ضيفت مؤسسة الحوار الانساني بلندن الاستاذ محمد عيسى الخاقاني يوم الاربعاء 22 شباط 2017 في امسية ثقافية تناول فيها سيرة آية الله الفقيه السيد حسين السيد اسماعيل الصدر ، ونحن نعرف انه كُتب وقيل ونُشر عن شخصيته اكثر من كتاب ومقال تناولت في مجملها اسرته الموقرة، شخصيته وشخصه الكريم، علمه ومشاريعه العلمية والثقافية والخيرية… لذلك فان محاضرة (وقفة بين الصعب والاصعب) لم تكن تكرارا لما كتب وقيل ونشر..فالمحاضرة القت الضوء على الفترة (الصعبة) التي عاشها الفقيه الصدر في ظل النظام الديكتاتوري السابق، وفيها تفاصيل تروى لأول مرة، من خلال الواقع ومعايشة الاحداث… والحال ينطبق على فترة ما بعد تغيير النظام وسقوط بغداد (بين الاحتلال والاختلال) وهي الفترة الاصعب، وقد التزم الاستاذ الخاقاني فيها منهج البحث الاستدلالي العلمي الذي يربط بين المقدمات والنتائج، وبين الأشياء وعللها ، مستخدما الأساليب والقواعد العلمية لإستقصاء يهدف إلى إكتشاف العلاقات المتبادلة بين الحوادث المختلفة التي عاشها آية الله الفقيه السيد حسين الصدر وتأثيراتها على توجهاته.
الاستاذ محمد عيسى الخاقاني استاذ جامعي، باحث واعلامي، حاصل على ماجستير في اللغة الفارسية وآدابها، متخصص في الادب المقارن، مدير مجلس الخاقاني الثقافي، حاضر في كلية اللغات بجامعة بغداد 1996، وفي كلية الاداب بجامعة البحرين 2008 الى 2011، وفي جامعة الخليج في البحرين 2010 عضو مركز دراسات الخليج في جامعة البحرين، عضو مشارك في جمعية الادب المقارن البريطانية، رأس تحرير جريدة العهد البحرينية 2009 الى 2011، وكان المحرر المسؤول لمجلة الطابو في دبي عام 2006 الى 2007 وعمل قبلها معد برامج في تلفزيون دبي ،قام بتأليف عدة كتب منها: تاريخ اسرة آل الصدر 1997، عملاق الرافدين (الدكتور عبدالهادي الخليلي) 1999، مئة عام مع الوردي 2013 ، نشرت له بحوث علمية في مجلات جامعية متخصصة، وكتب في عدة جرائد ومجلات عربية وفارسية.
ولد السيد حسين السيد اسماعيل الصدر سنة 1950 للميلاد في اسرة اشتهرت بالقيادة الدينية والسياسية والاجتماعية، ممتدة من العراق الى لبنان ومنه الى ايران والى اوربا، وهي في نفس الوقت (اسرة) متصاهرة مع اسر وعوائل دينية كبيرة ومشهورة…
هذه الحلقات الاسرية المترابطة والمعقدة رتبت على السيد حسين الصدر اطارا مُحدِدا منذ الولادة لا يمكن له ان ينفك عنه…وبناء على ما تقدم، فعليه حفظه الله ان يتحمل اثقال هذا الميراث (بسلبياته وايجابياته) من جهة، وان يصل به الى بر الامان دون خدوش او جروح من جهة اخرى.
في ظل مثل هذه الظروف (السياسية والدينية) والبيئة (الاجتماعية) استلم السيد حسين الصدر راية الشباب في الثامنة عشر من عمره وشاءت الاقدار ان يصادف نفس التوقيت نجاح انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي وسيطرته على السلطة في العراق…
القادم الجديد الى الحكم، اي حزب البعث، يمتلك ايديولوجية سياسية اجتماعية، تستند على عدم اشراك اي قوة سياسية دينية واجتماعية معه في الدولة، وهو بطبيعته تلك لايتوافق مع الآخر، الا اذا انصهر معه في بوتقة واحدة، وكذلك البعث يستخدم كل وسائل البطش لأجل تهجين المجتمع على معتقده.!
