عدنان حسين أحمد-
نظّمت مؤسسة الحوار بلندن ندوة ثقافية تحدّث فيها المحاسب القانوني فلاح شفيع عن “إستراتيجية الإصلاح والتنمية الإدارية في العراق”. استهل شفيع محاضرته بتعريف الإصلاح قائلاً: “الإصلاح في اللغة هو عكس الفساد”، ثم توسّع في هذا المعنى مضيفاً بأنه “الإدارة الباحثة عن الخير وتقويم الاعوجاج”، وأخيراً انطلق من كيفية تقويم هذا الاعوجاج الذي يتمثل بـ ” تغيّير قواعد عمل النظام بغرض معالجة القصور أو الاختلال الذي يعوق عملية التنمية والنهوض بالمجتمع من جميع النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية”، ووصف الإصلاح بأنه “عمل حضاري يتناول المفاهيم والنظم والقيم والأفكار والعادات والتقاليد والمؤسسات والأفراد” ويمس جميع الجوانب المادية والمعنوية في حياة الشعوب. يرى شفيع أن عملية الإصلاح لا تنطلق من فراغ أو لمجرد الرغبة في التغيير، وإنما بسبب حدوث أزمات داخلية أو خارجية مثل تردي الأوضاع الاقتصادية أو عدم الاستقرار السياسي أو فقدان الشرعية في نظام الحكم أو تهديد أمن وكيان الدولة بسبب أزمات خارجية. أشار شفيع إلى أن فكرة الإصلاح قديمة وقد شغلت العديد من الفلاسفة الكبار أمثال أفلاطون وأرسطو وقادة الحركات السياسية والاجتماعية على مرّ العصور الذين حاولوا إصلاح العديد من المفاهيم المتعلقة بالعدالة، والقوانين، وتنظيم المجتمع والدولة، والتوزيع العادل للثروة وما إلى ذلك. استشهد شفيع بعدد من الآيات القرآنية الكريمة التي تحضّ على الإصلاح من بينها “ولا تُفْسِدُوا في الأَرضِ بَعدَ إصلاحِها” أو ” وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ” أو ” وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ”. وهذا يعني أن جميع الأنبياء كانوا يسعون إلى تحقيق الإصلاح سواء في العقيدة والفكر أو في الأخلاق والعادات الفاسدة وما إلى ذلك.
الإصلاح الإداري والمالي
تعتمد إستراتيجية التنمية الاقتصادية على ثلاثة أنشطة رئيسة وهي النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ويجب أن تكون متجانسة ومترابطة كما يرى المُحاضر. فالعامل الاقتصادي، من وجهة نظره، هو العامل الوسيط والأساسي لإجراء عملية التنمية، ولكن يجب أن يسبقه العاملان الاجتماعي والثقافي، فالخطط الاقتصادية مهما تكن متقنة ورصينة تبقى غير مضمونة النتائج ما لم تكن قادرة على التفاعل الإيجابي مع ثقافة المجتمع. يعتقد المُحاضر أن التنمية الإدارية تمثل حلقة أساسية ضمن إستراتيجية التنمية الاقتصادية وهناك علاقة وثيقة بين الطرفين. يرى الأستاذ شفيع أن واقع الاقتصاد العراقي وعملية النهوض التنموي يمكن أن تتم ضمن محورين أساسيين، الأول مادي والثاني معنوي، فالجانب المادي يتمثل بالقدرة الإنتاجية “السلعية والخدمية” لمؤسسات الدولة العراقية للقطاع “العام والخاص” وقدرة البنى القاعدية الأساسية التي تخدم جميع الأنشطة. أما الجانب المعنوي فيتمثل بنوعية علاقات العمل السائدة، ونماذج أنظمة العمل المُطبّقة، وطبيعة السلوكيات السائدة، ومستوى أداء المؤسسات والعاملين فيها. ترك المُحاضر المحورَ الأول وإنصبّ تركيزه على المحور الثاني الذي تناول فيه ست نقاط أساسية وهي “تعريف الفساد الإداري والمالي”، “أهمية الإصلاح الإداري والأضرار الناتجة من الفساد الإداري والمالي”، “مرحلتا الإصلاح التنظيري والتطبيقي”، ” مؤسسة الإصلاح والتنمية الإدارية”، “العوامل التي تساعد على تنفيذ الإصلاح والتنمية الإدارية” و “تجارب الباحث في تنفيذ عملية الإصلاح والتنمية الإدارية”. ذكر المُحاضر أنّ ظاهرة الفساد المالي والإداري منتشرة في العراق على مختلف المستويات الإدارية في مؤسسات الدولة العراقية وقال بأن الفساد الإداري يتم من خلال حصول انحراف أو خلل في عمل الوظائف الإدارية عن المسار العلمي الصحيح، أما الفساد المالي فيتمثل باستعمال الموظف