لشيلي كولبيرتسون
عرض :محمد بسيوني عبد الحليم
Shelly Culbertson, “The Fires of Spring: A Post-Arab Spring Journey Through the Turbulent New Middle East – Tunisia, Turkey, Iraq, Jordan, Qatar, Egypt, and “, (New York: St. Martin’s Press, 2016).
http://www.siyassa.org.eg/Media/News/2017/2/26/2017-636237188844118187-411.jpg” >
ثمة اعتقاد ساد، عشية الثورات العربية، بأن منطقة الشرق الأوسط على مشارف مرحلة جديدة أكثر مثالية، وأن هذه الثورات سوف تؤسس لنموذج مغاير للدولة، يتجاوز إشكاليات وأزمات الماضي. ولكن ما حدث في الواقع كان مختلفا، فقد تعرض هذا الاعتقاد للتقويض التدريجي، وتمت الاستعاضة عنه بسيناريو أكثر تشاؤما، عبر عنه عدد من المثقفين في مرحلة مبكرة، حين نبهوا إلى خطأ التصور الخطي للخارج، وأوضحوا أن العودة إلى الوراء هي إمكانية واردة، ولا يمكن استبعادها، لأن حركة الصراع ليست حتمية الاتجاه، ولأن التاريخ لا يمضي في اتجاه واحد، بل يحفل بالانقطاعات والارتدادات.
وبالرغم من أن سيناريو فشل الثورات استحوذ على مساحة هائلة في الكتابات الغربية التي تناولت الثورات العربية، فإن هناك نمطا آخر من الكتابات تعاطي مع هذه الثورات من منظور حذر، يتجنب إطلاق الأحكام النهائية بخصوص الثورات العربية، على أساس أن الثورات ظواهر ممتدة تحتاج إلى عقود لإحداث تغييرات جوهرية.
ويمكن تصنيف كتاب “نيران الربيع: رحلة ما بعد الربيع العربي في شرق أوسط جديد مضطرب” لشيلي كولبيرتسون ضمن هذا النمط من الكتابات الغربية. فالكاتبة تعترف بأن الثورات العربية كان لها تداعياتها السلبية على المنطقة، تجلت ملامحها في انتشار مسارات جديدة من العنف والصراعات. ولكن المؤلفة، في الوقت ذاته، تتجنب إطلاق الأحكام النهائية على الثورات. فالمستقبل قد ينطوي على نموذج مختلف للمنطقة، يرتهن بقدرة القوي والحركات الثورية الطامحة إلى التغيير على ترجمة المثل العليا إلى مؤسسات، وبناء مجتمعات مزدهرة تحظي بفرص اقتصادية متميزة، وتعليم ذي جودة عالية، وتعددية سياسية، ومساواة في الحقوق والواجبات.
ويعكس الكتاب، الذي يستعرض تجارب ست دول بالمنطقة، بينها اثنتان شهدتا ثورتين كبيرتين، هما تونس ومصر، خبرة المؤلفة التي تعمل كمحللة لشئون الشرق الأوسط بمؤسسة راند، وقد عملت سابقا بوزارة الخارجية الأمريكية، فضلا عن الفترة التي عاشتها في منطقة الشرق الأوسط، والتي تقرب من عشر سنوات في عدد من دول المنطقة، مثل الأردن، ولبنان، والعراق، وقطر، وتركيا، وإسرائيل، ومصر، والمغرب.
ولا يمكن إغفال أن هذا الوجود بالمنطقة لسنوات منح كولبيرتسون فرصة كبري لفهم ديناميات الواقع العربي، وطبيعة التفاعلات المجتمعية القائمة بالمنطقة. ومن ثم، بدا الكتاب كمزيج بين التحليل السياسي، والتجربة الشخصية للمؤلفة -على غرار أدب الرحلات– التي قامت بزيارة الدول الست، موضع التحليل في الكتاب. وقد استطلعت المؤلفة آراء العديد من الفاعلين من خلفيات فكرية ومجتمعية متنوعة، في محاولة لفهم دوافع ثورات الربيع العربي، ومآلاتها.
