غانم جواد –
ثار مصطلح “الحداثة” جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية بسبب تضارب تعريفها عند مبتكريها من الغربيين ، هذا المفهوم (في خلاصته) يعبر عن التغيرات الكبرى في حياة الشعوب كنتيجة للنهضة الفكرية والمعرفية التي أنتجت التكنولوجية المستندة الى التطور العلمي الهائل، والذي قاد الى تبديلات كبرى في الحياة الأدبية والفنية و مرورا بمختلف أجناس الإبداع وانتهاء بالتطبيقات الاجتماعية والثقافية والدينية بشكل أثره على حياة الشعوب وغير أنماطها القديمة وخلق بيئات جديدة تتفاعل معها. ظهرت ثلاث اتجاهات في المنطقة للتعامل مع الحداثة الأول اخرج الحداثيون المنبهرون بالحضارة الغربية و بمنجزاتها المفهوم من النسق الفكري والسياق الثقافي للشعوب، معتبرين انها جاءت في مواجهة الدين في تأثيراته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية معتمدين منهجها العلمي في تحرير العقل من كل القيود وإطلاق حريته ومنحه عمل بلا حدود، وكانوا يعتقدون بصلاحيتها لكل الشعوب ناكرين إنها إنتاجا فريدا يتسم بالخصوصية الثقافية الغربية. في حين نجد اتجاه ثاني تفاعل معها الحداثيين وقدموها ضمن النسق القومي العربي والديني مستندين الى حقائق مفادها تنوع ثقافات الشعوب وإن كانت تجمعها بعض الخصائص فالثقافة العربية الاسلامية تجمع بين الإلهي والطبيعي ولا تغلق الباب أمام الاجتهاد والإنجاز، وهذا ما نعكس في التشكيلات القومية العربية والأطروحات الدينية الحاوية لمفاهيم الحداثة. أما الاتجاه الثالث المكتسب والمتعامل مع منجزاتها وفي نفس الوقت ناكر لها باعتبارها ارتبطت مع دخول المستعمر الكافر للبلاد العربية والإسلامية.
لقد أنتجت لنا الحداثة مجموعة من المفاهيم التي أثرت بشكل مباشر على حياة شعوب العالمين العربي والإسلامي في الإبعاد العقدية والتنظيمية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية وحتى الجغرافية، فالمادية بمدارسها المتعددة هي رأس الهرم في التشكيل العقائدي للحداثة في مواجهة سلطان الكنسية وحليفها الأساسي الإقطاع، فحاول مثقفونا تبني المادية وجعلوا من عقيدة الأيمان بالغيب من نتاج التخلف، فظهرت بعد قرون مدارس التطرف والتشدد وثم التكفير كرد فعل على المادية. كما شكلت العلمانية البعد التنظيمي للحدثة وهي شرط أساسي للنهضة حيث قدمها بعضهم إنها في تضاد مع الدين وقضى بفصلها عن الدولة والسياسة، لكنها في واقع الأمر إنها غير ذلك كما يبرهن الواقع الغربي الآن (وكما نريدها لبلادنا ) فهي ليست فصل بقدر ما هي تعامل كل من الدين والدولة في مجالهما الحيوي يلتقيان ويفترقان، فالدولة ليست لها دين لكن المجتمع له هوية دينية فالكل أبناء الدولة وهم مواطنون (لا رعايا) متساوون ولا تمييز لأي منهما ويختلفون في توجهاتهم السياسية وانتماءاتهم القومية والدينية والطائفية يسودهم السلم الأهلي.
اما في جانبها السياسي فتشكل الديمقراطية جوهر الحداثة بمكوناتها الاساسية في سن الدستور والقائم على مبدأ السلطة للشعب يختارها ويحددها في انتخابات حرة ونزية وعلى اساس مبدأ فصل السلطات وانشأ دولة القانون والمؤسسات تتبنى فيها حقوق الانسان، وتتوازن الديمقراطية بمبدأ التعددية والتداول السلمي للسلطة على ان تكون الثروة والموارد المالية حق للجميع.
احدثت الحداثة وما بعد الحداثة أزمة للهوية بعد أن اهتزت المفاهيم وتضاربت المبادئ والقيم مع الانساق الفكرية العربية والاسلامية التي تشكل الهوية الثقافي لأبناء المنطقة، فهل سنحصن انفسنا من الانزلاق نحو التشرذم والتبعثر في عدم تبني هويتنا الوطنية الجامعة والمنسجم مع قيمنا واعرافنا التي نعتز بها أم سنتبعثر في خضم صراع الهويات المقاتلة، سؤال برسم الاجابة عليه من القارئ اللبيب.