الفاسد صلاحياته الوظيفية لمصلحتة الخاصة بغية تحقيق مكاسب مادية أو معنوية. وتوصل إلى أن الفساد الإداري يسبق الفساد المالي ويمثل نتيجة حتمية له. ويجب أن تتم معالجة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى حصوله بواسطة إجراء عمليات الإصلاح والتنمية الإدارية للأجهزة الحكومية والوحدات الاقتصادية للدولة العراقية. أما المعالجات الإجرائية فهي ليست حلاً ناجعاً ودقيقاً لمشكلة الفساد الإداري والمالي، وإنما يجب أن تشمل جميع مؤسسات وداوئر الدولة العراقية المركزية والمحلية المموّلة من الخزينة المركزية أو ضمن موازنات مستقلة بحيث تستطيع الحكومة تقديم خدماتها إلى مختلف القطاعات الاقتصادية والخدمية وإلى كل أفراد المجتمع العراقي. كما يجب أن تشمل الوحدات الاقتصادية الإنتاجية “السلعية والخدمية” العاملة في النشاط الاقتصادي ضمن القطاع العام والخاص فيه لأنها تمثل القدرة الإنتاجية في البلد، كما يمثل مجموع إنتاجها العمود الفقري للناتج الإجمالي للبلد.
يعتقد الباحث أن عملية الإصلاح المنشودة تحقق هدفين أسايين وهما معالجة حالة التدني في مستوى الأداء وتقليل حالات الفساد إلى أقل مستوى ممكن. ويرى شفيع بأن عملية الإصلاح تصبح ضرورية عند حصول إحدى أو كل الحالات التالية وهي “عملية التغيير الجذري للنظام السياسي للبلد أو نشوب حرب داخلية أو حصول أزمات اقتصادية أو مالية أو حالات فساد إداري ومالي”. وهذه الحالات الثلاث قد حصلت في العراق لذلك فإن عملية الإصلاح والتنمية قد أضحت مهمة أساسية لا تحتمل التسويف.
أشار المُحاضر إلى أن عدم تنفيذ برنامج إصلاحي لتطوير الأجهزة الإدارية والمالية ينجم عنه حصول أضرار فادحة يمكن قياسها ضمن معيارين الأول مادي يتم بواسطته قياسه حجم الأموال المهدورة نتيجة الفساد وانخفاض مستوى الأداء، والثاني معنوي يتمثل بمعاناة المواطنين وحالاتهم النفسية الناجمة عن الروتين الحكومي الذي يسبب الملل، وضياع الوقت للمراجعين والعاملين في الدوائر الحكومية. وقد حصر المحاضر طبيعة الأضرار الناجمة عن هذين الجانبين بست نقاط يمكن حصرها بالمبالغ المهدورة من خزينة الدولة، وضياع الفرص التنموية، وعدم تقديم الخدمات التي تليق بالمواطنين، وعدم دقة نتائج التنفيذ، وعرقلة سياسة جذب الاستثمارات المحلية والخارجية وعرقلة المعاملات الرسمية داخل الدوائر الحكومية”.
مراحل عملية الإصلاح والتنمية الإدارية
تشتمل عملية الإصلاح والتنمية الإدارية على مرحلتين وهما المرحلة التنظيرية والتطبيقة. تتضمن المرحلة الأولى “دراسة الواقع الميداني للظاهرة، وإجراء التحليل العلمي لأبعادها الفلسفية، وتحديد أهم العوامل المرتبطة بها”. يرى المحاضر بأن هناك خمسة أبعاد أساسية لنشوء هذه الظاهرة وهي “البعد السياسي، القانوني، الاقتصادي، الاجتماعي والإداري”. ويعتقد المُحاضر أن تطبيق أفكار نظرية اقتصاد السوق كأسلوب بديل في إدارة الأنشطة الاقتصادية بعد التغيير السياسي في العراق مثل اعتماد “النظام اللامركزي” ضمن التقسيم الهيكلي الإداري والمالي لأجهزة الدولة التي منحت بموجبها المحافظات والإقليم صلاحيات واسعة في التعاقد والصرف هي التي أفضت إلى نتائج سيئة ومزايا غير مرجوّة بسبب هذه الصلاحيات غير المدروسة دراسة علمية دقيقة. أما مرحلة التطبيق العملي لإجراء عملية الإصلاح والتنمية الإدارية فتتم بواسطة ثلاثة محاور وهي “تطوير كفاءة المؤسسات، تطوير المؤهلات العلمية والمهنية للكادر الوظيفي، وتطوير المؤهلات السلوكية والاخلاقية للكادر الوظيفي”. ويعتقد المُحاضر “أن أنظمة العمل المُطبّقة في الدول النامية ومنها العراق هي بدائية ومتقادمة، ونتيجة لعدم تفهم القيادات السياسية والإدارية لأهمية الإصلاح والتنمية الإدارية، فهي لم تخصص ميزانيات ملائمة لدعم المراكز العلمية التي تختص بمهمة إصلاح وفحص وتطوير أنظمة العمل المعمول بها”.