القضايا التفسيرية الحاكمة:
تتعامل كولبيرتسون مع الثورات العربية من منظور شرق أوسطي أوسع، فتري أن تأثيرات الثورات غير مقصورة على الدول العربية، ولكنها تشكل ملامح منطقة الشرق الأوسط في المجمل، خاصة مع وجود قوي إقليمية (إيران وتركيا) منخرطة بشكل أو بآخر في أحداث الربيع العربي. واستنادا إلى تلك الرؤية الموسعة للثورات العربية، تفترض المؤلفة أن هناك عددا من القضايا الحاكمة التي يمكن من خلالها تفسير التفاعلات الراهنة والمستقبلية بمنطقة الشرق الأوسط. وتتلخص هذه القضايا فيما يأتي:
أولا– التعددية والاختلاف: صحيح أن هناك مساحات مشتركة بين دول المنطقة، إلا أن سمة التنوع والتعددية تشكل السمة الأكثر تميزا للمنطقة. فمن الناحية الاقتصادية، تشهد دول المنطقة تباينات واضحة. ففي الوقت الذي تظهر فيه مدينة دبي كمركز مالي دولي، والأردن كمركز إقليمي لريادة الأعمال، وقطر التي تصنف الدولة الأولي عالميا من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (يقدر بـ 140 ألف دولار سنويا)، نجد، على الجانب الآخر، دولا تعاني أوضاعا اقتصادية غير مواتية، على غرار مصر، واليمن الذي يبلغ نصيب الفرد فيه من الناتج المحلي الإجمالي 4 آلاف دولار سنويا.
وقد واكب هذا التنوع في القدرات الاقتصادية اختلاف آخر، أكثر أهمية، مرتبط بالتعددية العرقية والإثنية. ومن هذا المنطلق، تصنف كولبيرتسون المنطقة إلى “شرق أوسط الاضطرابات“، و”شرق أوسط البدايات الجديدة“. فمن ناحية، تشهد دول، مثل ليبيا، والعراق، واليمن، وسوريا، صراعات حادة اكتسبت صبغة عرقية ودينية، ليس من المتوقع تسويتها قريبا. وعلى النقيض من ذلك، توجد بلدان أخري بالمنطقة تتمتع بحياة أكثر هدوءا، ومنها، على سبيل المثال، الإمارات، وقطر، والمغرب، التي تصنف بامتلاكها أفضل نوعية للحياة في القارة الإفريقية.
ثانيا– الإرث التاريخي: يشكل التاريخ أحد المداخل الأساسية لفهم ما جري في المنطقة، خلال العقود الماضية، وما سيترتب على ذلك في المستقبل. وفي هذا السياق، بدت لحظة انتهاء الخلافة العثمانية اللحظة الأكثر دراماتيكية في تاريخ المنطقة. فقد تركت الخلافة -بحسب كولبيرتسون– العالم العربي السني في حالة من “الخواء الروحي“، والشعور بوجود فجوة هائلة في القيم والهوية، لم تتمكن الدولة القومية الناشئة من ملئها. فبعد عقود من ظهور الدولة القومية الحديثة بالمنطقة، انكشف عجزها عن التعاطي مع سؤال الهوية، وتأسيس شكل سياسي يمثل بوتقة صهر لمختلف المكونات المجتمعية. وبالتبعية، تنامت الانتماءات الأولية، سواء للقبيلة، أو الطائفة، أو الجماعة، لتصبح في بعض المجتمعات كيانات بديلة عن الدولة.
وقد استدعت هذه المعطيات إشكاليتين جوهريتين، أولاهما: إشكالية الأقليات في المنطقة، حيث إن عدم دمج الأقليات في المجتمع دفعها إلى التمترس خلف انتمائها الأولي كجماعات منعزلة تطمح إلى تماسكها الداخلي. أما الإشكالية الثانية والأخيرة، فقد اتصلت بوضع الشريعة الإسلامية في الدولة المعاصرة، وتعريف دور الدين في المجتمعات.
