صادق الطائي –
ضيفت مؤسسة الحوار الانساني بلندن يوم الجمعة 26/2/2016 سماحة السيد محمد علي بحر العلوم ،في امسية ثقافية تحدث فيها عن رؤيته لآفاق التجديد في الحوزة العلمية، وسماحة السيد محمد علي بحر العلوم من اساتذة الحوزة العلمية في النجف الاشرف ،وهو نجل سماحة السيد العلامة محمد بحر العلوم ،اتم دراسته الرسمية وحصل على درجة البكالوريوس في القانون من الجامعة العربية في بيروت، والماجستير في القانون والفقه الاسلامي في الجامعة الاسلامية في لبنان 2001،كما تلقى دراسته الفقهية في الحوزة العلمية في مدينة قم في ايران منذ العام 1984 واتم دراسته في الحوزة العلمية في النجف بعد سقوط النظام عام 2003.
وقد ابتدأ السيد بحر العلوم محاضرته بالقول ؛كما لا يخفى عليكم ان الحوزة العلمية وشؤونها وتفاصيل دراستها لم يعد شأنا خاصا بطلبتها او رجال الدين فقط ،بل أصبحت شأنا عاما يهم الكثير من الناس لما تلعبه من دور مهم في حياتهم اليومية ولما يتطلع له الناس من آمال ترتبط بكل ما يصدر من الحوزة. ونحن عندما نتحدث عن التجديد في الحوزة ،فاننا نتحدث عن المشروع الديني ،والحوزة كما تعلمون تعبر عن ذلك ،فهي ليست كيانا ماديا معرفا ومعروفا ولا كيانا بشريا محددا بعدد من الاشخاص ،انما هي نوع من النظام العلمي والاجتماعي والديني الذي يتمثل في مجموعة من المدارس الدينية التي تدرس فيها العلوم الفقهية ،والحوزات العلمية منتشرة في العديد من دول العالم ، ولا تحدد بمكان او مدينة واحدة .كما ان مهمة الحوزة الرئيسية هي تداول شؤون الدين بالفحص والتنقيب ،ومهمتها الاساسية اعداد الفقهاء حتى يمتلكوا ما يؤهلهم علميا للبحث والتنقيب في النصوص الدينية وامكانية استنباط الاحكام الشرعية منها وتعريف الجمهور الديني بها،وبذلك تعد الحوزة ركنا اساسيا في المحافظة على الاحكام الدينية في المجتمع ، كما ان ترتيبها العلمي يبدأ من رأس الهرم الممثل بالمراجع ثم تليهم طبقة المجتهدين من العلماء ثم الفضلاء والعاملين في التدريس ثم طلبة المدارس الدينية.
ثم اشار السيد بحر العلوم الى ان الكلام عن تجديد المشروع الديني ليس حديثا او مؤطرا بفترة زمنية ،انما هو مشروع ممتد من النبي (ص) الى المستقبل ،ان هذا المشروع قد تدرج في الانتقال من النبوة الى الامامة ثم النيابة عن الامامة ثم المجتهدين فكانت الحوزة لتربية المجتهدين واعدادهم لاستنباط الاحكام الشرعية في الحياة اليومية للمسلمين،كما ان ما يميز الحوزة العلمية هي استمرار عملية الاجتهاد عبر استنطاق النص الشرعي ،ان من يعتقد ان التجديد في الحوزة يعني تغيير الثوابت الاعتقادية فهو بالتأكيد على خطأ لان حلال محمد (ص) حلال الى يوم القيامة كما ان حرام محمد (ص) حرام الى يوم القيامة ،لان التحليل والتحريم يتم بالاعتماد على الثابت من النصوص التي لا يطالها التغيير او التجديد ،وان النص مقدس وهذا امر مفروغ منه ،الا ان فهم النص غير مقدس ،وبالتالي فلا قدسية لاجتهادات العلماء عبر التاريخ ولحد الان ،كما اشار السيد بحر العلوم الى اهمية فهم آليات عمل الفقيه لاستنباط الحكم الشرعي عبر استنطاق النص المقدس وفهمه واستخراج الاحكام الفقهية التي تتلائم مع المتغيرات التاريخية ،وهي نقطة مهمة جدا لاستمرار حيوية الفقه وتقديمه ما يهم الناس في فهم احكام دينهم على مر العصور.
