في عرفانيّات عبد الجبّار الرّفاعي
د. أسماء غريب / ايطاليا
حينما انشغلتُ لأزيد من خمس وعشرين سنة بـ “الفلسفة”، لمْ أَكُ في الحقيقة أبحثُ فيها عن طريقة لأفهَم بها الكونَ والوجود، ولا عن وسيلة تُمكّنُني من الغوصِ عميقاً في غيابات جُبّي، أو مِنَ الولوج في دهاليز نفسي وإنّما كنتُ أحاولُ فقط أن أجيبَ عن أسئلة بسيطة جدّاً من قبيل؛ ما الفلسفة، ولماذا مرافقة الفلاسفة؟ وما سرّ هذا الاهتمام الّذي أوليه لهُم؟! أنا لا أنكرُ أنّ الفلاسفة أصدقائي الأحقّاء، ولنْ أقول إنّني لمْ أقرأ للعديد منهم، بلى لقد تعرّفتُ على المئات منهم سواء بين جدران فصول التعليم الثانويّ، أو حول موائد المكتبات ورفوفها، أو من خلال قراءاتي المنزليّة العدنيّة داخل المغرب الحبيب أو خارجه، ووحدها فقط هذه القراءات العصاميّة منْ فتحتْ لي أبواب الفلسفة الحقّة على مصراعيها، لا سيما وأنّ دروس الفصول المدرسيّة والجامعيّة الأولى لم تكن أبداً كافية لتطفأ لهيب عطشي للمعرفة، والنتيجة كانت أنّني فهمتُ باكراً أنّه ثمّة فرقٌ كبير بين الفلسفة التي تدرّسها المؤسساتُ التعليميّة، وبين الفلسفة التي تلقّنها إيّاكَ الحياة خارج الأسوار الرّسميّة، وفهمتُ أيضاً أنّ الفيلسوف الحقّ ليس بالضرورة هو منْ يُدَرّسُ الفلسفة، فالأوّلُ حكيم والثاني غالباً ما يكون متفلسفاً لا غير، والحكيم هو من يعلمُ أنّ الفلسفة هي حبّ الحكمة، بينما التّفلسفُ ماهو سوى طريقةٍ روتينيّة جدّاً لجمع المعلومات وتكديسها داخل العقل والتنظير من خلالها للعديد من القضايا دون تحقيق الوعي السّليم بها. وبناء على هذا تعلّمتُ أنّ الحكمة هي مرادفة لإزهار الوعي وانتشار عطر العقل الأعلى عبر التحليق في الماورائيات حتّى إدراك مستوى اللّاتفكير، أو اللّاعقل، ولك أن تسمّيه ما تريد، ولتعلم أنّني هنا أقصد الوصول إلى ما يسمّى بالإيمان الأعلى، أيْ بلوغ سدرة المنتهى، هذه هي الفلسفة يا صديقي، وليستْ تلك التي أصبحت مجرّد حرفة لتنظير، وتحديد التقنيات والأفكار التي لا تحلّ ولا تغيّرُ أيّ شيء بداخلكَ، وإنّما أنت تبقى كما أنتَ دون أن تعلمَ أنّ الرّجل المتفلسفَ هو أكثر النّاس وهماً في العالم لأنّه يعتقد أنّه يعرفُ كلّ شيئ في حين هو لا يعرف شيئاً على الإطلاق لأنّ فلسفته لم توصله إلى المقامِ المحمود. وأنتَ دون أن تعلمَ أيضاً أنّك حينما تُراكمُ المعرفة، فإنّها تصبح جزءاً من ذاكرتِكَ، فلا تتفاعلُ بها مع أيّ شيء. ولا شيء من المعلومات التي راكمتها يلامسُ قلبكَ أو ذاتكَ، وعليه فإنّ المعرفة التي لا تفعل فعل الكيمياء بداخلك هي أكثر خطورة من الجهل نفسه. عليك أن تدرك هذا جيّداً، وعليكَ أيضاً أن تعلم أنّ المعرفة الحقّة تتجلّى عبر الوصول إلى مستويات الكينونة العالية، فالأمر لا يتعلّقُ بمعرفة قصوى بقدر ما هو مرتبط بجوهر أعلى، والطريقة الحقّة هي أن تكونَ أكثرَ، لا أن تعرفَ أكثر. أقول هذا وقد حضر الآن بين عينيّ طيفُ الشّاعرة الأمريكية جيرترود شتاين، فتذكّرتُها حينما سألت الحاضرين حولها وهي في لحظات احتضارها الأخيرة فوق فراش الموت قائلة: “ما الجوابُ إذن؟”