قراءة في مساهمات عبد الوهاب المسيري المنهجية في البحث الاجتماعي(1/2)
يقول المفكر المسلم علي عزت بيغوفتش: “بين الحزن واللامبالاة… سأختار الحزن”، وبين التعب واللامبالاة، اختار المسيري تعب المعرفة ومكابدة التعلم… وهو اختيار ينتقل إلى كل من قرأ له بحب وشغف، فيتحول دون أن يدري إلى متمرد على الرداءة وعلى العادي وثقافة المعلومات التي تراكم ولا تبدع، وتجمع ولا تؤلف…
عرفت المسيري منذ مدة غير يسيرة، وكان أول ما قرأت له مقاله “العلمانية.. رؤية معرفية”، الذي أهدانيه أستاذي الأول د. عبد القادر مرزاق حفظه الله، وبفضله عرفت المسيري (ومفكرين آخرين أيضا)، وأذكر أنني تعبت كثيرا في قراءة المقال، لأنني كنت صغير السن، ولا أتوفر على خلفية معرفية كافية لفهم المقال واستيعابه. لكنني متأكد من أنني حينها، قد فهمت أمرا واحدا: أنني أمام جنس مختلف من الكتابة، نص فكري، يشعرك ببهجة التعلم، ومتعة الاكتشاف، فتحس أنك امتلكت ناصية الحقيقة… وعبر الكتابة الفكرية السهلة/ الممتنعة، تشعر وكأنك تقرأ شعرا أو خاطرة، إنها روح إنسانية عذبة ومحبة تنساب بين السطور، لتقيم معك ألفة تنمو كلما ازددتَ قراءة، وينمو معك نهم شديد لالتهام كل ما يجود به المسيري، كما تنمو معك سعة أفق وحكمة، فتعلم أن العالم عوالم متعددة، وتعود لتعلن إيمانك مرة ثانية: وهو هذه المرة إيمان أكثر هدوءا، ورسوخا وجمالا… إيمان بإله لطيف بعباده، هو الضامن لإنسانيتنا والضامن لكل جميل فينا وفي الكون والطبيعة أيضا.
هذا هو المسيري الذي عرفته: معلما حكيما، ومؤمنا متواضعا، وأبا عطوفا، بكيته حين موته، وعزائي أنني أحادثه كلما اشتقت إليه؛ أقرأ له، فيحدثني وأحدثه… وأكثر من ذلك: إن فكره ينساب في ذهني، يلهمني ويمتعني، ويرهقني حينما يجبرني على اختيار المتعب: عدم الرضا إلا بثمار الإبداع، والتي تتمنع على كل متعجل، همه إنهاء بحث بدأه، أو ساذج، ظنه أن العلم في أي كتاب قرأه.
وإذا كان عبد الوهاب المسيري قد عرف بشكل كبير بموسوعته، وبكتبه ومقالاته عن الانتفاضة الفلسطينية ودراساته عن الصهيونية، فقد عرف أيضا بحديثه عن التحيز والعلمانية وغيرها من القضايا الفكرية() … ولما كان رحمه الله دائم الحديث عن أهمية المنهج، وضرورة تحريره من كل التحيزات، حتى نضمن شروط الإبداع والعطاء، فقد حاولت أن أستخرج بعض إشاراته المنهجية المهمة، والتي تتقاطع مع مناهج البحث الاجتماعي… ولعل السطور المقبلة، ستؤلف بين لغة علم الاجتماع، ولغة الفكر عند المسيري، لتقدم لفتات نبيهة، لا غنى لكل باحث يروم الإبداع عن اغتنامها.
1- الانتقالات الثلاث:
أعترف بداية أنني استغرقت وقتا كبيرا في التفكير في الموضوع الذي سأقاربه من فكر عبد الوهاب المسيري رحمه الله، وإن كنت عازما منذ البداية على مناقشة إحدى القضايا المرتبطة بمناهج الدراسات الاجتماعية. ولعل أهم أسباب هذه الحيرة، هو غزارة إنتاج المفكر من جهة، ونسقيته من جهة ثانية: فكلما فكرت في جزئية معينة؛ إلا وأحسست أنه من الواجب التمهيد لها بالحديث عن مفهومي العلمانية ومسلسل التحديث والعلمنة، ومناقشة تصور الإنسان بين النموذجين الحلولي والاستخلافي.. وغيرها من القضايا المترابطة، والضرورية لفهم فكر نسقي كفكر عبد الوهاب المسيري رحمه الله.