آل الصدر (الذين ينتمي اليهم السيد حسين)، يلتزمون منهجا سياسيا دينيا واجتماعيا خاصا، وهم لا يوافقون على الشراكة السياسية مع فكر مجهول الهوية، او الانتماء على مبدأ المصلحة الآنية…
اذن منهج وفكر البعث يتعارض مع منهج وفكر آل الصدر جملة وتفصيلا…
سلاح البعث بطبيعة الحياة كان يجب ان يصطدم بفكر آل الصدر، وفي حرب الفكر مع السلاح يقترن النصر الآني دوما على ارض الواقع لصالح شفرة السيف على حساب مبدأ الفكر.
سيطرة البعث تلك سوف تستمر لأكثر من ثلاثة عقود، وسوف تصطدم اجتماعيا وسياسيا بآل الصدر وكل المتعلقين بهم ايضا، وسوف يدخل الفكر الصدري صراعا غير متكافيء القوى على الارض، مع اعمدة تكوين البعث وهي الاعدامات والسجون والتعذيب والترحيل…
بناء على ما تقدم سوف تأخذ الاحداث لونا احمر غامق تسيل منه الدماء
في هذا الزمن الصعب (المتصادم) عاش السيد حسين الصدر المقطع الاول من حياته، وكأني به يتناغم مع شعر المتنبي حين يقول:
ألا لا أرى الأحداث مَدحاً (حمدا) ولا ذمّا
فما بطشها جَهلا ولا كفُّها حلما
فهو لا يري الحوادث حمدا إذا كفت أذاها عنه ولا يذمها إذا ما أصابته بأذاها، فإن الاحداث إذا بطشت بنا أو آذتنا لم يكن جهلا منها، وإذا كفت عن البطش والضرر لم يكن حلما منها كذلك، فالفعل ليس لها وإنما ذلك قدر الله وقضائه، ولكننا ننسب الأفعال إليها استعارة ومجازا.
قرر المترجم له وفي ظل مثل هذه الظروف وهو في ريعان شبابه ان يتخذ قرارا مصيريا في السير على منهج الاسرة الصدرية الفكري، اي انه ادرك منذ ذلك الوقت بانه سوف يكون وريثا لتراث سياسي واجتماعي وديني، لذلك تزيا بزي رجال العلم الديني، ولازم عمه المفكر السيد الشهيد محمد باقر الصدر، بعد ان انتقل والده الى الرفيق الاعلى، ليتعهد بمسجد والده (السيد اسماعيل الصدر) رحمه الله.
ولحسن حظ ان السيد حسين الصدر انتقل تحت رعاية عمه المربى السيد محمد باقر الصدر، الذي كان يمتلك بدوره (مشروعا دينيا وسياسيا)، فمشروع السيد باقر الصدر الديني كما يقول السيد الدكتور جودت القزويني: ( ان السيد محمد باقر الصدر ركّز جهوده على تطوير (الرسالة العملية)، وهو كتاب يتناول الابواب الفقهية على شكل مسائل يحتاجها المكلفون في حياتهم اليومية، كما ساهم أيضاً باعادة ترتيب الابواب الفقهية التي تسالم عليها فقهاء الامامية في كتابه (شرائع الإسلام في معرفة الحلال والحرام) وسعى الصدر إلى استبدال كتب علم الاصول القديمة وقد كتب بهذا الصدد «دروس في علم الاصول» طُبعت عام 1978م) ، وقد اصطدمت هذا القواعد الجديدة مع المدرسة الكلاسيكية القديمة.
