استضافت مؤسسة الحوار الانساني بلندن الشاعر والمترجم العراقي محمد الامين في أمسية ثقافية يوم الاربعاء 7 آب/اغسطس 2019 ، تحدث فيها عن تجربته الشعرية ومنجزه في مجال الترجمة من والى اللغة الفارسية واللغة العربية. محمد الامين شاعر من العراق مقيم في هولندا، وهو من مواليد بغداد عام ١٩٧١. عمل في الصحافة الأدبية منذ مطلع التسعينيات، وساهم في إصدار عدد من المجلات الثقافية مثل “الهامشيون” و”مجلة شيراز”، كما أشرف على القسم العربي في قناة “زوم ان تيفي” الهولندية.اضافة الى كتابة مئات المقالات حول السينما الايرانية. ترجم محمد الامين إلى الفارسية الكثير من الشعر العربي المعاصر، ونقل إلى اللغة العربية قصائد لرواد الحداثة الشعرية الإيرانية. إذ صدر له : “سهراب سبهري: الأبدية في الأغصان- مختارات شعرية ٢٠٠٥”، “فروغ فرخزاد – مختارات شعرية ٢٠٠٥”، و”مختارات من الشعر الفارسي المعاصر بشقيه الإيراني والأفغاني/٢٠٠٥”. وعن منشورات المتوسط صدر له ترجمة ديوان :”ريح وأوراق” للشاعر والمخرج السينمائي عباس كيارستمي و “أخضر أحمر قصائد الشاعر الايراني صادق رحماني”. الشعر الفارسي الحديث ابتدأ محمد الامين الامسية بتقديم سياحة سريعة في عوالم الشعر الفارسي الحديث بناء ً على ما انجزه في كتابه “مختارات من الشعر الفارسي المعاصر بشقيه الإيراني والأفغاني الصادر عام 2005” ، فذكر: انبثقت بوادر التجديد في الشعر الفارسي في مستهل القرن الفائت بعد جملة من التغييرات الجذرية التي طرأت على الحركة الثقافية الايرانية في مجالي المسرح والرواية تحديدا، ففي المسرح تم اخراج العديد من المسرحيات العالمية الشهيرة ذات المضامين الاجتماعية والفكرية، فيما ساهمت ترجمة روائع الروايات الفرنسية والانكليزية والروسية بضخ روح جديدة في النثر الفارسي مما جعلت ينفتح على قاموس الحياة اليومية، كما لعبت الصحافة دورا بالغ الاثر في تشذيب اللغة الفارسية من عبء الكليشيهات التي طغت على الأدب الفارسي منذ أفول المدرسة الاصفهانية في نهايات القرن السابع عشر ميلادي. فكانت النقلة النوعية الأولى في مضامين الشعر الفارسي على يد مجموعة من الشعراء الصحفيين؛ شعراء انتموا الى اتجاهات سياسية وتيارات فكرية مختلفة وكان العديد منهم يترأس تحرير الصحف اليومية والاسبوعية كمحمد تقي بهار(1886-1951) صاحب صحيفة “نوبهار” وأبو القاسم لاهوتي محرر صحيفة “بيستون” وكان شاعرا ثوريا أغتيل في شبابه وأديب بيشاوري (1842-1931)وأيرج ميرزا جلال الممالك (1874-1925) وعارف قزويني (1838-1929)وميرزادة عشقي (1893-1924) وهم شعراء إتسمت قصائدهم بالنفس الثوري الرومانسي، أما على صعيد التقنية فلم يساهم هؤلاء الشعراء المنخرطون في النضال السياسي بتقديم رؤية جديدة أو شكل جديد، غير أننا لانستطيع انكار دورهم في وضع حد ونهاية للقصيدة التقليدية وإبداع قصيدة ناضلت معهم من أجل تحقيق مكاسب اجتماعية، وان لم تخل من مسحة الحزن الرومانسي الذي يبلغ أحيانا حد النرجسية، لقد مهّد هؤلاء الشعراء (وشعراء آخرون بادروا بكسر الأوزان الشعرية والتمرد على ثوابت القصيدة الكلاسيكية كتقي رفعت وجعفر خامنئي وشمس كسمائي وأبوالقاسم الهامي) الطريق للثورة التي سيطلقها علي اسفندياري الملّقب بنيما يوشيج (1897-1960) رائد الشعر الفارسي المعاصر بلا منازع. فبعد قراءات معمّقة للشعر الفارسي الكلاسيكي وشعراء المدرسة الخراسانية بشكل خاص، وهي المدرسة المهتمة بتوظيف الأسطورة والنفس الملحمي وأعتماد لغة فخمة، زاوج