د. عبدالجبار الرفاعي
طبيعة الإنسان ووقائع الحياة والعلاقات الاجتماعية تخبرنا أن الكائن البشري مثلما يحتاج المحبّة يحتاج الكراهية أيضًا، أظنُّ يحتاج الكراهيةَ أحيانًا أكثر من المحبّة، وهو ما نراه ماثلًا في حياتنا، حُبّ الإنسان وإسعاده ورعايته يتطلب من الإنسان تربية لنفسه، وارتياضًا مرهقًا، لأنه لا يستجيب بسهولة لذلك. النفس تميل للتشفي والارتياح حين يتألم الناس، وتتلذذ بصمت حين تتفرج على تعاستهم ومتاعبهم. تتألم لألم الناس الشخصية الفاضلة، الفضيلة تعكس ارتقاء أخلاقية الإنسان وتساميها، ومقدرته على إخماد الرغبات المؤذية له واطفاء نوازع التشفي بأوجاع غيره من الناس. يقول الإمام علي بن أبي طالب «ع»: «أكره نفسَك على الفضائل، فإن الرذائلَ أنت مطبوعٌ عليها»، «الارتقاء إلى الفضائل صعب منج، والانحطاط إلى الرذائل سهل». بعض البشر يفرضون على غيرهم كراهيتهم، أحيانًا لا يحتمي الإنسان من نزعة الانتقام العنيفة لديهم إلا بالهروب والاختباء بعيدًا عنهم. لو حاول أن يتسامح لن يجدي تسامحه معهم نفعًا، لو حاول الصمت لن يصمتوا، لو حاول الإحسانَ لن يكفّوا. هؤلاء كأنهم شرطة متخصّصة في تفتيش المعتقدات والأفكار والكلمات والنوايا، يستبدّ بهم شعور زائف يوهمهم بأن لهم الحق بملاحقة كلّ الناس ومحاسبتهم وعقابهم، يرون أنهم أوصياء على الكلّ، من دون أن يحقّ لأحد محاسبتهم وردعهم، بعضهم يشعر أن لديه تفويضا إلهيا بالوصاية على الناس، والتدخل في حياتهم الخاصة، وفرض قناعاته عليهم. يتورطُ الإنسان أحيانًا بعلاقات خطأ بمصابين بأمراض نفسية أو أخلاقية، وربما يجتمع لديهم النوعان من الأمراض، يفرضون عليه وصايتهم، وهذه الحالة هي الأقسى والأعنف. أكثر هؤلاء لا ينفع معهم الصدق والوفاء والكرم والعطاء. يتضاعفُ ويتسعُ حضور هؤلاء في المجتمع باتساعِ وتفشي: الجهل، والفقر، والمرض، وشيوع أساليب التربية والتعليم القمعية، والحروب العبثية، والنفاق، والتدين الشكلي، وانهيار منظومات القيم والأخلاق. أحيانًا يشعر الإنسان بحاجته لكراهية بعض البشر ممن يتخذون مواقف عدائية ضدّه، من دون سبب يدعوهم لذلك. الشعور بالكراهية موجع، إنها كالعلقم الذي لا يتجرعه الإنسان بسهولة، ولا يستطيع كتمانها إلا بمكابدات قاسية. وربما يشعر بحاجته الشديدة للانتقام. ارتدادات الانتقام على من ينتقم أقسى ممن ينتقم منه. الإنسان الأخلاقي تمنعه أخلاقه من الانتقام. أحكمُ الناس من يحرص على تفريغ شحنات الكراهية بوسائل غير عنيفة. أظنُ الحاجة إلى الكراهية أشدّ من الحاجة إلى الحُبّ عند بعض البشر، وإن كان الحُبّ دواء لذيذًا، والكراهية داء مرًّا. يقول دوستويفسكي: «لقد كُتب على الإنسان أن يعيش في تحد دائم، إنه ليس في حاجة إلى السعادة فقط، فهو يُحب العذاب، وأحيانًا يحبه بشغف». الحاجة للحُبّ معلنة، الحاجة للكراهية كامنة لا يبوح بها الإنسان. في الغالب لا تعلن الكراهية عن حضورها، بل تتخفى في اللغة والكلمات الضبابية ومختلف أساليب التعبير والمواقف المراوغة. قليل من الناس يستطيع التحكّم بما يعتمل في داخله من الكراهية، فيخفض هذه الحاجة إلى الحدِّ الأدنى، وأقل منهم من يتخلص منها، وذلك لا يتحقّق إلا بمشقة بالغة. لو لم تكن هناك حاجة دفينة للكراهية لما رأيناها متفشية، ولما انعكست آثارها الفتاكة في مختلف مرافق الحياة، ولما كانت سرعان ما تستغل الظروفَ والأوضاعَ الطارئة والاستثنائية في أيّ مجتمع لتتفجّر بضراوة. ذلك ما تقوله تجاربُ الحياة والعلاقات بين الناس، الذين ينتمون لأديان وطوائف وثقافات وإثنيات متنوّعة. مذهلٌ حجم الشرّ المختبئ لدى بعض البشر، والذي نراه