اما من الناحية السياسية فمنذ نهاية الخمسينات ساهم السيد محمد باقر الصدر بتأسيس جماعة دينية سياسية، ثم رسم منهاج عمل فكري لحزب الدعوة الاسلامية،… هذا المشروع اظهر تعارضه مع نظام البعث الحاكم، وقد بلغ ذروته حينما اقدم النظام بتاريخ 5/12/1974 على اعدام قادة تنظيم حزب الدعوة الشيخ عارف العبادي البصري، السيد عز الدين القبانچي، السيد عماد الدين الطباطبائي، السيد حسين جلو خان، السيد نوري طعمه، بعد ذلك شملت الاعتقالات السيد حسين الصدر، حيث ذاق طعم الاعتقال لأول مرة عام 1976 بعد ان شارك بكلمة في احتفال اقيم في بيت السيد قاسم المبرقع، وبعد عام كامل من العيش في ظل التعذيب الجسدي في اقبية الامن العامة، عاد السيد حسين مرة اخرى الى الساحة السياسية والدينية، ولكنه اعتقل مرة اخرى في بدايات عام 1979، واعتقل مرة ثالثة بعد ان احتدمت المواجهة بين السيد محمد باقر الصدر والنظام، خرج من السجن ليلتقي بعمه (الشهيد الصدر) قبل اعدامه باسبوعين، فاوصاه العم بالعائلة، وان يحافظ على نفسه لأن (وجوده ضروريا) للمرحلة القادمة… وتطورت الاحداث السياسية بعد ذلك، لتصل الى اعدام الصدر الكبير، وفرض الاقامة الجبرية على السيد حسين الصدر.
تخرج السيد حسين الصدر من هذه المدرسة الفكرية، وكان عليه حمل اللواء بعد استشهاد عمه، والسير على منواله ومنهاجه، ولكي لا نبخس النساء حقهن من التربية والتعليم يجب ان نذكر تأثير السيدة آمنة بنت السيد حيدر الصدر (بنت الهدى) عليه، ودورها في تنشأة وتربية المترجم له (وهي عمته) كاتبة واديبة من مواليد بغداد سنة 1937 استشهدت سنة 1980، لها من المؤلفات: (كلمة ودعوة) و(الفضيلة تنتصر) و(المرأة مع النبي)، و(إمرأتان ورجل)، و(صراع من واقع الحياة)، و(الباحثة عن الحقيقة)، و(ذكريات على تلال مكة) و(الخالة الضائعة)، و(لقاء في المستشفى)، و(ليتني كنت أعلم)…
بعد فقدان (العم) و(العمة) حيث مر حدث اعدامهما سريعا وتفرق الاحباب وتخاذل الاصحاب… ولم تمر سوى خمسة اشهر من الاحتقان السياسي كان فيها السيد حسين الصدر تحت الاقامة الجبرية، الا وغطى ضجيج المعارك وقعقعة المدافع على كل الاحداث، في حرب ضروس دامت ثماني سنوات خلفت حوالى مليون قتيل، تلتها سنة واحدة استراحة للشعب العراقي، لتردفها حرب أخرى دولية لأخراج الجيش العراقي من الكويت، حرب ادت الى القضاء على البنية التحتية للبلاد، واولدت حصارا ظالما وطويلا دام عشر سنوات…
هذا الزمن الذي اختصرته الكلمات في ثلاثة اسطر، جُمعت فيه ملايين القتلى والمشردين، والاعتقالات وبيع الذمم والشرف وانقلاب القيم والمفاهيم رأسا على عقب، هذا هو الزمن الصعب الذي كابده السيد حسين الصدر، باسلوب وطريقة لم يكابده غيره او مثله…
واجه السيد حسين الصدر في الزمن الصعب ثنائية (الوجود الضروري وضرورة العمل الديني والاجتماعي والسياسي)، وهي ثنائية قد تكون قاتلة في ظل نظام البعث، فلا يمكن ان تكون وجودا ضروريا وان تعمل في المجال الديني والاجتماعي والسياسي، بل لو عملت في هذا الاطار قد تصبح بالنسبة للنظام (وجود غير ضروري) بل يجب التخلص منه…
آية الله الفقيه السيد حسين الصدر، تحرك في هذا الزمن ضمن مساحة ملغمة كما يتحرك القائد العسكري المحاصر، وهو يريد ان يخرج من هذه المساحة وقد حافظ على جنوده وحقق خرقا في صفوف العدو ومن ثم يتقدم الى الهجوم، وهي مهمة اشبه بالمستحيلة.