لا يمكن إغفال أن هذه الفكرة وجد لها صدي لدي العديد من الكتاب الغربيين، ومنهم شادي حميد، الذي ذكر في كتابه “الاستثناء الإسلامي: كيف يعيد الصراع على الإسلام شكل العالم“، أنه منذ انتهاء الخلافة، شهدت منطقة الشرق الأوسط صراعات حادة، كانت في الغالب متمحورة حول شرعية السلطة، ومحاولات إضفاء الشرعية على الأنظمة السياسية الناشئة، والدولة القومية المعاصرة التي تكونت في المنطقة، وأثير معها ثمة قضايا جدلية، لم يتم حسمها حتي الوقت الراهن حول الدين، ودوره في المجال العام، وارتباطه بالتفاعلات السياسية القائمة. وهي القضايا التي نتج عنها استقطاب بين تيارات مدنية، وأخري إسلامية، تحاول استدعاء تجربة الدولة الإسلامية في مراحلها المبكرة.
ثالثا– دور المرأة: تشغل هذه القضية حيزا مهما في الكتابات الغربية المعاصرة، التي تفترض أن تعزيز دور المرأة في المنطقة أحد متطلبات التحول الديمقراطي، والإصلاح السياسي. وعطفا على هذا، تعتقد كولبيرتسون أن دور المرأة بدأ يتغير بشكل كبير خلال السنوات الماضية، مع تنامي قدرتها على التأثير السياسي، والحصول على المزيد من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. فقد مثلت الثورات العربية فرصة مواتية للمرأة بالمنطقة، والتي شاركت بشكل كبير في الحركات الاحتجاجية، والكتابة عن الفساد، وانتهاكات حقوق الإنسان، بالإضافة إلى المشاركة في تأسيس الأحزاب، والصحف، والوصول إلى عضوية البرلمان بنسب أكبر مما هو معتاد، فضلا عن التفوق في التعليم، إذ إن معدل تخرج النساء من الجامعات أعلى، مقارنة بالرجال في أكثر من نصف بلدان الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي يعزز من فرصها المستقبلية في العمل.
وبالرغم من أهمية هذا الطرح من جانب المؤلفة، فإن قضية المرأة في المنطقة، خاصة في الدول العربية، تظل أعقد بكثير لحسابات عديدة، لعل أهمها طبيعة التركيبة المجتمعية القائمة بتلك الدول، والأعراف السائدة التي تضع قيودا على أدوار المرأة. ومن ثم، لا يمكن التعويل كثيرا على القرارات الفوقية الصادرة عن السلطة بمنح بعض الحقوق للمرأة. كما لا يمكن الاستناد أيضا لحالة الثورات العربية، لكونها لحظة استثنائية في مسيرة المرأة العربية. ولكن ما حدث بعد ذلك، سواء عبر استعادة مكونات السلطة الاستبدادية، أو عبر الحروب المندلعة في أكثر من دولة عربية، أثر سلبا في فرص المشاركة السياسية لمختلف المكونات المجتمعية، بمن فيها المرأة.
رابعا– المطالب الشبابية: تتسم التركيبة السكانية بالمنطقة باستحواذ الشباب على نسبة كبيرة. ووفقا لبعض التقديرات، فإن نحو ثلثي سكان المنطقة تحت سن الثلاثين. هذه التركيبة، في بعض الأحيان، قد تكون إضافة للدولة، ولكنها، في أحيان أخري، مثلما هو الحال في أغلب دول المنطقة، قد تكون مدخلا لعدم الاستقرار، والضغط على السلطة الحاكمة، حينما تتزايد الإحباطات في صفوف الشباب لعجزهم عن تحقيق ما يصبون إليه. وهكذا، بدت الثورات العربية تعبيرا عن إحباطات جيل من الشباب نشأ في ظل أنظمة استبدادية عجزت عن تلبية أدني متطلبات هذا الجيل. ويكفي هنا استحضار واقع مجتمعات المنطقة لتفسير دوافع الثورات. فالمنطقة – بحسب الكتاب – لديها أعلى معدل للبطالة على المستوي العالمي، وتعاني سوء الأنظمة التعليمية، وعدم التوافق بين مخرجات النظام التعليمي، والمهارات التي يحتاج إليها سوق العمل، فضلا عن الفساد المنتشر في أجهزة الدولة.