، قال أحد الأصدقاء مستغرباً الأمر: “إذا كنّا لا نعرفُ السّؤال، فكيف بوسعنا أن نُعطيكِ الجواب؟”، فتحت جيرترود عينيها للمرّة الأخيرة وعقّبت: “جيّد جدّاً، في هذه الحالة ماهو السّؤال إذن؟” ثمّ ماتت! نهاية عجيبة، أليسَ كذلك أيّها القارئ العزيز؟ من يدري لربّما تكون أنتَ أيضاً مثل جيرترود ومثل العديد من النّاس في عجلةٍ من أمركَ وتُريد أن تعرف ما الجواب قبل أن تعرفَ ما السّؤال، وأنا أقول لكَ إنّه لا يوجد سؤال ولا جوابٌ حقّاً وحقيقةً، ولم أكُ لأقرأ كتب الفلسفة وأصَاحبَ الفلاسفة لأجد جواباً عن سؤال ما، لأنّه لا يوجد أحدٌ يعرفُ السؤال ولا الجواب، والكونُ الّذي هو مدرستي الإلهيّة علّمني أنّ ما يوجد حالياً هو فقط طريقة للعيش في فوضى العقل الّذي يضجُّ بالأسئلة وعشرات الملايين من الأجوبة التي تتناسل باستمرار أبديّ، أقول هذا وقد سطع في سمائي الفكريّة اسم جديد لعارف لم أكن أعرف عنه شيئاً مسبقاً، وأعني به د. عبد الجبّار الرّفاعي، قرأتُ حديثاً بعض كتبه سواء تلك ذات الطّابع الحوزويّ أو تلك التي انفتحت على الفكر والفلسفة الغربيّيْن، واطّلعتُ على بعض الأعداد من مجلّة “قضايا إسلاميّة معاصرة”، فخلصتُ إلى أنّ هذا الرّجل قد مرّ في حياته الفكريّة بمخاضات عدّة، وتحوّلات ذات قيمة معرفيّة هائلة من حيثُ أنّهُ استطاع من خلال دراسته للمعارف والعلوم الإسلامية أن يلاحظ أنّ بعض هذه العلوم لا سيما الحوزويّة منها بحاجة إلى غربلة عميقة مع إعادة لبنائها وتحديثها ثمّ تخريجها بأسلوب ولغة جديدين ينسجمان مع تحوّلات العصر سائراً في هذا على خطى المجدّدين الأوائل من قبيل الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، والشيخ محمد رضا المظفّر، وكذا السّيد هبة الدين الشهرستاني، والإمام الشهيد محمد باقر الصدر. ولعلّه من باب التّجديد هذا وُلدت مجلّة: ” قضايا إسلامية”، ثم “قضايا إسلامية معاصرة”، والتي بها وبما طرحته من مواضيع تجديديّة وقضايا رائدة تعمّقت أكثر فأكثر تجربتُه ومسيرته الفكريّة، إلى أن بلغت الذّروة في كتابيْه (إنقاذ النّزعة الإنسانيّة في الدّين)، و(الدّين والظّمأ الأنطلوجي)، وهما الإصداران اللّذان وجدتُ فيهما عبد الجبّار الرّفاعي وقد تجاوز مرحلة الفلسفة إلى ما بعد الفلسفة، أو ما أسمّيها بالمرحلة العرفانيّة التي لا تتحقّقُ إلّا بعد أن يتخلّص “الفيلسوف” من فوضى العقل، ليدخل إلى نظام