هذا الزمن الصعب الذي اطلعتُ (انا) على بعض تفاصيله (من خلال عين صادقة نقية شفافة) تعالت على الزمن الرديء واختارت كما اجدادها العظام الانسحاب من الحياة عن طريق الشهادة… العين التي اطلعتني على اسرارها بكل صدق وشفافية كانت عين السيد حيدر السيد اسماعيل الصدر، (المغيب والحاضر الغائب والشهيد الحي باذن الله) وهو شقيق السيد حسين الصدر، وفي نفس الوقت كان هو اخي الذي لم تلده امي، وصاحبي في السراء والضراء…
كان لي لقاء يوميا بالسيد حيدر الصدر، لايتأخر فيه احدنا عن الآخر، ولم نكن نحتاج الى مواعيد نلتقي بها، فمسير السيد حيدر اليومي معروف، صباحا هو يعمل في المكتبة العلمية بشارع المتنبي، ثم ظهرا وعصرا هو في البيت (مع اخيه السيد حسين والعائلة) ومساء يكون اما معي او مع صديق آخر، او انه يجمعنا سوية في مطعم او مقهى او عندي في البيت…
من خلال هذه المعرفة سوف انقل لكم الصورة كما رأيتموها انتم في التلفزيون او قرأتم عنها في الصحف والمجلات اولا، وكما رأيتها انا من ارض الواقع ثانيا.
الصورة الاولى: شوهد السيد حسين الصدر وهو على رأس وفد عراقي يضم الدكتور همام عبدالخالق وزير التعليم العالي والبحث العلمي والشيخ الدكتور عبداللطيف الهميم ممثلين للعراق في مقابلة البابا يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان، وكان لهذا الحضور تأثيره السياسي الكبير آنذاك!!
سوف انقل لكم الان نفس هذه الصورة (لقاء السيد حسين الصدر مع البابا يوحنا بولس الثاني) كما رأيتها انا شخصيا، ولكن من منظار كان غائبا عليكم، ثم غطته الاحداث بغبارها… حيث كنت قبل هذا الحدث باشهر اتصل صباحا كالعادة بالسيد حيدر الصدر فلم يرد على اتصالي، واتصلت بالمكتبة حيث يعمل فقالوا انه لم يأت ولم يتصل كذلك (وهذه ليست من عاداته)، وعاودت الاتصال ظهرا وعصرا، وكذلك لم يرد على اتصالي، وبينهما ذهبت الى بيتهم العامر، وضربت الجرس وطرقت الباب، ولا رد، اتصلت بصديقنا المشترك فوجدته اكثر قلقا مني لأختفاء السيد…
مساء هذه الليلة المريبة اتصل بي السيد حيدر، وطلب ان نلتقي، فذهبت بسيارتي الى بيتهم العامر وكان ينتظرني امام الباب، في سيارتي تحدثنا بصوت خافت لا يعلو على صوت الاذاعة عن سبب غيبته، فقال لي: انه قد ُطرق الباب ليلة امس في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، ففتح السيد حيدر الباب للطارق…
كانوا زوار الليل من الامن العامة وهم يطلبون من السيدين حسين وحيدر ارتداء ملابسهما ومرافقتهما الى مديرية الامن العامة، ورجال الامن طبعا لا يدرون لماذا اتوا في هذا الساعة وما يريده مديرهم من السيدين، فهم عبيد مأمورين!!
يقول السيد حيدر الصدر اعاده الله سالما غانما وذلك ليس على الله ببعيد، يقول: وصلنا الى مديرية العامة واستقبلنا مدير الامن والقى بنا محاضرة طويلة في الوطنية وحب الوطن، ثم طلب ان يدخلوها علينا، وكانت احدى كريمات آل الصدر، حاولت مع زوجها الهروب الى خارج العراق وقد القت السلطات القبض عليهما، قال مدير الامن ان السيد الرئيس القائد ارجع الفتاة اليكم احتراما للسيد حسين، وطالبهم نسيان زوجها، ثم اعاد عليهم محاضرة في الوطنية وحب الوطن، وارجعتهم سيارة اخرى الى البيت، ومن هناك نقلوا ارحامهم الى النجف الاشرف وصلوا الفجر في حضرة الامام علي عليه السلام.
لم تمض ايام على هذا الحدث، حتى اراد صدام (من السيد حسين الصدر) رد الجميل، فجاء الطلب (الامر) للذهاب مع وفد عراقي لزيارة قداسة بابا الفاتيكان، وكان ما شاهده الناس في التلفزيون، وكانت لهم احكامهم على الصورة الحدث ولم يفقهوا الحدث الذي ادى الى الصورة، وذلك ديدن البشر في الاحكام كما يقول المرحوم علي الوردي.