ونظرا لاهتماماتي الحالية التي ترتبط بتخصصي في دراسات الإعلام والاتصال، فقد حسمت أمري أخيرا، وعزمت على مناقشة بعض مساهمات المرحوم في تجديد مناهج البحث الاجتماعي، وأقصد بذلك أربع أدوات منهجية وتحليلية أبدعها المسيري، وهي: الموضوعية الاجتهادية والعقل التوليدي، كمفهومين/منهجين في الدراسة، إضافة إلى النموذج المعرفي، ومتتالية التحديث والعلمنة كأدوات تحليلية.
غير أنني فوجئت بكون المحاور الثلاثة الأولى التي اخترتها، قد أشار إليها المسيري مجتمعة في الكتاب الذي خصصه لسيرته الذاتية، وهي إشارة أسعدتني، وطمأنتني على سلامة اختياري. إذ يحكي المسيري عن انتقاله من المادية إلى “الإنسانية والإيمان” قائلا: “… وظهرت في حياتي ثلاثة موضوعات أساسية مترابطة متزامنة حتى أكاد أقول إنها ثلاثة أوجه لعملة واحدة (إن صح التعبير) تعبر عن تحولي من النموذج المادي إلى النموذج الذي يفصل بين الإنسان والطبيعة/المادة. هذه الموضوعات هي: الانتقال من الموضوعية الفوتوغرافية (المتلقية والتوثيقية والمادية والمنفصلة عن القيمة) إلى الموضوعية الاجتهادية، ورفض العقل السلبي وتبني رؤية توليدية للعقل، وأخيرا رفض الرصد المباشر وتبني النموذج منهجا في التحليل”().
ويمكن إعادة صياغة هذه الانتقالات الثلاث في فكر المسيري على النحو التالي:
- الانتقال من الموضوعية الفوتوغرافية إلى الموضوعية الاجتهادية.
- الانتقال من العقل السلبي إلى العقل التوليدي.
- الانتقال من الرصد المباشر إلى تبني النموذج منهجا للتحليل.
سنقوم الآن بشرح كل محطة من محطات الانطلاق الثلاث على حدة، وبيان كونها إحدى أساسيات مناهج البحث الاجتماعي: - يسمي المسيري أولى المحطات الثلاث التي ينبغي تجاوزها بالموضوعية الفوتوغرافية ( أو المتلقية في أحيان كثيرة)، و”هي نموذج تحليلي يذهب إلى أن المعرفة عملية تراكمية تتكون من التقاط أكبر قدر ممكن من تفاصيل الواقع (المادي) كما هو تقريبا، بصورة فوتوغرافية (أو شبه فوتوغرافية) وإدراجها في البحث والدراسة (دون ربط بين المعلومات ودون محاولة تجريد أنماط منها). وقد عرف الموضوعي بأنه ما تتساوى علاقته بمختلف الأفراد المشاهدين. والموضوعية تستند إلى أن ثمة علاقة قائمة بين أجزاء الأشياء المدركة، وأن الناس جميعا بوسعهم أن يدركوا هذه العلاقات بنفس الطريقة، لو تهيأ لهم الموقف الصحيح لإدراكها”().
يتعلق الأمر إذن بتحري الموضوعية أثناء رصد وتسجيل معلومات ومعطيات الواقع، وهو الأمر المطلوب في كل الدراسات والأبحاث العلمية الدقيقة منها والاجتماعية. فكيف يريد المسيري تجاوز هذا الإجماع العلمي والعالمي حول قيمة الموضوعية وضرورتها للبحث العلمي ؟ - أما المحطة الثانية التي غادرها المسيري فتتعلق بالعقل السلبي، وهي شديدة الارتباط بالموضوعية المتلقية وامتداد لها، ولا يقصد المسيري بعبارة العقل السلبي معنا قدحيا للعقل، بقدر ما تعد كلمة سلبي وصفا دقيقا لطريقة تعامل العقل مع معطيات الواقع، والتي تتسم بقدر من “التلقي المحايد”، والحفاوة الشديدة بمراكمة المعلومات، ولهذا يستعمل المسيري أحيانا عبارة “المعلوماتية” بدل العقل السلبي، ويقصد بها “تصور أن المعرفة هي حشو المعلومات ومراكمتها، مرتبطة تمام الارتباط بهذه الرؤية: الموضوعية الفوتوغرافية. تذهب المعلوماتية إلى أن المعلومة مهمة في حد ذاتها، لا بسبب علاقتها بالموضوع الكلي أو بنمط متكرر. ولذا يصبح التأليف هو أن يحشد المؤلف أكبر قدر من المعلومات بغض النظر عن عدم ترابطها وعدم وجود بؤرة مركزية لها. والافتراض الكامن أنه كلما زادت المعلومات زادت درجة الاقتراب من الواقع (كما هو)، إلى أن يحشد الباحث كل المعلومات أو المراجع (أو معظمها)، ويعطينا صورة طبق الأصل من الواقع. وهو تصور يتضمن صورة للعقل بحسبانه كيانا سلبيا”().