الوعي الأعلى، أو إلى ما رمز إليه ابن عربيّ في ديوانه (ترجمان الأشواق) بوجه المحبوبة الأنثى المتألّهة “نظام”. وهو النّظام الجديد الّذي به تغيّرت كتابات د. عبد الجبّار الرّفاعي لتصبح مغموسة في مدادِ المحبّة، ولا أقول الحُبّ، إذ أنّ هناك فرق كبير بينهما، لأنّ الحبّ يقتضي الوقوع، والمحبّة تقتضي الصعود، وهذا ما يفسّرُ كيف أنّ معظم النّاس حينما يرغبون في التعبير عن حالة الحبّ التي يمرّون بها يقولون: “وقعتُ في الحبّ”، أمّا محبّ الحكمة أو العارف فيقول: “صعدتُ بالمحبّة”، وعليه فإنّ من يقع في الحبّ نائم حالم، ومن يصعد بالمحبّة عاشق مستيقظ بقلب واعٍ وعيون متّقدة. ولهذا فإنّي أعتقدُ أنّه لو كان د. عبد الجبّار حاضراً لحظات احتضار الشّاعرة جيرترود لقال لها وقد بلغ هذا المستوى العظيم من الحكمة التي بها حلّق إلى مرحلة ما بعد الفلسفة: “هذا ليس بالوقت المناسب لتشغلي بالك بالسّؤال والجواب، فلا وجود لهما أصلاً، ولتتذكّري أنّ الوجود صامتٌ كاملٌ مطلقٌ كما خلقه الوعي الأكبر، والحياة ليست فصلاً للفلسفة، أغمضي فقط عينيكِ بدون سؤال ولا جواب، تحوّلي الآن وموتي بصمتٍ، برحمة، بسلام ومحبّة، وعشق ووعي كبيريْن”! وحده من اكتوى بأوار استبداد المعارف الرّسميّة وترويض المؤسسات التربوية للفكر على الطّاعة العمياء، يستطيع أن يُشَكّلَ ويخلقَ هذا النّوع الجديد من الفكر وهو يعلم بأنّه بقدر ما يكون الفردُ واعياً يكون حيّاً، لأنّ الوعيَ هو الفرق بين الحياة والموت، والإنسان ليس حيّاً لأنّه يتنفّس، وإنّما أنتَ حيّ أيها القارئ العزيز حينما تكون يقظاً، ولا أحد في هذا الوجود باستثناء اليقظين حيّ، الباقون هُم جثث تمشي، تتكلّمُ وتصنع الأشياء وتعيش، إنّهم الإنسانُ الآليُّ الجديد، وعبد الجبّار الرّفاعي بكتاباته الجديدة يدعوكَ إلى التحوّل من الإنسان الآليّ إلى الإنسان العاليّ بوعيه ويقظته، أقول هذا وقد اكتشفتُ أنّنا لسنا بعدُ إنساناً، نحن آلة وإن كانت هذه الحقيقة تزعج الكثيرين، لكن راقب نفسك ولو لبضع دقائق وستدرك للعمق أنّكَ تتصرّفُ كالآلة، إنّك آلة رائعة حقّاً كما قال العالمان؛ الروسي بافلوف، والأمريكي سكينر، وإني لأغفر لهما قولهما هذا لأنّهما لم يصادفا لليوم إنساناً كمحمّد، أو عيسى، أو حكيماً متصوّفاً عارفاً بالله كجلال الدين الرّومي، وابن عربيّ والحلّاج، ولكنّهما صادفا الملايين من النّاس الّذين يشبهونك. لقد درس سكينر الإنسان والجرذان وخلص إلى أنّه لا يوجد فرق بينهما، الجرذان مخلوقات بسيطة والإنسان كائن أكثر تعقيداً، وعليه فالجرذان آلة بسيطة، في حين الإنسان آلة معقّدة لكنها رائعة جدّاً، ولهذا السّبب يدرس علماء النّفس الجرذان ويعمّمون نتائج دراساتهم على الإنسان، وهم على حقٍّ فيما