اعتقد شخصيا ان سماحة السيد حسين الصدر حفظه الله، فتح نافذة من خلال هذا الحدث لصالح اعتقاده في عملية خرق سياسية على كافة الاصعدة.
1- طلب السيد حسين ان يفتتح حوزة مصغرة لطلاب العلم ووضع لها منهجا علميا حديثا، وبدأ التدريس فيها واستقدم لها الاساتذة، ليزرع الارض الجدب في فترة ويحرك مياها ساكنة منذ اعوام طويلة.
2- طلب ان يعيد الحياة لبعض المساجد، وحصل على موافقة بناء مساجد اخرى (كنت عريفا لأغلب الاحتفالات التي اقامها السيد حسين في المساجد الجديدة، وقد كنت شخصيا من يكتب برقية شكر للرئيس في ختام كل حفل)!!
3- ربما تكون الخطوة الاجرأ التي قام بها السيد حسين الصدر في هذا المجال او فلنقل في هذه (المساحة) هو اعادة فتح الحسينيات واقامة الشعائر الدينية في انحاء بغداد ومن ثم العراق وعلى مسؤوليته الشخصية، وقد ثقف جيل من خطباء المنبر الحسيني على كيفية طرح القضية الحسينية دون اثارة الحكومة المتحفزة.
من خلال هذه الفرصة وهذه المساحة خاطب السيد حسين الصدر العقل الباطن القلق عند المواطن العراقي، وجعله يطمئن لثنائية السيد الصدر شبه المستحيلة (التي هي تحمل المسؤولية اما السلطة في مقابل العمل لوجه الله تعالى) هذه الطمأنينة جعلت وجهاء البلاد وبعض تجارها والشخصيات المحترمة تقترب من السيد حسين الصدر، بل وتدعم مشاريعه.
وبذلك استطاع السيد حسين الصدر وفي احدى اسوأ فترات التاريخ العراقي، وهي فترة الحصار الظالم الذي مارسه المجتمع الدولي من جهة وصدام واعوانه من جهة اخرى على الشعب العراقي، في مثل هذه الفترة قام سماحته بعمل جبار لم تستطع بعض الدول والحكومات ان تقوم به
1- شكل لجنة لمتابعة المحتاجين والفقراء، مما فتح بارقة امل امام الناس… وما زالت الناس تذكر ذلك وتشكر
2- افتتح عيادات ومراكز صحية لعلاج المحتاجين مجانا
3- اتفق مع بعض المستشفيات لأجراء العمليات الكبيرة او لأدخال المحتاجين بغرض العلاج مجانا
4- قام شخصيا بحل المشاكل العشائرية المعقدة التي كانت السلطة تغذيها، باختيارها شيوخ للعشائر مما عرف آنذاك بشيوخ التسعينات.
5- وهناك اعمال عديدة قام بها السيد حسين الصدر على مستوى العراق، تدخل ضمن اطار ما يسمى في الشرع الاسلامي باخفاء عمل الخير، حيث لم اطلع عليه كما لم يطلع عليه غيري، ولكن بقي ما تناقلته الالسنة، وكما قال المتنبي:
ان في الموج للغريق لعذرا واضحا ان يفوته تعداده
في تلك الفترة الصعبة مثّل السيد حسين الصدر شخصية (الوجود الضروري) بالنسبة للقضية الدينية، السياسية والاجتماعية التي آمن بها، وباسلوب سياسي متمكن.
دخلت الولايات المتحدة الامريكية الى الاراضي العراقية في عام 2003 للميلاد، واعتقد وهذه وجهة نظر شخصية ان فترة الاحتلال وما بعدها كانت هي الفترة الاصعب بالنسبة للسيد حسين الصدر حفظه الله ورعاه.
وبما اني قد وجهت نفسي منذ بداية الحديث على ان التزم بمنهج البحث الاستدلالي العلمي، لذلك سوف اقدم ما يؤكد على صحة كلامي من خلال الربط بين المقدمات والنتائج، وبين الأشياء وعللها، مستخدما الأساليب والقواعد العلمية حد الامكان باذن الله تعالى.