إسقاط الأنظمة أم إصلاحها؟
انشغلت كولبيرتسون في كتابها بشعاري “الشعب يريد إسقاط النظام“، و”الشعب يريد إصلاح النظام” اللذين كانا السمة الرئيسية لثورات “الربيع العربي“. إذ إن استحضار فكرة إسقاط الأنظمة دفعها إلى التركيز على كل من مصر وتونس بعدّهما النموذجين الأبرز لإسقاط أنظمة حاكمة استمرت في السلطة لعقود. وفي المقابل، فإن استدعاء فكرة إصلاح الأنظمة دفعها إلى التركيز على كل من الأردن، والعراق، وتركيا. بينما كان استحضار نموذج قطر ناتجا عن الانخراط القطري بشكل أو بآخر في ثورات الربيع العربي.
بدأت ثورات الربيع العربي في تونس، حينما أحرق الشاب التونسي محمد البوعزيزي نفسه ليعبر عن إحباطات جيل من الشباب بالمنطقة، ومن ثم إنتاج شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” كآلية للحشد ضد إخفاقات نظام زين العابدين بن علي. فعلى مدى عقود حكم بن علي، عانت تونس أوضاعا اقتصادية متردية، حيث وصف البنك الدولي الاقتصاد التونسي بأنه اقتصاد مختنق بسب الفساد، وسيطرة شبكات الرئيس التونسي السابق، بن علي، على مقدرات الاقتصاد التونسي لدرجة أن خمس أرباح القطاع الخاص في البلاد كانت تذهب لشبكة المقربين من الرئيس بن علي.
وبالرغم من الاستقطابات التي وقعت في تونس بين التيارين الديني والمدني، بعد إسقاط نظام بن علي، والتي وصلت إلى ذروتها بعد اغتيال رموز للمعارضة، مثل شكري بلعيد، ومحمد براهمي، فإن التجربة التونسية ظلت أكثر قدرة علي الاستمرار، والتعبير عن الحد الأدنى من متطلبات الثورة.
وتفسر كولبيرتسون هذا النجاح النسبي بعدد من العوامل، توصلت إليها، بعد المقابلات التي أجرتها مع عدد من الشخصيات السياسية، والنشطاء المشاركين في تفاعلات مرحلة ما بعد الثورة. ولعل أبرز هذه العوامل: اقتناع القوي السياسية المختلفة بأهمية التفاوض، وتنحية الخلافات، والاعتراف بالأطراف الأخرى. ومن هذا المنطلق، وجد في صفوف التيار الإسلامي، بخلاف دول آخري بالمنطقة، قيادات من طراز راشد الغنوشي، لديها اقتناع بمسار التفاوض، والوصول إلى تسويات توافقية مع القوي المدنية.
وفي السياق ذاته، شكلت التجارب الفوضوية العنيفة في دول الجوار إنذارا مبكرا للقوي السياسية في تونس لتجنب السيناريوهات ذاتها، ومن ثم عززت من اقتناع هذه القوي بضرورة التوافق، وهو ما حدث، مثلا، حينما تنازلت حركة النهضة الإسلامية عن السلطة، واتجهت إلى تشكيل حكومة تكنوقراط تحظي بدرجة أكبر من التوافق، وتقوض في الوقت ذاته الاتهامات الموجهة للإسلاميين بالسعي إلى السيطرة، وإقصاء الآخرين. علاوة علي ذلك، فإن وجود مجتمع مدني قوي أسهم بدرجة كبيرة في ترشيد مسار الثورة التونسية.
بعد أيام قليلة من الثورة التونسية، اندلعت الثورة في مصر، وترددت هتافات إسقاط النظام، والمطالبة برحيل الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، الذي استمر في السلطة لما يقرب من ثلاثين عاما، بدت خلالها الدولة عاجزة عن الوفاء بالكثير من التزاماتها تجاه المصريين، لاسيما جيل الشباب المشترك مع نظيره التونسي، من حيث الشعور بالإحباط، والرغبة في الحصول علي حريات حقيقية. وفي هذا الصدد، تشير كولبيرتسون إلى أن مصر، بمقوماتها وتاريخها، كانت جديرة بما هو أفضل. حتى بعد مرور سنوات علي ثورة يناير 2011، تري المؤلفة أنها لا تزال تستحق ما هو أفضل.