لذلك اشار السيد بحر العلوم الى ان من يفهم التجديد على انه زيادة او نقصان في النصوص المقدسة فهو خاطيء ،لاننا وكما اشرنا قبل ذلك الى ان فهم النص واستنباط الاحكام الشرعية منه هو اساس الاجتهاد ،كذلك تجدر الاشارة الى ان من الخطأ الاعتقاد بان الاستنباط او الاجتهاد يكون بحسب الاهواء، انما هنالك آليات للاستنباط تكون مبنية على اساس ما يعرف بأصول الفقه وهو ما عرفه الشهيد محمد باقر الصدر بانه منطق الفقه،اذا التجديد هو فهم او اعادة النظر في فهم النص واستنباط الاحكام المناسبة للواقع الجديد ،ولذلك فان الفقيه مكلف بالمراجعة المستمرة لكل الاحكام الشرعية وملاحظة ملائمتها للعصر او المتغيرات التي تطرأ على المجتمع وما قد تغيره الاستكشافات والمتغيرات العلمية من فهمنا للنصوص المقدسة .
وبين السيد محمد علي بحر العلوم ان ما نلاحظه لدى فقهاء الشيعة هو الاستمرار في مراجعة الاحكام ،كما ان كل فقيه جديد يكتب رؤيته المتجددة في رسالته العملية في كل الاحكام بدأ من الطهارات الى المعاملات ،ولايمكن ان يتبع ما سبقه من احكام دون مراجعتها و الاتفاق او الاختلاف معها وتبيان سبب ذلك ،وهنا نتسائل ما الداعي الى اعادة القديم اذا كان الامر قد حسم من الفقهاء السابقون؟لماذا يعاد النظر في الاحكام الفقهية السابقة ؟والاجابة على ذلك هي اكساب الفقه حيوية الحياة المتغيرة ،ومن هذه النقطة تحديدا ولدت القاعدة الفقهية في عدم جواز تقليد الميت من الفقهاء،فهذه ميزة للفقه الشيعي ومعنى ذلك مع الاحترام والتبجيل لمن مات من كبار الفقهاء ،الا ان الاحياء غير ملزمين بالاستمرار بالعمل بفتاواهم ،لان الحياة متغيرة ويجب ان يكون هنالك فقيه يشرح للناس ما استنبطه من احكام فقهية قد يكون استفاد في فهمه من احكام من سبقه من الفقهاء ،مثال ذلك ان الشيخ الطوسي مع كبر مقامه واهميته في الفقه الشيعي حيث اسمي (شيخ الطائفة) قد بقيت فتاواه لمدة حوالي الف سنة لا يستطيع احد من الفقهاء تجاوزها وهذا معناه ان الناس ستبقى تتعبد وفق قواعد فقهية قديمة، حتى جاء ابن ادريس الحلي وعمل على تجديد الفقه وتخليصه من سطوة الفهم القديم واعتبر مجددا في غاية الاهمية في الفقه .
كما ان هنالك امر مهم اخر ،وهو كما ان الفقيه مدعو الى البحث المستمر والمراجعة في الاحكام الفقهية ،كذلك المكلف او لانسان العادي مدعو الى البحث ومتابعة كل جديد في الفقه ،فالواجب عليه ان يسأل ويستعلم ان كان هنالك فقهاء جدد لهم رؤية قد تختلف في بعض الامور عما اتبعه من احكام الفقيه الذي يقلده ، والانسان مدعو الى اعمال عقله والتوصل الى من هو اعلم او اكثر اجادة في استخراج الاحكام الفقهية ومن ثم تقليده او اتباعه ،لان حكم التقليد المفروض على المكلف لا يحدده بان يكون ملزما بمجتهد واحد يقلده على طول الخط ،بل العكس هو الصحيح والمتمثل في البحث المستمر عن الاعلم ، ومن تفاعل هذين البحثين تتولد الحيوية والتجديد في الحوزة العلمية باستمرار.
ويشير السيد بحر العلوم ؛لكل ما سبق يجب ان نفهم ان التجديد مرتبط بالاجتهاد المفتوح والمستمر طوال تاريخ الفقه الشيعي وهو مصدر حيويته وتفهمه لمتغيرات الحياة ،وان ذلك يمكن ان ينعكس في المنظومة الفقهية للفقيه نفسه ،اذ ان مراجعته الدائمة قد توصله الى ان احكامه وفتاواه التي اصدرها قبل عشرين سنة مثلا ، طرأ او ظهر ما يوجب تغييرها ،فهو في هذه الحالة يجب ان يغيرها ،وقد شاهدنا ولمسنا ذلك لدى اية الله العظمى ابو القاسم الخوئي ،فعند مراجعته المستمرة في علم الرجال اتضح له ما كان خافيا عليه قبل وفاته بعشرين سنة ،من الامور المتعلقة بمصداقية بعض الرواة للاحاديث ،وبالتالي استوجب هذا الاكتشاف تغيير بعض فتاواه وهذا ماتم فعلا قبل وفاته بمدة قصير ة وهو في نهاية الثمانينات من عمره ،اي ان الفقيه مستمر طوال عمره في البحث والتأكد من كل تفصيلية فقهية قد تؤدي الى تغيير ما .