عندما سقط نظام صدام حسين، برز دور سماحة آية الله الفقيه السيد حسين الصدر بصفته مرجعا دينيا يمثل اجتماعيا: الاهتمام بالشؤون الإنسانية لكلّ العراقيين مسلمين وغير مسلمين ضمن مشاريع خدمية، ثقافية وإجتماعية تخدم الإنسان العراقي.
فقد اسس وانشىء مستشفيات وعيادات ومستوصفات ومراكز متخصصة ومجمعات ومختبرات طبية شملت محافظات العراق تقريبا، وخاصة الاماكن التي كانت محرومة من هذه الخدمات، بلغت اكثر من 40 مؤسسة حتى اعداد هذه الدراسة، كذلك فقد قام سماحته بتأسيس معاهد للتمريض والإعداد الصحي وتعليم الثقافة الصحية ومعاهد للتمريض النسوي تجاوزت اعدادها العشرين واسس دور الرحمة للمسنين وكفالة اليتيم في بغداد وبعض محافظات العراق
اما في المجال العلمي والثقافي فقد الف ونشر السيد حسين السيد اسماعيل الصدر اكثر من 200 كتاب في كافة صنوف العلوم الانسانية، ويسر بعض المؤلفات الدينية للاطفال والناشئين والشبابوانشأ سماحته عدداً كبيرا من المراكز التعليمية (مدارس بكل المراحل، معاهد، جامعات، مؤسسات علمية، ومراكز تعليم مهنية) وذلك لتوفير فرص التعليم والتأهيل والتدريب في مناطق عدة من العراق، بالاضافة الى افتتاح مراكز متعددة لمكافحة محو الامية المستشرية في العراق.
كذلك قام سماحته بتأسيس مكتب ومعرض الكتاب الدائم، ومؤسسة السلام الإذاعية والتلفزيونية الفضائية (مؤسسة السلام للصحافة والإعلام) ومكتبة مدينة الصدر ومراكز للمؤتمرات وقسم التبليغ والإعلام في محافظة ذي قار... بالاضافة الى مؤسسة الحوار الإنساني التي تملك مكاتب في العراق وخارجه…وقد تجاوزت مجموع هذه المؤسسات العلمية والتدريبية والثقافية اكثر من 120 مشروعا عاملا حتى اعداد هذا التقرير.
اما في المجال الخدمي فقد اسس السيد حسين الصدر، مشاريع المراكز الخدمية والانسانية مؤسسا عشرات المرافق منها مراكز وملاعب ودور أيتام ومجمع توزيع الحصة الغذائية الأسبوعية والملابس والحاجيات المنزلية على العوائل الفقيرة والمهجرة في النجف وكربلاء وميسان وكذلك مراكز للمناسبات للعوائل المتعففة.
اما في المجال الديني فقد انشأ ودعم ورعى سماحته عشرات المساجد والحسينيات في مختلف مناطق العراق (بلغت 88 مسجدا وحسينية ومركز ديني) حتى اعداد هذه الدراسة، حيث يتابع شؤون هذه المؤسسات الدينية، ويصدر توجيهاته للقائمين على المساجد والحسينيات من اجل تقديم صورة الاسلام بصورة تتناسب مع العصر الذي نعيش فيه.
لا يمثل هذا الجرد المقتضب كل الأعمال والمشاريع التي قام بها السيد حسين الصدر، فقد اختفت من هذا الجرد التفاصيل اولا، والمشاريع قيد الانجاز ثانيا، والمشاريع التي تدخل في اطار (اخفاء العمل خشية الرياء شرعا) ثالثا.
ربما يخطر على البال ان (زمن الرخاء) وزمن الخدمة الاجتماعية هذا لا يمكن ان يكون (الزمن الاصعب) كما اطلقت عليه في هذه المحاضرة… ولتوضيح ذلك اؤكد ان هذه المشاريع جميعها مرتبطة ارتباطا وجوديا بالسيد حسين الصدر حفظه الله واطال في عمره، ولأجل استمرار ديمومتها يجب ان تتكون لها مؤسسة خاصة بها، لها ميزانيتها، ومدعومة من قبل بعض الاوقاف الانشائية والمشاريع ذات المداخيل الاقتصادية… لتضمن ديمومتها في كل الظروف.
