* د. طالب عزيز
لقد طلب مني ان اقدم تحقيقا عن الممارسسات المختلفة لتطبيق الاسلام في الحياة العامة. وللوهلة الاولى يبدو وكأن هنالك طرق مختلفة يزاولها المسلمون في تطبيقهم الاسلام على مسرح الحياة. ولكن الحقيقة هو ان هنالك طريقة واحدة شائعة عند المسلمين في طريقة فهمهم للاسلام وكيفية تطبيقه في الحياة العامة بغض النظر عن اختلاف المشارب والمشاعر والمقومات الفئوية التي ينتسب اليها المسلمون على المعمورة. كما ان الاختلافات الموجودة في داخل دار الاسلام وبين الفرق الاسلامية قد تبدو وكانها اختلافات جوهرية في كنهها ولكنني انظر اليها على انها اختلافات سطحية لا تمت بصلة باساسيات الفهم السائد وانما يدور الحوار والاختلاف حول الاجزاء الثانوية من ذلك المفهوم العام الذي تم صياغته عبر القرون العشرة الماضية. وما الصراع السياسي الذي تتزعمه الحركات السياسية الاسلامية ما هو الا نتيجة شعورها بأن المفهوم والطريقة السائدة والوحيدة عن الاسلام في حالة خطر من قبل الاستعمار الغربي في صميم البيت الاسلامي.
الفهم السائد عن الاسلام هو فهم فقهي بطبيعته العامة ولا يكاد يتجاوز النظرة التشريعية لرسالة السماء التي انزلها الله سبحانه وتعالى على خاتم الانبياء محمد (ص). فغالبية المسلمين ( باستثناء بعض الطرق الصوفية والتي لا تشكل الا الجزء القليل من عموم الامة الاسلامية) ينظرون الى الى الاسلام كقانون الهي يلزم على المؤمنيين الانصياع الى بنودة وتطبيقه بحذافيره الدقيقة. وما التدين الا ذلك التسليم بأوامر الله سبحانه ونواهيهه والالتزام بحكم الشريعة السمحاء. فالاسلام بهذا المنطلق هو القانون والشريعة في بعده العام والخاص. وعليه فما على المسلمبن الا الرجوع الى القانون الاسلامي في كل صغيرة وكبيرة لمعرفة الحكم الشرعي وما يستوجب عليهم من عمله وتطبيقه في كل شاردة وواردة في الحياة العامة والخاصة بدءا من شعائر العبادة وانتهاءا بالمعاملات الخاصة والعامة التي ترتبط بالحكم وتطبيق العدالة الاجتماعية. فالاسلام هو ليس بالنسبة لنا رسالة لا يجب علينا استلهام الوحي من معانيها العامة، وانما هي شريعة للتطبيق في كل مجالات الحياة العامة منها والخاصة. وعليه فليس هنالك سوء في فهم الرسالة السماوية وانما هناك قصور وتقصير في تطبيق الشريعة المقدسة.
وكيف لا نؤمن ونلتزم بمثل هذه الطريقة المثلى والواقعية لاسلام وانه (أي الاسلام) ليس الا التسليم الكامل لمراد الشريعة الالهيه، وما التسليم الا التطبيق الحرفي لجزئيات ذلك القانون السماوي الذي فصله الباري في القران الكريم والسنة النبوية الشريفة. ولهزا نرى ان المذاهب الاسلامية المختلفة تكاد تكون متطابقة في نظرتها لهذه النظرة التشريعية للاسلام. وما الاختلاف البائن بين الفرق الاسلامية في بعضها البعض (كالاختلاف بين السنة والشيعة) انما هو حول الامور العقائدية الكلامية. ولكن الملاحظ ان أختلافات الشريعة بين الشيعة والسنة قد لا تخرج عن اختلافات في الامور التفصيلية، وان هذا الاختلاف لا يعدو أكبر مما هو بين نفس المجتهدين في داخل كل مذهب. وعدم التباين هذا نابع من أن كلا الطرفين يتبعون نفس الطرق التحليلية الاصولية في صياغة الحكم الشرعي من مصادرة الاصلية. فعلم أصول الفقه هو ذاته عند الشيعة والسنة وليس هنالك اختلاف كبير في خطوطه العامة.
والسبب في هذا التداخل والتشابه بين المذاهب الاسلامية انما هو نابع من ان ائمة هذه المذاهب الفقهية انما هم تلامذة بعضهم البعض. فقد تأسست المدرسة الفقهية الاسلامية على يد الامام الصادق عليه السلام في بداية القرن التاني الهجري وأستمرت الى منتصف القرن الثالث بوفاة الامام أحمد ابن حنبل. ومن الملاحظ ان الذي أرسى قواعد هذه المذاهب الفقهية ليسوا هم ائمة المذاهب المعتبرين أنفسهم وانما هم تلامذهتهم الذين تقلدوا مناصب القضاء في الدول الاسلامية المتعاقبة، وبذلك وضعوا الحجر الاساس لتأصيل الفهم الفقهي والتطبيق التشريعي للاسلام عند المسلمين على مر العصور. كما ان تأسيس علم أصول الفقه على يد الامام الشافعي ساعد بشكل كبير على توحيد المعايير في اشتقاق الحكم الشرعي من مصادرة الاولية. وعليه يمكن القول ان علم الاصول بصورة عامة انما هو حواشي على فكر الشافعي.