مؤسسة الإصلاح والتنمية
اقترح الأستاذ شفيع أن تتم عملية التنمية الإدارية على وفق أنموذج إصلاحي يهدف إلى تحقيق جملة من المعطيات التي تتمثل “برفع القدرة المهنية والسلوكية للكادر الوظيفي لتمكينه من ممارسة الوظائف الإدارية بشكلها العلمي وبأفضل التقنيات، وتطبيق برامج عمل ومناهج متعددة لتأهيل الكادر الوظيفي بصورة مستمرة، وأن تتم عملية الإصلاح من خلال تطوير المحورين الداخي والخارجي في آنٍ معاً”.
العوامل التي تساهم في تنفيذ الإصلاح والتطوير الإداري
يرى الباحث أن هناك عوامل عدة يجب تبنيها لتنفيذ الإصلاح وتحقيق التطوير الإداري نجملها بالنقاط الأربع عشرة التي أوردها الباحث في متن محاضرتة وهي “إعادة صياعة المادة “136 الفقرة ب” من قانون الأصول الجنائية رقم “33” لسنة 1971، وإعادة العمل بالمادة “136 – ب” بموجب الامر رقم “14” لعام 2005، استنادا لصلاحياته التشريعية، تنسيب الكوادر الكفوءة والنزيهة لإدارة مؤسسات ودوائر الدولة، إعداد الدورات التدريبية للعاملين لرفع كفاءتهم العلمية، الابتعاد عن التحاصص، تطوير الأنظمة المعمول بها، تقويم أنشطة الدولة، التخفيف من النَفَس البيروقراطي، الإفادة من التقنيات الحديثة وتطبيق أنموذج الإدارة الإليكترونية، إعادة هيكلة الأجهزة الرقابية، دعم الأجهزة القضائية وتعزيز استقلالها، تطوير عمل مؤسسات المجتمع المدني والأجهزة الإعلامية، تطوير تطوير مناهج التعليم، دعم مراكز البحث العلمي والتدريب المهني والإداري، استحداث مراكز دراسات اقتصادية ومالية مستقلة لإعداد الأبحاث الخاصة عن الوضع الاقتصادي والمالي والاداري في الدولة العراقية بصورة دورية”.
شدّد المُحاضر على ضرورة تمتّع هذه المراكز بالإستقلالية لإنجاز عملها بطريقة موضوعية شفافة، ذلك لأن القيادات السياسية تحاول إخفاء أو فبركة بعض البيانات والمعلومات المتحققة لأغراض سياسية تتعلق بمركزها الذاتي تجاه ناخبيها متجاوزين في ذلك مصلحة البلد التي يجب أن تعلو فوق كل المصالح الشخصية والحزبية الضيقة.
توقف الباحث في ختام محاضرته القيِّمة عند بعض تجاربه الشخصية في عملية الإصلاح الإداري التي شملت المستويين التنظيري والتطبيقي عند اشتغاله في إحدى المؤسسات الإنشائية الضخمة في سوريا يمكن إجمالها بثلاثة تطبيقات عملية مختصرة وهي “النشاط المخزني من خلال إعادة تقييم الدورة المستندية له، وورشة تصليح الآليات التي تم فيها تصليح “15.000” سيارة وآلية، وبطاقة كلفة ومراقبة تنفيذ المقاولة التي تحدد مركز الكلفة ومسؤولية الأعمال المنجزة” ويرى أن تطبيقها في العراق قد يسهم في عملية الإصلاح والتنمية الإدارية التي تعاني من شلل لا يمكن إهماله أو التغاضي عنه.