نيما يوشيج تجربته الشعرية (وبحكم تضلعه باللغة الفرنسية التي درسها في مدرسة سان لوئيس بطهران ) بما نهله من الشعر الفرنسي الرومانسي. ويرى بعض النقاد أن تجربة هذا الشاعر لم يكن ليحالفها النجاح لولا مزاوجته بين الرومانسية الكلاسيكية الفارسية المتمثلة بنتاج “المدرسة العراقية” وعلى رأسها حافظ الشيرازي والرومانسية الكلاسيكية الفرنسية وقد بدأ الشاعر هذه التجربة الثرية مع قصيدته الشهيرة “القصة الشاحبة” إذ قدّم مضامين انسانية لاتخلو من عبق الرومانسية الكلاسيكية الفارسية مطعمة بفضاء الحرية المستمد من التجربة الفرنسية، وقد أشار نيما يوشيج شخصيا في تنظيراته وكتاباته النقدية ان الدخول الى عالم الحداثة لايمكن أن يتم دون المرور بالمرحلة الرومانسية. وبالرغم من الرفض التام الذي واجهته قصائده الاولى من قبل أنصار الشعر الكلاسيكي، الا أن الوسط الأدبي سرعان ما احتفى بملحته ” الأسطورة” والتي أشار بعض النقاد الى تأثرها الكبير بالموشحات الأندلسية كذلك بقصيدته “أيها الليل” وقصائد اخرى هجر فيها الرومانسية والتأرجح بين النفس الكلاسيكي والمعاصر، وأرتكز على واقعية حادة لم يألفها الشعر الفارسي من قبل ويُستشف منها وعي عميق بالزمان والمكان واللغة والمجتمع، قصائد بوأته مكانة مرموقة كشاعر معاصر تعتمد رؤيته الشعرية على الموضوعات الاجتماعية والطابع القصصي وخلخلة التتابع السائد لنظام التفعيلة بالاعتماد على الايقاع الداخلي. وبسبب الاختناق السياسي الذي شهدته البلاد بعد انتهاء الفسحة الديمقراطية من نيما يوشيج الى الجيل الشعري الذي تلاه وواصل مسيرته ممثلا بأحمد شاملو ومهدي أخوان ثالث وفريدون مشيري ومنوجهر آتشي ونصرت رحماني ونادر نادربور ورضا براهني ومحمد حقوقي وسهراب سبهري ومحمد علي سبانلو وفروغ فرخزاد وآخرين نادرا ما نلحظ غياب صدى الواقع الاجتماعي في الشعرية الفارسية (باستثناء الشاعر سهراب سبهري) وقد أفرط بعض شعراء هذا الجيل في محاكاة الواقع الاجتماعي الى أن أنهك القصيدة بتقريرية مملة. وبالرغم من الجهود المضنية التي بذلها الشاعر أحمد شاملو من أجل مسار شعري مغاير للنموذج النيمائي، إلا أن عوامل عديدة حالت دون نجاح هذا المشروع لعل في مقدمتها إرتكاز قصيدة شاملو على المضامين السياسية تارة وعلى موضوعة الحب التقليدية تارة أخرى. كما شهدت فترة الخمسينات جدلا حادا وردود فعل عنيفة تجاه القصائد النثرية التي نشرها هوشنك ايراني في مجلة “الديك الحربي” تحت تأثير السريالية بعد عودته من فرنسا، أما المحاولات الأكثر أهمية في ترسيخ مكانة لقصيدة النثر فقد جاءت مع جماعة “الموجة الجديدة ” التي ثارت في ستينات القرن الماضي وأرست مناخات جديدة في الشعرية الفارسية، ومن أبرز رموزها الشاعر أحمد رضا أحمدي الذي تتسم قصائده بمهارة عالية في المزج بين الفكرة والصورة الحسية واعتماد الذائقة البصرية عبر تداعيات ذهنية تمنح المخيلة فضاء شاسعا لتفصح عن رغبة عميقة في الهروب من الواقع أو التعالي عليه رغم توظيف مفرداته. والشاعر يد الله رؤيائي الذي اهتم في منجزه الشعري بتفجير اللغة وإثراء المفردة بمداليل جديدة. في الستينات ايضا فاجأت الشاعرة فروغ فرخزاد الوسط الأدبي بقصائدها ذات النبرة الاحتجاجية المتحدية لكل القيم الاجتماعية السائدة. وتشكل مجموعتها الشعرية “ولادة اخرى” علامة مشرقة في الشعر الفارسي المعاصر.