يذهبون إليه إلى حدٍّ ما، فأين لسكينر أن يجد رجلاً متيقّظا واحداً، أيْ حكيما وعارفاً بالله في أمريكا كلّها، وكلّ ما يراه في الإنسان هو صورة مكبّرة عن الجرذان، مادام هذا الإنسان في حالة نوم عميقٍ. وهي الفكرة التي ذهب إليها أيضا سيغموند فرويد حينما قال إنّ الإنسان محكوم بحالة اللّاوعي التي تسيطر عليه بشكل كامل، وإنّ العقل الواعي عند الإنسان لا يمثّل سوى 10 % من مجمل العقل، وقد بلغ تلميذه يونغ شأناً عظيماً حينما اكتشف اللّاوعي الجماعيّ، وإني لأنتظرُ أن يظهر عالم آخر يكتشف شيئاً اسمه اللّاوعي الكونيّ، وما دام موجوداً فهذا يعني أنّ هناك أيضا شيء اسمه الوعي الكونيّ وهو الّذي تحدّث عنه مراراً وتكراراً العرفاء والأنبياء، ألم تسمع الحلّاج حينما قال: أنا الحقّ؟ إنه لم يكن يقصد أنّه هو الله بالمفهوم الغوغائيّ لدى عامة النّاس، وإنما كان يقصد إنه هو العقل الواعي الأعلى الكونيّ، وهو نوع الوعي الذي تحدّث عنه سري أوروبيندو بحيث جعلنا ندركُ أنّ الإنسان على الصّعيد الفكريّ هو أكبر حجماً بكثير من الصّورة السّلبية التي ترسّخت عنه طيلة عمره الوجودي فوق هذا الكوكب. وعبد الجبار الرّفاعي بكتاباته الجديدة يسعى هو أيضاً إلى إحياء هذا الوعي الأبديّ الّذي لا يموت، حتّى يصبح الإنسان قادراً على أن يراقب كلّ ما يقوم به، فيخرج من الحالة الآليّة إلى الوعي العاليّ، لأنّ من يراقبُ يستيقظُ، ومن يستيقظُ يحيا، ومن يحيا يُحبُّ، ومن يُحبّ يجد الله، أو سمّه إذا شئتَ الوعي الكونيّ الأعلى، هذه هي القمّة التي تستحقُّ أيّها الإنسان، فإذا لم تبلغها فأنت المسؤول، ولا أحد سواك، وتذكّر أنّه كما قال الرّفاعيّ في إحدى مقالاته الحديثة، وهو يتحدّث عن الحبّ بمعنى المحبّة: “عندما أنظر لأعماقِ النفس البشرية بمجهرِ علماء النفس، لا أرى في هذا الكائن ما يغويني بمحبته، وعندما أنظر لروح الإنسان ببصيرة العرفاء والمتصوفة أرى شيئًا من النور يغويني بمحبته. أدركتُ أن الطبيعة البشرية ملتقى الأضداد، فعملتُ منذ سنواتٍ طويلةٍ على ترويضِ نفسي على الحُبّ، كان هذا الترويضُ شديدًا شاقًا منهِكًا، ولم يكن سهلًا أبدًا. الترويضُ على الحُبّ هو الأشق، إلا أنه كان ومازال يطهرني من سموم الكراهية، وينجيني من أكثر شرور الأعداء… من يعجز عن إنتاجِ الحُبّ يعجزُ عن إنتاجِ معنىً للحياةِ، الحُبُّ أهمُّ منبعٍ لإنتاج المعنى في الحياة، مادام هناك إنسانٌ فإن حاجتَه لمعنىً لحياته تفوق كلَّ حاجة، الإنسانُ لا يستطيع العيشَ بسلامة نفسية من دون معنى لحياته، ولا معنى في الحياة أثرى وأجمل من الحبّ”! د. أسماء غريب، أكاديميّة وروائية وناقدة ومترجمة مغربية مقيمة في إيطاليا. أكاديميّة وروائية وناقدة ومترجمة مغربية مقيمة في إيطاليا.. [1]