ويقصد المسيري بالعقل السلبي، عملية التركيز على تجميع المعلومات، ورصد معطيات الواقع، والاعتقاد بأنه كلما زادت كمية المعلومات والحقائق إلا وكانت نتائج الدراسة أكثر قربا من الواقع وأدق تفسيرا له. - أما آخر المحطات التي غادرها، فهي نتاج كل من الموضوعية المتلقية والعقل السلبي مجتمعين، يشرح ذلك في قوله: “إن هذا الموقف الموضوعي المتلقي المعلوماتي ليس “موضوعيا” وإنما هو “موضوعاتي”، بمعنى أن الدارس يكتفي برصد التفاصيل والموضوعات وتسجيلها دون أن يربط بينها ودون أن يبين ما هو المركزي منها وما هو الهامشي، وما هو المعبر عن النمط الكلي وما هو مجرد واقعة غير ممثلة، وما يستحق الإبقاء وما يستحق الاستبعاد…”().
وهنا يمنح المسيري العقل صلاحيات كبرى، إذ يرى أنه يستبقي من معلومات ومعطيات الواقع ويستبعد، وهذا يتنافى مع شرط الموضوعية الذي تستلزمه العلوم عامة، والاجتماعية منها خاصة؛ فكيف نجتزئ من معلومات الواقع ونقتطع، ونحن مطالبون بالموضوعية والتجرد؟ ووفرة المعلومات تمنحنا قدرة أكبر على مقاربة الظواهر الاجتماعية وفهمها؟
2- بعض الأسس المنهجية لعلم الاجتماع:
في مقابل انتقالات المسيري الثلاثة، لا بأس أن نذكر ببعض الأسس المنهجية لعلم الاجتماع والتي تتعارض مع هذه الانتقالات:
عمل علم الاجتماع منذ نشأته ( المتأخرة نسبيا مقارنة بباقي العلوم ) على اتباع المناهج الوضعية اقتداءً بالعلوم الطبيعية، وذلك لتحقيق نفس النجاح والدقة اللذان حققتهما هذه العلوم، لدرجة أن “كونت” أطلق على علم الاجتماع مصطلح “الفيزياء الاجتماعية” في مرحلة معينة.
ومسألة تبني المنهج الوضعي واتباع نموذج العلوم الدقيقة، تفترض نوعا من الثبات على الظاهرة الاجتماعية، وتقتضي من الباحث قدرا كبيرا من الموضوعية والتجرد، واستخدام المنهج التجريبي القائم على الحس، وذلك لضمان علمية النتائج واستبعاد أي تفسيرات أخرى لا تستند إلى سند علمي. في نفس السياق، يصف “ريمون آرون” تصور “دوركايم” لعلم الاجتماع على النحو التالي: “… لكي يوجد علم اجتماع، يلزم وجود شيئين: من جهة أن يكون موضوع هذا العلم علميا، بمعنى أن يتميز عن مواضيع كل العلوم الأخرى، ومن جهة ثانية أن يكون في مقدورنا ملاحظة هذا الموضوع وتفسيره بطريقة مشابهة للطريقة التي تلاحظ بها وتفسر بها العلوم الأخرى”().