اما سياسيا: فقد اعتمد السيد حسين الصدر طرح (مشروع الإسلام الوسطي) البعيد عن المذهبية والطائفية والتشدد، ولكننا لم نرَ مشروعا سياسيا بملامح واضحة للمرحلة الاصعب في العراق، فاذا ما قورن العمل الاجتماعي والخدمي والديني الذي قام به سماحة السيد قياسا الى العمل السياسي المتوقع من سماحته، سوف يتضآئل الاخير امام الاعمال الجليلة الاولى.
شخصيا ارى ان السيد حسين الصدر وريث المدرسة الصدرية الاولى المتمثلة بالسيد الشهيد محمد باقر الصدر رحمه الله (كما ان السيد الشهيد كان قد رباه ودرسه وبشر به)، وكأني به وقف في هذه المرحلة الاصعب من الزمن وهو يردد قوله جده الامام علي بن ابي طالب عليه السلام: (فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى وَفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً).
فالسيد حسين الصدر رأى تراث عمه السيد الشهيد وقد توزع بين (افراد وفرق واحزاب)، وكل يدعي الوصل بليلى، لدرجة عالية، حيث لم يتمكن في الرد على الاوهام والاكاذيب والاساطير التي نسبها الاحبة القدماء عن علاقتهم بعمه الشهيد، بل ان هناك من سمع عنه بعد استشهاده بانه قد بدل اتجاه السياسي من (كذا الى كذا) وآخر رافقه في لقاءه الاخير مع صدام قبل اعدامه، ولا اريد الخوض في هذا الموضوع المختلف عن المادة التي اجتمعنا لأجلها، ولكني احيلكم على كتابي (استثمار الدم) الذي سيصدر قريبا ان شاء الله.
ونعود الى الموضوع مرة اخرى، واقول وهذا رأي شخصي، لو توقف السيد حسين الصدر عن ممارسة السياسة بصورة عامة لكان هناك صورة واضحة من الاحتجاج عن (نهب تراث الشهيد الصدر الاول)، ولكن السيد حسين الصدر شوهد في بعض الصور وهو يلتقي وزير الخارجية الامريكية كولن باول والحاكم المدني الامريكي للعراق اثناء الاحتلال بول برايمر … (وهذه اللقاءات تحسب على السياسة)!
وقد سألته شخصيا (في نيسان 2004) عن هذه اللقاءات، فاجابني انهم قوة احتلال طلبوا مقابلتي فوافقت لعلي اجد بعض الحلول للمشاكل التي ضربت العراق جراء الاحتلال، فقلت لسماحته وهل سمعتم عن الانتقادات التي وجهت اليكم، فقال نعم وصلتني واتمنى ان يستطيع المنتقد رفض طلب قوة احتلال تريد ان تلتقيه!!…
ومنذ عام 2004 لم يطرح السيد حسين الصدر حفظه الله ورعاه (قاعدة مؤسساتية سياسية) منتظرة بعد انكان من نوادر المسؤولين العراقيين الذين زارهموزير الخارجية الامريكية، يبدو ان هذا الامر عائد الى الظروف آنفة الذكر (ميراث العم)، ولكنه حفظه الله عاد والتقى مرة اخرى في العام الماضي مع السفير السعودي المطرود من قبل الحكومة العراقية بعد ذلك (ثامر السبهان)، وكانت هناك نقمة شعبية ضد السيد السبهان لتدخله في الشؤون العراقية من جهة، ولوصفه الحشد الشعبي بعبارات غير لائقة من جهة اخرى…
استغل السبهان صور لقاءه مع السيد حسين الصدر سياسيا احسن استغلال، خاصة وان اللقاء كان لقاء مجاملات كما ظهر من بعض اللقطات التي بثت منه، ولكن السيد السفير استطاع في هذا اللقاء، وكما نقل هو (ان يلتقي بالمرجع الديني العربي العراقي) ليؤكد من خلاله بان ليس كل ما ينقل عنه او من ينشره هو شخصيا في موقع التواصل الاجتماعي (توتير) صحيح، ولوح السيد السفير الى الاشاعات التي تصدر من الخصم (غير العربي) او غير العراقي…
ومن باب صديقك من صدقك لا من صدقك، سألتُ سماحة السيد حسين الصدر العام الماضي هنا في لندن عن طبيعة اللقاء وتوقيته، فاجابني باننا منفتحون على الجميع ونسمع من الكل الجميع… وليست لدينا مواقف مبيتة ضد احد.