وتذكر أن إسقاط نظام مبارك أفسح المجال أمام جماعة الإخوان المسلمين للسيطرة علي مقاليد السلطة بعدّها القوة الأكثر تنظيما. وبخلاف تيار الإسلام السياسي في تونس، تسرعت الجماعة في الاتجاه نحو السلطة، دون أن تؤسس لرؤية مغايرة تتجاوز تاريخ الجماعة في المعارضة. فقد كانت الجماعة مطالبة، قبل سعيها إلى السلطة، بمعالجة الأزمات البنيوية الداخلية، وتطوير سياسات واستراتيجية تمكنها من إدارة مؤسسات الدولة بطريقة فعالة، وعلي قدر من الكفاءة. ولكن يبدو أن الوتيرة المتسارعة للأحداث جعلت قيادات التنظيم لا تنتبه إلى تلك الشروط الضرورية.
ومع التوجه الحثيث نحو الحكم، كانت الجماعة تنسي الكثير مما وعدت به، وتفقد الكثير من الفاعلين الذين جمعهم ميدان التحرير، علي اختلاف توجهاتهم الأيديولوجية. وهكذا، ترى كولبيرتسون أن النهج الإقصائي الذي تبناه تنظيم الإخوان، والدخول في صراع مع مؤسسات الدولة المختلفة عجلا من انتهاء تجربة الإخوان، وعزل الرئيس الأسبق محمد مرسي.
تتجنب كولبيرتسون استخدام توصيف محدد لما حدث في الثلاثين من يونيو 2013، وتحاول الخروج من جدال الثورة/الانقلاب من خلال استحضار روايات عدد من الشخصيات العامة حول الأوضاع في مصر، لتخلص إلى أن الخطأ الفادح كان في الاعتقاد بأن هدف الثورة مقصور علي انتخاب قيادة جديدة، بدلا من تغيير قواعد اللعبة بالكامل. فتعثر مسار الثورة المصرية كان نتاجا لعوامل عديدة، البعض منها مرتبط بطبيعة نخب ما بعد الثورة، والبعض الآخر متصل بسياسات السلطة الحاكمة، والتحديات التي باتت تواجهها الدولة المصرية، سواء كانت اقتصادية، أو أمنية، متمثلة في تنامي نشاط التنظيمات الإرهابية.
وتناقش المؤلفة أثر ثورات الربيع العربي في تصاعد مطالب الإصلاح التدريجي في بلاد أخرى. فقد حفزت أحداث الربيع العربي الحركة الاحتجاجية في الأردن، التي رفعت مطالب اقتصادية متعلقة بتحسين مستويات المعيشة، والحد من الفساد، فضلا عن مطالب سياسية تبلورت في تمثيل سياسي أكبر داخل منظومة الحكم، وإقالة رئيس الوزراء سمير الرفاعي آنذاك، ووضع قانون جديد للانتخابات. ولكن نمط استجابة النظام الحاكم حال دون تعاظم حدة هذه الحركة الاحتجاجية، حيث اتخذ الملك عبدالله الثاني قرارات بإقالة رئيس الوزراء سمير الرفاعي، وزيادة رواتب الأجهزة الحكومية، وإيجاد فرص عمل جديدة، والشروع في تعديلات دستورية، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة.
وتكرر النمط الأردني في العراق، وإن كان بصيغة أكثر تعقيدا. صحيح أن العراق شهد احتجاجات في خضم ثورات الربيع العربي للمطالبة بتقديم خدمات أفضل، وإصلاح نظام الحكم، والقضاء علي الفساد، إلا أن الإشكالية الكبرى كانت في بزوغ تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). فقد أحدث الانسحاب الأمريكي من العراق في 2011 -بحسب الكتاب– تأثيرات سلبية في الداخل العراقي، وأوجد فراغات أمنية هائلة، ومناطق خارج سيطرة الدولة، بالإضافة إلى السياسات الطائفية التي تبناها نظام المالكي، وتزايد شعور الطائفة السنية بالاضطهاد. ومن ثم، شكلت هذه المعطيات المدخل لتصاعد نفوذ تنظيم “داعش“، الذي يعد بشكل أو بآخر أحد تجليات الربيع العربي، من وجهة نظر المؤلفة. وهو ما عبر عنه تشارلز ليستر، الباحث بمعهد بروكينجز، بقوله “إن تنظيم “داعش” قد يبدو، علي الأقل في المدي القريب، كبديل عملي لما ينظر إليها علي أنها حكومات قمعية وطائفية“.
