل شيئا ولو صغيرا من اجل بيئة العراق لنزرع شجرة في كل ركن مترب متعطش للحياة.
لنجعل لكل شهيد او فقيد من احبتنا شجرة باسمه تخلد ذكراه في حديقة عامة او شارع او مدرسة.. كما هو الحال هنا في كل حديقة او بارك نجد عشرات الاشجار محفور اسم بجانبها. وهذا لن يتم الا بتضافر كل الجهود كل حسب اختصاصه ، الاعلام يتولى توعية المواطن والمسؤول ايضا، بأهمية الزراعة والاهتمام بالاشجار، وزارة الصحة والبيئة تتولى مسؤولياتها بشكل مهني وعملي بحملات تشجير وتوعية بمضار التغيرات البيئية وكيفية مكافحتها..وزارة الري والزراعة وامانة العاصمة عليها رعاية كل المقترحات والمبادرات الجماعية والفردية من اجل توفير الفرص والأراضي وتهيئة الساحات لجعلها حدائق وغابات ليعتني بها ومواصلة رعايتها، وهذا جزء من مسؤوليتها. و لا يتم ذلك الا بمطالبة المواطنين والمبادرين وبالحاح وبتوحيد الجهود.
21-3-2012