وهناك بعض المناهج التي ظهرت حديثا في علم الاجتماع، والتي لا تعتمد الاتجاه الوضعي في أبحاثها، وإن كان انتشارها محدودا نسبيا مقارنة بانتشار الوضعية، أذكر على سبيل المثال الاتجاه الفينومينولوجي الذي “يأخذ موقفا نقديا من مناهج العلوم الطبيعية ويرفض محاكاتها، ويسلم بوجود اختلاف بين الظواهر الطبيعية والظواهر الاجتماعية اختلافا جوهريا، حيث أن الباحث يدرس عالما يتشكل من خلال المعاني التي تمثل بالنسبة له وسيلة لفهم الواقع الاجتماعي”().
وهناك أيضا الاتجاه التفسيري، “وطبقا لهذا الاتجاه، فإن العلوم الاجتماعية تقع في نقطة ما بين العلوم الطبيعية والفلسفة، فهي تحتوي على العديد من الأسئلة الفلسفية أو شبه الفلسفية في خصائصها، مثل التمايز المفاهيمي للظاهرة الاجتماعية، واختلافه عن الظاهرة الطبيعية، أو العلاقة بين معتقدات الأفراد وأفعالهم..”().
غير أن واقع البحث الاجتماعي، يشير إلى سيادة المنهج الوضعي نسبيا على الاتجاهات الأخرى؛ وبشكل عام، فإن هدف علم الاجتماع هو دراسة المجتمع وظواهره دراسة علمية بغرض اكتشاف قوانينه الاجتماعية، التي تسمح بفهم وتفسير هذه الظواهر، ثم التنبؤ بها مستقبلا أو التحكم فيها.
كما تحتل الدراسات الميدانية مكانة مهمة في جسم البحث الاجتماعي، إذ تكفل جمع البيانات والمعطيات التي تسمح بالتحقق من الفرضيات المطروحة لتفسير الظواهر، كما تضفي المصداقية على الدراسة المنجزة، باستنادها إلى معطيات الواقع الفعلي.
لكن المسيري له رأي آخر في هذه الدراسات الميدانية التي تقوم على توزيع الاستمارات وجمع البيانات عن الظاهرة المدروسة، يقول المسيري: ” وتعبيرا عن نموذج الموضوعية المتلقية الذي استشرى في الرسائل والمؤلفات في العلوم الاجتماعية في البلاد العربية؛ ما يسمى بالاستبيان [ أو الاستمارة في الجامعات المغربية ]، وهي مجموعة أسئلة توزع على ‹أعضاء العينة› الذين يجيبون عادة بنعم أو لا، وتُختزل القضية إلى الأسئلة التي يطرحها الدارس والأجوبة التي يتلقاها، ثم يحاول بعد ذلك التوصل إلى نتائج إحصائية دقيقة، ثم يملأ رسالته بالجداول التي تدخل الغبطة على نفس الممتحنين نظرا لدقتها العلمية (وهم يعنون الموضوعية الفوتوغرافية في واقع الأمر). ومعظم هذه البحوث يقال لها “ميدانية”، أي أنها لا تتعامل مطلقا مع الإطار النظري ولا تتساءل بخصوصه، وإنما تحاول أن تطبق مقولة نظرية ما على حالة ما أو على عدة حالات. وهذه الدراسات الميدانية هي الأخرى عملية تطبيق صماء متلقية تأتي بنتائج متوقعة متضمنة في المقدمات النظرية، ومن ثم فهي ليست بحثا ولا تعدل شيئا من النظرية السائدة ( مع أن هذا في تصوري هو هدف العلم)”().
وحينما ينتقد المسيري الموضوعية والتجرد في رصد معطيات الواقع، ويعيب إقبال العقل على الرصد الدقيق للمعطيات وتسجيلها، فهو هنا يناقض أهم مسلمات البحث العلمي، والتي تذكرنا بها الباحثة الاجتماعية “مادلين غرافيتس” بقولها: “… وذلك يلزم عنه أن نتعرف على المجتمع باعتباره خاضعا لقوانين، ويلزم علماء الاجتماع أن يكشفوا عن هذه القوانين عن طريق ملاحظة حرة دون استحسان أو استهجان للظواهر السياسية، وأن يروا فيها بصفة أساسية – كما هو في العلوم الأخرى- مجرد موضوع قابل للملاحظة”().
