بقلم / توفيق أبو شومر –
كيف نُفسِّرُ انتشار المشعوذين في الألفية الثالثة ، في الوقت الذي تشهدُ فيه العلوم والتكنلوجيا أوج ازدهارها؟
أعني بالمشعوذين كل الذين يستخدمون التضليل للإيقاع بفرائسهم من بسطاء البشر ، وهم كُثر، ومن المستغرب أنهم تمكنوا من التوالد والانتشار تحت عباءة الألفية الثالثة ، عباءة التكنلوجيا فائقة السرعة ، التي أطاحتْ بالثقافة بمفهومها الواسع باعتبارها واجبا وطنيا ودوليا، فأصبحت الثقافة في مفهوم هذه الألفية سلعةً ، لا يشتريها إلا القادرون ، فارتفعت أسعار الكتب ، وكل بضائع التكنلوجيا الرقمية أيضا ، ولم يعد عند الفقراء إلا أن ينصاعوا للشعوذة والمشعوذين، ممن يلبسون معاطف الأطباء البيضاء تارة ، ومن يلبسون ألبسة الأوصياء على الدين ، ومن يلبسون أثواب العرّافين وقُرَّاء الطوالع تارة أخرى .
ما زالت صورةُ الأستاذٍ الجامعي في أحد بلدان العرب ، الذي قرَّر أن يفُكَّ ضائقته المالية ، فتحوّل من أستاذٍ إلى كاتب أحجبة ومشعوذٍ تعمرُ ذاكرتي ، فكان ضحاياه من زملائه في سلك التعليم الجامعي ممن أقنعهم بقدراته حتى استحوذ على نسائهم ، كما فعل راسبوتين من قبله في روسيا فأفسدها بترَّهاته وشعوذته .
ومنذُ أيامٍ أفزعني شابٌ حاصلٌ على شهادة البكالوريوس في الإدارة، وهو يصف لمريض بيت أحد الدجالين الذين يُعالجون بالأحجبة والرُّقى.
ومنذ فترة وجيزة أيضا رأيتُ ثلاث فتياتٍ يحملن كتبا مدرسية أو جامعية يبحثن عن كتابٍ اسمه ” اعرف نفسك من برجك” تُروِّج له إحدى القنوات الفضائية، ولما سألتُ البائع عن الكتاب قال :
إنه أربح الكتب فقد تهافت المشترون عليه، وكنت أربح في النسخة الواحدة دولارين كاملين، وقد نفد من المكتبة منذ أكثر من سنة ، ولما سألته عن ثمنه قال :
عشرين دولارا !
كما أن دكاكين بيع الأعشاب الطبية آخذة في التوسع والتكاثر وتحولت إلى بقالات لبيع الأعشاب والشعوذة، ومما يؤسف له أن كثيرا من أصحابها لا خبرة لهم ، ولا يملكون من الشهادات ما يؤهلهم لذلك ، وهذا بالطبع لا يشمل ذوي التخصص والخبرة.
ومما أفزعني أنني سمعتُ أبا أميا التحق مؤخرا ببعض المتفيهقين يُفاخر الجالسين بأنه أخرج أبناءه من المدرسة، وأتبعهم لأحد المشعوذين يخدمونهم ويتعلمون منهم فنونهم ، لأن المدارس في نظر هذا الأب تُفسدُ الأبناء .
إذن هي العودةُ إلى الوراء ، وما يترتب عليها من فناء وجهلٍ . إذن هو التطرفُ والمُغالاة والشعوذة، وإلغاء الثقافة وتوسيع العقول.
لقد كان مُبرَّرا لكاهنة معبد دُلفى( بيثيا) قبل الميلاد أن ترتزق من جهل أتباعها اليونانيين ، حين ادّعتْ بأنها ترى ما لا يرونه ، فهي قارئة الطوالع ، وكانت تتغذى على أوراق شجر الغار، وتتنفس من بخارٍ يجيء من أسفل كرسيها ، فكانت تستفيد من جهل أتباعها ، بل تسعى إلى تجهيلهم ، ولم يهتدِ الناس إلى أن البخار المتصاعد من باطن الأرض كان يتسربُ من عين ماء معدنية حارة ، فكانت تتاجر بشعوذتها وترزق منها حتى أنها نجحت في تحويل معبدها من معبد حجري إلى كنز ومعبد ذهبي.
أما نوستراداموس الذي جاء في منتصف القرن السادس عشر فكان يؤشر إيضا إلى عصر الشعوذة ، حين جعلَ منه المحيطون به عرَّافا ، ليرتزقوا من وراء موهبته ، فانتشر فقهاء نوستراداموس يفسرون أقواله الغامضة ، غير الواضحة ، وامتدّتْ سلالالتهم إلى قرننا الحالي ، فما أكثر الكتب التي جعلتْ من أقواله الغامضة دليلا على ظهور الزعماء والطغاة ، فقد أشار بعضهم أنه تنبأ حتى بولادة شارل ديغول وموته وصدام حسين وموته ، وهتلر وموته ، ونابليون وموته .
ولم يستفد الناس كثيرا من أن نوسترادموس لم يتمكن من التنبؤ بموته ، فمات في نهاية العقد الخامس من عمره بمرض غامض ، وكذلك ماتت الكاهنة بيثيا ، ولم يتمكن الاثنان من إشفاء نفسيهما من المرض.
وانتشرتْ الشعوذةُ أيضا في عصر المماليك في القرن التالي ، وظهرتْ في عصر السلاطين أقاصيص وروايات الخرافات ، فظهرت أقاصيص علي بابا، ومصباح علاء الدين ، والشاطر حسن ، وطاقية الإخفاء وغيرها من الشعوذات التي استسلم لها الناس ، وصاروا من أتباعها .
وما أزال أذكر في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ، كيف ازدهرتْ شعوذةُ استحضار الأرواح ، وكيف أصبحت طبقا شعبيا يمارسه كثيرون ، ويُقسمون في الصباح أنهم نجحوا في الحدي