وقد شهد عقد السبعينات إعادة قراءة للموروث الشعري الفارسي الذي يمتد قرابة الألف عام كما كان للجهد النقدي المنفتح على المناهج الفكرية والنقدية الغربية دور بالغ الأهمية في رفد حركة التحديث التي أستطاعت ان تقطع شوطا مهما في التحرر من هيمنة التيارات الثقافية الايديولوجية. ومع الثمانينات تم إعادة الاعتبار للشاعر سهراب سبهري الذي ركّزت تجربته الشعرية على البعد التأملي وتوظيف المناخ العرفاني في القصيدة الحديثة بعد أن همّشه الوسط النقدي ولسنوات طويله بسبب إهماله لواقع الاجتماعي، كما شهدت هذه الفترة لجوء العديد من الشعراء الى القوالب الشعرية الكلاسيكية وعودة قصيرة الأمد للشعر الملحمي فرضتها أجواء حرب الخليج الفارسي الأولى، كما ساهم الشعراء الافغان المقيمون في ايران بتجديد الغزل كشكل شعري قادر على استيعاب المضامين الجديدة. منذ التسعينات والي يومنا هذا يشهد المشهد الشعري الفارسي سواء في ايران أو أفغانستان انفتاحا على اتجاهات متنوعة بتنوع المصادر الثقافية وتجارب مهمة مسكونة بهاجس التجريب وتقويض النمطيات السائدة، أصوات شعرية همّها ابتداع جماليات جديدة وقصائد تحمل في طياتها مستويات عديدة من التواصل مع الذات والعالم. مثل علي اسفندياري (نيما يوشيج) في قصيدته الناقوس: في سكون الفجر يشق الجرس الآسر للناقوس ذرات التراب المبثوثة في الهواء ويهدم، كل لحظة، بأظافره الحادة جدران الفجر الباردة. او الشاعر أحمد شاملو في قصيدته مطر: آنذاك، رأيت سيدة حبي المغرورة تفكر علي عتبة مغطاة بالنيلوفر بسماء ماطرة آنذاك رأيت سيدة حبي المغرورة علي عتبة المطر المكتظة بالنيلوفر وقد اجتاحت قميصها ريح مرحة آنذاك رأيت علي عتبة النيلوفر سيدة المطر المغرورة عائدة من سفر السماء الشاق اما الشاعرة فروغ فرخزاد فتقول في قصيدتها ولادة اخرى: كل وجودي آية معتمة يتكرر رحيلك فيها وستقتادُك ذات يوم نحو فجر الإنبثاق والنمو الأبديين أني تأوهتكَ في هذه الآية: آه. . . أني عضّدتك في هذه الآية، بالشجر والماء والنار. رأي وتعريف كتب الاستاذ الشاعر والمترجم صلاح نيازي مقدمة لـ ” منفى فولتير” المجموعة الشعرية الاخيرة للشاعر والمترجم العراقي محمد الأمين الكرخي، جاء فيها : عن عمد استلفت للعنوان هذا الشطر الذي يقطر عمقاً وعفوية وحكمة، لأن فيه إيجازاً كإيجاز عناوين العطور أو الأدوية. قبل محمد الأمين الكرخي كنا قد استسلمنا للمقولة الشهيرة “ربّ صدفة خير من ألف ميعاد”، وها هو يدلّنا الآن على أبهة أعظم من الصدفة. لنصوص محمد الأمين الكرخي، نكهة الشعر، ورزانة النثر. يريك في بعض الأحيان الفصول الأربعة في فصل واحد. تنوّع يلفت النظر. هل بسبب جذوره الضاربة في جغرافيات مختلفة: العراق، إيران،المغرب، هولندا، أم بسبب أروماته الثقافية، كالعربية والفارسية، والهولندية. من علامات نصوص محمد الأمين الكرخي الأخرى، المفاجآت، لها مفعول لسعة القطرة بالعين مع ذلك تأتيك هادئة منسابة كظاهرة طبيعية. يقول الأمين :” غرفوا من البحر استغاثة الغرقى”، يقول الأمين:” أن تحتفي بزوال المسافة بين الماء والسراب”، يقول الأمين :”قلت للفراغ رنينه”. الوجه الآخر للمفاجآت هو حيرة راوية النصّ وكأنه يحدّث نفسه. يقول الراوية:” أن أعاتب كل نهار، تركني وحيدا مع الليل”، يقول الراوية:” أنا الشاهد الوحيد على عودتي للديار”، يقول الراوية:”عصفور يذرف دمعه لينقذ الشجرة”. يبلغ محمد الأمين الكرخي في نصوصه المعنونة “شذرات” مدى جديدا. حركة شبه واقفة ولكنها مسكونه بدردور. يقول الشاعر في :”انتظار”:”كلانا تحت الساعة الكبيرة في محطة القطار، مواسم مرّت، وما زلنا ننتظر اللا أحد