يتفجر تارة كالبركان العاصف، إن امتلك الإنسان أدوات السلطة والقوة، وتارة أخرى يتسلل بخبث في الظلام، إن كان الإنسان لا يمتلك تلك الأدوات، فيأكل الشرّ ما يتمكن من افتراسه في الحياة. الإنسان ضحية لغريزة العدوان، وهو ما تتحدث عنه الصراعات والنزاعات، وأحيانًا الحروب العنيفة الماثلة في مختلف العلاقات بين الدول والشعوب والجماعات والأفراد. حتى الأسرة الواحدة ربما لا يمكنها حماية كيانها على الدوام من الغيرة والتباغض والتنازع. الكراهيةُ حاضرة في حياة الناس وعلاقاتهم الاجتماعية، غير أنها قلّما تكون معلنة، نرى آثارها في الدسائس والمكائد والنمائم والسعي بين الناس بالباطل، لو انفجرت الكراهية النائمة في أعماق النفس الإنسانية، وأعلنت عن وجودها بلا حذرٍ وخوف، واخترقت كلّ المعايير الأخلاقية والقانونية والكوابح العقابية، لأكلت الكراهيةُ البشر، وصار عيش الإنسان على الأرض متعذراً. يتحدث علماء النفس والأطباء النفسانيون وعلماء الجنايات والإجرام والاجتماع والأنثربولوجيا والأحياء عن هذه الحاجة، ويكشفون عن جذورها في النفس الإنسانية، ويبحثون مناشئها في اختلالات وإخفاقات: التربية والتعليم، والثقافة والآداب والفنون، والتطور الحضاري، ومنظومات القيم، وتدهور مستوى العيش الكريم للإنسان، وانهيار موقعه الطبقي، وتعصبات الهوية الإثنية والدينية، وغير ذلك. الإبداع والابتكار والحضارة تعبير عن تفريغِ الكبت والشحنات العنيفة داخل الإنسان، كما يقول علم النفس التحليلي.ترى أصدقاء يظهرون التودّد لك في حضورك، ويتواصلون معك في غيابك، غير أن نفوسهم تغلي بما تضمره من غيض، خاصة إن كانت تستفزّهم مثابرتك ومنجزك، يترصدونك ويسعون لتشويه صورتك، بلا أن يصدر منك انتهاكٌ لحقّهم أو تجاوز على حريتهم. قد يفرحون ويبتهجون عندما يستمعون أو يقرؤون الافتراءات والأباطيل ضدّك، لا يفندونها على الرغم من أنهم على دراية تامة بأن مواقفك وسلوكك وأخلاقَك تُكذّبها، بل يسارع بعضُهم لإيصالها لك بغيةَ التشفي، وإن كانوا يظهرون عند إرسالها التعاطف معك والغيرة عليك. يلجأ الإنسان للتشفي حين تنهشه الغيرة ويفترسه الحسد، وهو يرى نجاح غيره في مجال يتمنى التفوق فيه، لذلك يبحث عن وعاء يسكب فيه الألمَ الذي يصيبُه، وينقذ نفسه من الإحباط. التشفي يريح الإنسان، يسمح له أن يتلذّذ بمتاعب غيره، وينشرح بأحزان أصدقائه. إنه يخلّصه من مشاعر العجز المؤلمة حيال نجاحات الآخرين وتفوقهم عليه، وظفرهم بمكاسب أخفق هو في إنجازها، مضافًا إلى أنه يعيد تقديره لذاته. عندما أنظرُ إلى أعماقِ النفس الإنسانية بمجهرِ علماء النفس لا أرى في الإنسان ما يغويني بمحبّته، لكني أرى شيئًا من النور يغويني بمحبّته عندما أنظرُ إلى روحه بمجهر العرفاء، وأهتدي ببصيرتهم المضيئة التي ترى روح الإنسان بنور الله. لا أثق بالطبيعة الإنسانية كما هي، لا أثق بها إلا إذا تفاعلت بماهيتها كيمياء المحبّة والرحمة والشفقة على الخلق، ومن دون ذلك يمكن أن يصدر عنها مختلف أشكال الشرور الأخلاقية. الإنسان بطبيعته كائنٌ يثيره أيّ نجاحٍ يحقّقه غيره، وأكثر الناس يحزن في أعماقه من أيّ منجز للغير، وإن كان أحيانًا يُظهر خلافَ ما يُبطن. قد يتفاقم حزنُه فيتحول إلى مواقف عاصفة، تضجّ بالبغضاء والضغينة والانتقام، وتورطه في غدر ودسائس ومكائد لأقرب الناس المتفوقين من الأقرباء والأصدقاء، غير أنه يحرص على إخفاء كلّ ذلك والتستر عليه. كلّما كان الإنسان أذكى كان أبرعَ في تمويه سلوكه، وتحويل أكثر كلماته ومواقفه إلى أكثف أقنعته إبهامًا وغموضًا، النفسُ الإنسانية مولعة بإخفاء ما يُنفّر الناس منها ببراعة.