كما اشار السيد بحر العلوم الى ان هنالك تجديد اخر في اطار التنظيم الداخلي للحوزة العلمية مثال ذلك التجديد في المناهج والاليات المتبعة في الدراسة والكتب التي تدرس في المدارس الدينية ولدينا العديد من الامثلة من الفقهاء الذين كان لهم دور واضح في ذلك ومنهم الشيخ محمد رضا المظفر ودوره في تجديد مناهج الدرس الحوزوي وكذلك السيد الشهيد محمد باقر الصدر الذي كان صاحب مدرسة ومنهجية جديدة وصاحب كتابة واسلوب جديد في كتابة الرسالة العلمية ،والخلاصة ان هذا الامر ايضا معروف ومتداول في الحوزة اذ ان التغييرات تتم كل عشر سنوات على سبيل المثال ويتم تناول الكتب والمناهج الجديدة في العلوم الفقهية ويتم ادخالها للدروس الحوزوية . كما اشار السيد بحر العلوم الى التجديد في العلاقة بين الفقيه والجمهور ،وكيفية او الية علاقة الفقيه بجمهوره محور تطور دائم ،ولكن يجب ان نضع نصب اعيننا ان التغيير لا يتم لاننا نرغب في التغيير فقط ،وانما يتم للحاجة له ،وان التغيير او التجديد هو سمة الديمومة في الشأن الفقهي كما هو حال كل الامور الاخرى في الحياة.
وبين السيد بحر العلوم بعض العقد او العقبات التي قد يرى البعض انها تقف في وجه التجديد ، واذا لم يتم تجاوزها فان عملية التجديد زائفة او غير موجودة ، ونحن لا نتفق مع هذه الرؤية ،اذ يقول البعض ان على الفقه ان يتجاوز بعض الاحكام او ان يجد لها بدائل في بعض الامور مثل عقوبة المرتد او عقوبة الاعدام التي بات العالم يوما بعد يوم يقف ضدها ،كما ن وضع المرأة في الفقه الاسلامي من الامور التي اثارت الكثير من الجدل حول اهمية وماهية التغيير الذي يجب ان يتم في موضوع المرأة مثل مساواتها او مطالبة البعض وخصوصا من يعيش في الخارج عدم الزامها بالزي الاسلامي وغيرها من الامور ،اي ان البعض يرى اضافة بعض الاحكام او رفع بعض الاحكام حتى مع وجود النص ،ونحن نقول ان وظيفة التجديد هي اظهار رابطة الاحكام الدينية بالدنيا ومدى تفاعل الدين مع التطور الحاصل في الدنيا ومدى سرعة وموائمة الاحكام الفقهية لاسس الحياة ،ولكن مع الاحتفاظ او الالتزام بالثوابت الفقهية المنصوص عليها في النصوص المقدسة،كما يرى البعض في التجديد الجانب السياسي من الامر مثال تبرير سياسي ما او الترويج لنظرية او اطروحة سياسية ،مثال ذلك قد يقول البعض ان ولاية الفقيه في ايران تعتبر تجديدا لانها وفرت نظرية سياسية طرحت على ارض الواقع وتم تنفيذها وملاحظة مدى موائمتها للمجتمع المنشود ،كذلك قد يشير البعض في هذا الجانب الى موقف المرجعية الدينية في النجف من الواقع السياسي ويرى انها نجحت في لعب دور الجهة المراقبة للاداء السياسي للمجتمع وليس للنخبة السياسية فقط ويعتبر هذا الامر تجديدا في اداء الحوزة ،وتبقى مسألة التجديد وما يطلبه البعض بحسب اعتقاده امر مختلف عليه ،بينما نحن نقول ان التجديد سمة اساسية وصفة اتصف بها الفقه الشيعي وتبنته الحوزة العلمية لذلك عاشت لمئات السنين وهي تلعب دورها في المحافظة على الدين والمذهب وتعريف الناس بصحيح دينهم وهي مهمتها الاولى والاخيرة.