النموذجان التركي والقطري:
تتعامل كولبيرتسون مع التظاهرات التي اندلعت في تركيا عام 2013 علي أنها جزء من مشهد الربيع العربي، خاصة مع تشابه طبيعة المعادلات السياسية في تركيا والدول العربية، وهيمنة ثنائية الديني والمدني علي التفاعلات السياسية. وقد وجدت هذه الثنائية في أحداث “تقسيم” 2013 الفرصة في التعبير عن ذاتها، حيث رأت القوي المدنية أن مخطط نظام رجب طيب أردوغان بتغيير التخطيط العمراني للميدان محاولة من النظام لتقويض مساحة احتجاج مهمة لها رمزيتها التاريخية للمعارضة، وهو ما انطوي بشكل ضمني علي توجه لإحكام السيطرة -من جانب حزب العدالة والتنمية– علي المجال العام.
يستدعي فهم ما حدث في تركيا عام 2013 الرجوع إلى الوراء قليلا، وعلي وجه التحديد عام 2002، حينما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وتمكن من تحقيق إنجازات اقتصادية ساعدته علي الاستمرار في السلطة لسنوات. ولكن بمرور الوقت، أضحت الصورة المثالية للحزب، وزعيمه طيب أردوغان، عرضة للتآكل التدريجي، نتيجة لعوامل عديدة، البعض منها مرتبط بالشعور المتزايد لدي قطاع لا يستهان به من الأتراك بتنامي النزعة الاستبدادية لدي أردوغان، والتضييق علي الحريات. أما البعض الآخر، فهو مرتبط بالسياق الإقليمي الذي تعيشه تركيا، ونمط استجابة السلطة الحاكمة لهذا السياق. مثل هذه المتغيرات تفرض ضغوطا علي حزب العدالة والتنمية. وعلي أساس تفاعل الحزب مع هذه الضغوط، سيتحدد مستقبل الحزب، وكذلك شكل النظام السياسي التركي.
بالانتقال من تركيا إلى قطر، يبدو أننا إزاء نموذج استثنائي في إطار الربيع العربي، إذ إن قطر لم تشهد تظاهرات، أو مطالبات بالإصلاح. وبالرغم من ذلك، فقد اتجهت الحكومة القطرية إلى تقديم المزيد من المزايا الاقتصادية للمواطنين، وتمت زيادة رواتب الموظفين الحكوميين بنسبة 60٪، ووصلت زيادة الأجور إلى 120٪ في الجيش والشرطة.
وفي السياق ذاته، انخرطت قطر في الصراعات التي اندلعت بالمنطقة، عقب الثورات، عبر الدعم المباشر لحركات المعارضة في سوريا، والتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر، ومساندة عمليات الناتو في ليبيا، فضلا عن الدور الذي لعبته قناة الجزيرة في الثورات وصراعاتها.
ختاما، إن السيناريو المتفائل الذي تتحدث كولبيرتسون عن إمكانية حدوثه في المستقبل استنادا إلى فرضية أن الثورات ظواهر ممتدة تحتاج إلى عقود لإحداث تغيرات جوهرية، يظل مرتهنا بعاملين رئيسيين، أولهما: قدرة الحركات الثورية علي الاستمرارية، خاصة أنها أوشكت علي أن تخبو في الكثير من الدول. وينصرف العامل الآخر إلى خيارات الأنظمة الحاكمة الراهنة، ومدي رشادتها، وهو أمر لا يقتصر فقط علي الدول التي شهدت الثورات، ولكنه يشمل أيضا دولا مستقرة بالمنطقة. ففي وقت ما، لن تصبح المزايا الاقتصادية والاجتماعية كافية، وستصبح الحاجة إلى الإصلاح السياسي أكثر إلحاحا.