فكيف ستقوم دراسة اجتماعية بدون رصد دقيق للمعطيات وتجميع كاف للمعلومات، وكيف نقبل أي بحث لا يتحرى الموضوعية والتجرد ونسلم بنتائجه؟
يستمر المسيري في توجيه سهام النقد للموضوعية المتلقية، معلنا دور العقل المبدع: “والموضوعية المتلقية لا علاقة لها بأي فكر حقيقي أو إبداعي، فهي تحول العقل المتسائل إلى آلة رصد، وبدلا من محاولة تفسير الواقع، فإنها تكتفي بتسجيله وأرشفته. والوهم الكامن وراءها أن الحقائق المتناثرة هي الحقيقة، وأن المعلومة في حد ذاتها تنطق بالصدق، وأنه يتم التوصل إلى المعرفة من خلال عملية تجميعية تراكمية خارجية. […] فالصدق والدلالة والأهمية أمور يجردها عقل الإنسان المبدع من كم المعلومات والوقائع والحقائق المطروح أمامه، وهو كم هائل متضارب، خاصة بعد ثورة المعلومات التي أصبحت تهدد عقل الإنسان”().
3- الانتقالات الثلاث: اختلافات خلاقة:
قد يبدو للوهلة الأولى أن المسيري يختلف بالدرجة الأولى مع مبادئ البحث الاجتماعي المستلهمة أساسا من الفلسفة الوضعية، وبالتالي قد يكون على توافق مع الاتجاهات الأخرى في علم الاجتماع، لكن المتفحص لكتابات المسيري، يجد أنه على طرف النقيض مع كل تلك الاتجاهات، وهذا ما يؤكده هو نفسه في قوله: “ويمكن القول بأن التيار الذاتي في الفلسفة (الفينومنولوجية وغيرها من التيارات) يقف على الطرف النقيض من التيار الموضوعي ويشكل احتجاجا عليه. ولكن التيار الذاتي في إطار المرجعية المادية لا يختلف كثيرا في نتائجه عن التيار الموضوعي، فهو تيار يؤكد الذات، ولكنها ذات منغلقة على نفسها، وهي ذات طبيعية مادية – ولذا، فهي في نهاية الأمر تنتج عالما واحديا مصمتا-، فهو شكل من أشكال اللاعقلانية المادية التي تأخذ شكل ثورة ضد العقلانية المادية”().
ولكي نفهم انتقادات المسيري بشكل أعمق، لا بد أن نضعها في سياقها الحقيقي، وإلا وقعنا في سوء فهم تجزيئي أو إسقاطي، قد يوهمنا أنه ينتقص من المنهج العلمي، أو لا يؤمن بقدرات البحث الاجتماعي ولا يقدره حق قدره، في حين أن المتفحص الصبور سيجد أن المساهمات النقدية للمسيري هي إيجابية إلى أبعد الحدود، والغرض منها هو إضفاء مصداقية أكبر على نتائج تلك العلوم، وإنما وفق رؤية جديدة: يكون أصل رفض المسيري فيها للموضوعية والعقل السلبي/ مراكمة المعلومات هو رفضه لطبيعة تصور تلك المناهج للإنسان. وهذا ما يقوله صراحة: “والمصدر الأساسي لرفضي لنموذج الموضوعية الفوتوغرافية والمعلوماتية ( المادية) هو تحولي الفكري الذي أشرت إليه، الذي يؤكد مسؤولية الإنسان ومقدرته على التجاوز والإبداع”().
فالمفتاح لفهم هذه التصورات الخلافية عند المسيري، يرجعه هذا الأخير إلى تصوره المغاير للإنسان. ونستدعي هنا نفس النص الذي أدرجناه سابقا في معرض حديثنا عن نقد المسيري للدراسات الميدانية، لنورد تتمته: ” .. وعادة ما تُفضَل الإحصاءات والدراسة الميدانية لأنها “مفيدة” مما يبين أن الواقع المباشر سيطر على عقل الدارس، كما توصف بأنها “دقيقة” مما يدل على أن العلوم الطبيعية (وهي علوم تتجاوز في دقتها العلوم الإنسانية والاجتماعية) تلقي بظلالها الكثيفة على العلوم الإنسانية، كما تدل على أن هذه المناهج ترى الإنسان بحسبانه كائنا طبيعيا”().