ربما يتفق بعض الناس مع طروحات السيد حسين الصدر السياسية وكذلك ربما يختلف معه آخرون، لكن هذه الطروحات بالمجمل العلمي المنهجي ليس طروحات سياسية بقدر ما هي طروحات (دينية محضة)، تستند على قاعدة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)القرآنية وتتخذ من الحديث النبوي الشريف (الانسان بنيان الله في الارض ملعون من هدمه) قاعدة لها، ثم تتكيء على قول الامام علي عليه السلام (الناس صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق)، وهذه المباديء الدينية تشرح في شعار مؤسسة الحوار الانساني التي نجتمع فيها الان: (الحوار من اجل معرفة الآخر وليس من اجل تغييره)
اذن هذا المنبر وهذه المؤسسة التي تنتمي فكريا لآية الله الفقيه السيد حسين الصدر وينتمي هو بدوره (حفظه الله) لها…
افكار هذه المؤسسة ومؤسسها تسير في خط موازٍ مع خط السياسة، وهما لا يمكن ان يلتقيا ابدا، وان التقتا فان السياسة سوف تفسد نقاء المثالية والفضيلة التي تتمتع بها.
وقبل ان اختتم حديثي هذا اتذكر لقاء جمعني بالسيد حسين الصدر حفظه الله في بغداد منتصف التسعينات من القرن الماضي، حيث طلبت منه ان يصف لي الشخصية العملية لعمه السيد الشهيد محمد باقر الصدر، فاوجزها قائلا: (بأن السيد الشهيد كان يصنع من اللاشيء إنجازاً إن أراد، فإنه دائم التفكير في الشأن الإسلامي، متنوع الأفكار، يتحرك حسب منهجية واضحة، واذا ما اصابتنا مشكلة او تعبنا من الخصوم أو أصبنا بانكسار، نذهب إلى النجف لنستمد من عمنا الشهيد القوة والعزم).
هذا الشهيد الخالد الذي تقاسمت تراثه الاحزاب والفرق، وادعت ما ادعت عليه، ونسبته لها او نسبت نفسها اليه… يطرح حلا في كتابه اقتصادنا لمثل هذه المستحدثات السياسية، في اطار نظرية المعرفة الاسلامية التي صاغها، والتي تدخل في مشكلة التنظير في فلسفة التاريخ، وهو رحمه الله يرى ان الاسلام قد وضع لحركة التاريخ اطارا نظريا يستوعبها بما اسماه (منطقة الفراغ)… اما الفكرة الاساسية لهذه النظرية، تقوم على اساس: (ان الاسلام لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية بوصفها علاجا مؤقتا او تنظيما مرحليا، يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن … لأن الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصا او اهمالا، وانما حددت للمنطقة احكامها، بمنح كل حادثة صفتها التشريعية الاصلية مع اعطاء ولي الامر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية، حسب الظروف…)… (تجد شرح هذه النظرية بالكامل في كتاب اقتصادنا للسيد الشهيد محمد باقر الصدر في الصفحات 638 –641)
ختاما ومن وجهة نظر شخصية غير ملزمة لأحد، يستطيع سماحة المرجع الفقيه السيد حسين السيد اسماعيل الصدر ان يملأ منطقة الفراغ هذه، سياسيا واجتماعيا وهو وريثها الطبيعي دينيا، من خلال تكوين مؤسسة سياسية تعتمد على شخصيات مستقلة من التكنوقراط… تستطيع هذه المؤسسة المشاركة في العملية السياسية، تدعمها قاعدة شعبية اكتسبها في السنوات الصعبة والسنوات الاصعب من خلال الاعمال والمشاريع الاجتماعية والخيرية التي قدمها سماحته للمجتمع.