وما الشرخ الكبير الذي بدأء في باكورة القرن الثاني وتأزم بتدخل السياسية والحاكمين انما كان يدور حول علم الكلام وبعض الامور الفلسفية–العقائدية، وعليه فلم يتعدى الى المسائل الفقيهة–التشريعية بصورة عامة. فقد بقي الفقه يؤدي دوره في خضم الصراع العقائدي الذي استمر حوالى القرنيين من خلال تطبيق بنود الشريعة الاسلامية في حياة المسلمين العامة. وخدم فقهاء المسلمين في الدول الاسلامية كمشرعيين و قضاة على مدى الحضارة الاسلامية وأضفوا الشرعية هذه القوانيين وهذه الدول. واضحت الشرعية الدينية في حياة المسلمين العامة ومعاملاتهم الخاصة تتمثل بما تتناسب وتتوافق مع اجتهادات الفقهاء. وانتهى الصراع العقائدي لصالح الفقهاء بقوة الحكمومات السياسية وكذلك بتبني المذاهب السنية للفكر العقائدي الاشعري، وكذلك بتبني الشيعة للفكر العقائدي الامامي .
وجدير بالذكر ان السيطرة الفكرية للفقه الاسلامي على حياة المسلمين لم تمر دون منازع. فقد قدمت المدارس الفلسفية والطرق الصوفية منظار آخر لفهم الاسلام. فركزت الفلسفة على الجانب الفكري والفهم المنطقي للرسالة السماوية، وقامت الحركات الصوفية على تربية النفس البشرية بطريقة روحية بحتة. وكلاهما لم يجعل من التطبيق الحرفي والفهم الفقهي للرسالة السماوية هو الاساس والخطير الذي يعتمد علية لانقاذ النفس البشرية وتقربها من الباري عز وجل. فالفقه هو جانب مهم لكلا الطرفين الفلسفي والصوفي ولكنه ليس الاساس او العمود القويم للتقرب الى الله سبحانه. ولكن هذه التعديدة الفكرية بين الفقه والفلسفة والتصوف لم تستمر فترة طويلة. فقد أدى سقوط الدولة العباسية في بغداد والامارة الاسلامية في الاندلس الى انحسار المدارس الفكرية والطرق الصوفية واعتماد الامبراطوريات السياسية ( العثمانية والصفوية والمغولية ) على الفقهاء كقضاة ومشرعيين لتثبيت قواعد الحياة المدنية عند المسلمين الى ترسيخ التطبيق الفقهي في العالم الاسلامي. وساعدت كتابات الامام الغزالي عند السنة والعلامة المجلسي عند الشيعة في القضاء على المدارس الفكرية الفلسفية والصوفية. وما نشوء الحركة السلفية عند السنة والحركة الاخبارية-الشيخية عند الشيعة الا حالة طبيعية لانحسار التعددية الفكرية عند المسلمين وتقوقع البحث العلمي حول مدرسة معرفية-فقهية جامعة للعلوم الاسلامية.
ولم يفرز الصراع السياسي المحتد الذي تقوده الحركات الاسلامية ضد الهيمنه الغربية لبلاد المسلمين من خلال الاستعمار الاقتصادي والثقافي خلال القرنيين الماضيين أي توجهات فكرية ومعرفية جديدة. وان ما نشاهده من افرازات فكرية في الخطاب الاسلامي المعاصر انما هو طبعا محاولات متطورة في بعضها لكيفية تطبيق الفهم الفقهي للاسلام ليحل محل التطبيقيات المستعارة للشرائع الغربية التي انتدبتها الدول القومية التي قامت ابان الغزو الغربي. فما زال الاسلام هو الفقه والفقه هو الاسلام ولكن بثوب جديد والذي نتصارع الحركات الاسلامية ومفكريها في أحقاقه في حياة المسلمين. وما زلنا لحد الآن نترقب بزوغ مدارس معرفية جديدة لتكسرمن سطوة الفهم الفقهي للرسالة السماوية. ولكننا قد نشاهد هنالك بوادر ومحاولات هنا وهناك من امثال كتابات نصر حامد ابو زيد او مقالات عبد الكريم سروش لتلوح بتعدد فكري ونظرة مغايرة للعلم الاسلامي. وقد تساعد اسلام 21 على ان تكون المنبر الحر في تلك التعديدة المعرفية لهذه الاصوات التي قد لا تجد الهواء الطلق للتنفس بصعداء.
* طالب عزيز (دكتوراة) باحث و كاتب في لوس انجلس – أمريكا