وهكذا حينما ينتقد المسيري الموضوعية، فليس لمجرد النقد، بل هو ينتقد فعليا الأسس الفلسفية الكامنة وراءها، والتي تؤطر رؤيتها للإنسان والعقل البشري، وهو الأمر الذي نلمسه بوضوح حينما يشرح المسيري تصوره للموضوعية، إذ يقول: ” الموضوعية هي إدراك الأشياء على ما هي عليه دون أن يشوهها نظرة ضيقة أو أهواء أو ميول أو مصالح أو تحيزات أو حب أو كره. ولذا، فإن وصف شخص بأن ” تفكيره موضوعي”، فإن هذا يعني أنه اعتاد أن يجعل أحكامه تستند إلى النظر إلى الحقائق على أساس العقل وبعد معرفة كل الملابسات والظروف والمكونات”().
وهذا العرض الواضح والإيجابي لمعنى الموضوعية، يؤكد قيمتها العلمية، بل ويدفعنا إلى التساؤل عن سر رفض المسيري لها، مادام يستوعبها بكل هذا القدر من الإيجابية والوضوح، وهنا لا بد نستدعي تتمة النص السابق، والذي يبرز مكمن الخلاف الحقيقي: “والموضوعية هي الإيمان بأن لموضوعات المعرفة وجودا ماديا خارجيا في الواقع، وبأن الحقائق يجب أن تظل مستقلة عن قائليها ومدركيها، وبأن ثمة حقائق عامة يمكن التأكد من صدقها أو كذبها، وأن الذهن يستطيع أن يصل إلى إدراك الحقيقة الواقعية القائمة بذاتها (مستقلة عن النفس المدركة) إدراكا كاملا، وأنه بوسعه أن يحيط بها بشكل شامل، هذا إن واجه الواقع بدون فرضيات فلسفية أو أهواء مسبقة، فهو بهذه الطريقة يستطيع أن يصل إلى تصور موضوعي دقيق للواقع يكاد يكون فوتوغرافيا”().
فوجه الخلاف إذن ليس الموضوعية بشكل مباشر، وإنما ما تستبطنه هذه الأخيرة من رؤية للإنسان والكون والوجود.
وهنا نصل إلى محطات الوصول الثلاث، بعد التذكير بالانتقالات الثلاث السابقة: - الانتقال من الموضوعية الفوتوغرافية إلى الموضوعية الاجتهادية.
- الانتقال من العقل السلبي إلى العقل التوليدي.
- الانتقال من الرصد المباشر إلى تبني النموذج منهجا للتحليل.
|1|2|
- أنظر لائحة أعماله مفصلة على الرابط الإلكتروني: http://www.elmessiri.com/books.php
- المسيري، عبد الوهاب، رحلتي الفكري: في البذور والجذور والثمر، سيرة غير ذاتية غير موضوعية، دار الشروق، مصر، ط2، غشت 2006، ص: 315. وسيلاحظ القارئ اعتمادنا الكبير على نصوص هذا الكتاب تحديدا، وذلك لأن المسيري قد صاغ فيه خلاصة تجربته الفكرية، وقد نعتبره “تلخيصا” لمعظم القضايا التي تناولها مفصلة في كتبه الأخرى.
- المسيري، عبد الوهاب، رحلتي الفكرية، مرجع سابق، ص: 316.
- المسيري، عبد الوهاب، رحلتي الفكرية، مرجع سابق، ص: 317.
- نفسه، ص: 317.
- أمزيان، محمد، منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا ، الولايات المتحدة الأمريكية، ط 4، 2008، ص: 100.
- الزيباري، طاهر حسو، أساليب البحث العلمي في علم الاجتماع، مجد: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 1، 2011، ص: 51.
- نفسه، ص: 50.
- المسيري، عبد الوهاب، رحلتي الفكري، مرجع سابق، ص: 333.
- نقلا عن: ، أمزيان، محمد، منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، مرجع سابق، ص: 40.
- المسيري، عبد الوهاب، الثقافة والمنهج، حوارات، تحرير: سوزان حرفي، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط 1، 2009، ص: 240.
- المسيري، عبد الوهاب، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، المجلد الثاني، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط 2، 2005، ص: 126.
- المسيري، عبد الوهاب، رحلتي الفكرية، مرجع سابق، ص: 323.
- نفسه، ص: 333.
- المسيري، عبد الوهاب، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، مرجع سابق، ص: 447.