نجيب محفوظ .. الحداثيون تجاهلوه والإسلاميون طعنوه –
حمدي أبو جليّل (القاهرة) –
«رأيتني أعد المائدة، والمدعوون في الحجرة المجاورة تأتيني أصواتهم وأصوات أمي وإخوتي، صحوت فاقداً الصبر فهرعت إلى الحجرة المجاورة لأدعوهم، فوجدتها خالية تماماً وغارقة في الصمت، وأصابني الفزع دقيقة، ثم انتبهت ذاكرتي وتذكرت أنهم رحلوا جميعاً وأني شيعت جنازاتهم واحداً واحداً».
هذا آخر أحلام نجيب محفوظ عميد الرواية العربية ومؤسسها، أملاه للكاتب محمد سلماوي قبيل رحيله يوم 30 أغسطس عام 2006. نجيب محفوظ ولد يوم 11 نوفمبر عام 1911 بحي الجمالية بالقاهرة الفاطمية، وكان والده عبدالعزيز إبراهيم أحمد باشا يعمل موظفاً حكومياً، ولم يقرأ كتاباً في حياته بعد القرآن غير حديث عيسى بن هشام، لأن كاتبه المويلحي كان صديقاً له، وأمه فاطمة مصطفى قشيشة كانت سيدة بسيطة والدها كان يعمل مدرساً بالأزهر الشريف، وكان نجيب محفوظ أصغر إخوته، وحينما بلغ السابعة من عمره اندلعت ثورة 1919 الذي عاش عمره يعتبر نفسه من أبنائها وأشد مؤيديها وحزبها الوفد، وصورها في روايته «بين القصرين» أولى أجزاء ثلاثيته الروائية الشهيرة.
يذكر أن توقف محفوظ عن الكتابة بعد ثورة 1952، يعود في الأغلب لأنه فوجئ بها كوفدي عتيد وابن شرعي لثورة 1919، ودخل في حالة صمت أدبي استمر سنوات، وعاد بعد ذلك إلى ثورة 19 برواية «بين القصرين» أولى روايات ثلاثيته الشهيرة، وتبعها برواية «أولاد حارتنا» التي بدأ نشرها مسلسلة في جريدة «الأهرام» في 1959، غير أنها سرعان ما توقفت بسبب اعتراضات شخصيات وهيئات دينية على ما اعتبروه «تطاوله على الذات الإلهية»، ومنع نشرها بأوامر مباشرة من الرئيس جمال عبدالناصر الذي أخذ منه وعداً بعدم نشرها في مصر، وهو الوعد الذي ظل نجيب محفوظ وفياً له حتى بعدما حصل على جائزة نوبل عام 1988، وظل يرفض نشر«أولاد حارتنا» في مصر حتى رحل، والطبعة التي نشرتها جريدة «الأهالي» على صفحاتها إبان فوزه بجائزة نوبل كانت دون موافقته ورفض نقلها في كتاب.
وقد ابتعد نجيب محفوظ عن السياسة، وكانت آراءه المعلنة حذرة ومحايدة إلى حد كبير، وكان يقول دائمة «آرائي السياسية في رواياتي فارجعوا إليها»، ما خلا توقيعه مع توفيق الحكيم على بيان 1972 الشهير الذي طالب السادات بالحسم وتحرير الأراضي المصرية من الاحتلال الإسرائيلي، وهذا كان السبب في تجاهل بل عداء العديد من النقاد والمثقفين اليساريين والقوميين لأعماله وإمعانهم في النيل منه واتهامه بأنه مشروع برجوازي محافظ لم يتعرض للقضايا العربية والهموم الوطنية، وقد استفحل ذلك بعد تأييد نجيب محفوظ لمعاهدة السلام مع إسرائيل سنة 1979، وقبل فوزه المدوي بجائزة نوبل سنة 1988 بشهور قليلة كتب الناقد المصري صبري حافظ في مجلة «الأقلام» العراقية، إنه «يخجل من الكتابة عن أعمال نجيب محفوظ»!
وقد زعم نقّاد ما يسمى «الحداثة العربية» أن أعماله تقليدية مباشرة، وقال الشاعر أدونيس إنه لم يقرأ لنجيب محفوظ إلا رواية وحيدة هي «خان الخليلي» للإيحاء بأن أعماله لا تضيف جديداً للشاعر والمثقف «الحداثي»!، غير أن هذا لم يؤثر في مشروع نجيب محفوظ لا على مستوى الإنتاج ولا على مستوى الانتشار والتأثير في الأجيال المتعاقبة