تنقصنا التفاتة، مفردة واحدة ربما” أما في قصيدة :”شذرة الرباط” ففيها دليل عاطفي يعلمنا كيف نكتب عن المدن باختزال جرئ. يقول الأمين :”تهبك الشعور بالسعادة والطمأنينة،مدينة تعشق فيها أكثر من آمرأة”. على أية حال، أحببت دقة الملاحظة التي يتمتع بها الأمين، كتشبيهه الأنيق:” مثل فستان الدمية. ومن قصائد المجموعة: منفى فولتير الآن يمكنك مغادرة المكان ليس جديرا بك أن تقف هنا ، مدى الدهر متكئا على عصاك الحجرية باعة من مدن أخرى ينصبون أكشاكهم حولك ويحجبونك عن سوق السبت. الحدائق لم تعد تؤوي العشاق ولا المشردين الأثرياء حصدوا الضلع الشمالي منها وحاصروا قصرك بالمقابر وتحت سياج الهضبة الصينيون المدهشون بحضارتهم التي تفاخرتَ بها يبيعون السلع الرخيصة لسواح وصلوا الى البلدة سهوا. الآن يمكنك الخروج من هذه البلدة االتي تحمل اسمك حيث تبدو كشرطي مرور في شوارع مهجورة وليس لديك ما تفعله سوى النوم في المغارة وذلك ألذُ من الحلم. مثل هذا الحلم..أو رسالة الى الأخت ليس هناك مشقة لإيصال هذا الظرف البريدي المغلّف بالأخضر الداكن. لقد أشار المرسل بسبابته إلى دار السيدة. بيتها مثل سائر البيوت هناك، ترى ما في داخله حتى وإن كنت على بعد مسافة. تمسك السيدة ملعقة خشبية تخلط بها الخضروات التي في الطنجرة بيد، والظرف بيد آخر، مطبخها متصل بصالة الضيوف من جهة ومفتوح على حديقة كبيرة من الجهة الأخرى، تقبل السيدة الظرف وتضعه على طاولة قريبة…تبتسم وتقول: مرة أخرى يكون هذا الأخ قد فاته أن يضع الرسالة داخل الظرف، إنه أخ غريب الأطوار لكن حضوره موجز، مبهج حميمي، ومباغت مثل هذا الحلم. شذرة الظل أيها الظل أيها الظل! هنيئا لك، ان كان قلبك وردة. شذرة جينيف من النافذة أتأمل هطول قطرات المطر بمعية قطرات النوافير. يا حوار الارض والسماء. يا أحاديث عائلية حميمة. شذرة الأمنية ما الذي سيتغير في المشهد لو أنك حققت أمنيتك في الطيران؟! الريح تلوي عنق الوردة والمطر الذي يغزلنا بقطراته. الزلال يغتال جناح الفراشة؟ ما الذي سيتغيّر في المشهد لو أنك حققت أمنيتك وصرت ينبوعاً. السهول مكتظة بالقتلة؟! (….) يا نخلتي وظلك نافورة يا نافورتي وظلك نخلة فراشات قلبك الصغير ترافقني من الصحراء الى الجنة. (….) كم يشبه حنجرتكِ التي تشبه قلبي. هذا الطائر. (….) قلبها مرمر وضحكتها تصعيد لبسمة ملاك أعشاش عصافير تحت أصابع يديها جواربها على حبل الغسيل قوس قزح. شذرة الصديق ذاك الصديق الرائع. أخ متألق بالحكمة والمرح. تذكرته،وقد فاجأنا ذات ليلة برغبته في أن يقرأ قصائد لشاعري المفضل راينر ماريا ريلكه. بعذوبة وتوهج، قرأ حتى نهاية القصيدة ثم طار من النافذة. شذرة الراحلين أخرج من صالة الاحتفال وفي القلب غيمة حزن ودمعة، عند باب الصالة شبان ارتدوا الملابس البيضاء ووقفوا جوار شموع بيضاء أطول منهم، يتقدم شاب اتجاهي ويسألني بأدب وتهذيب إن كنت سأعود إلى الحفل. لم أستطع أن أتفاعل مع الحفل، يجلس المحتفى بهم على أرائك خشبية شبيهة بالمصاطب البغدادية، تغمرهم حلقات من ورود الياسمين، صامتين إلا من ابتسامات تتكاثر في المرايا، أجلس وحدي أتأملهم. يتبادلون أطباقاً مملوءة بحبات العنب وأخرى بحبات الرمان. يتحركون ببطء وكأنهم في حلم داخل حلم. لا لن أعود، أجيب الشاب، هؤلاء الأحبة أنانيون جداً، رحلوا عن الحياة، وقطعوا عني رسائلهم، واكتفوا بحضور متعالٍ في الأحلام، أنانيون إلى حد أنهم لا يتبادلون معك الحديث حتى في الحلم. لا لن أعود إلى حفلٍ مملٍ في حلمٍ مؤلم..