جواد كاظم غلوم –
خلال سنوات السبعينات ومابعدها من القرن الماضي انتشرت المراكز الثقافية التابعة للدول الصديقة بشكل ملحوظ نظرا لاتساع العلاقات بين العراق وبين معظم دول العالم ومنها العلاقات الثقافية مدار حديثنا وكان من الطبيعي ان يتأثر المثقف العراقي ويزداد اطلاعا على ثقافات الشعوب الحيّة وينهل من فنونها وآدابها مثلما كانت المراكز الثقافية العراقية منتشرة على نطاق واسع في اغلب الدول والعواصم الاوروبية بالذات (لندن وباريس) خصوصا حيث كانت محط انظار المثقف الاجنبي للاطلاع على إرث العراق الموغل في القدم اذ كانت الحضارة السومرية والبابلية والآشورية والأكدية وغيرها مثار اعجاب العقل الاوروبي وغير الاوروبي
كنت وبعض زملائي من الطلبة في كلية الآداب وطلبة أكاديمية الفنون الجميلة نترقب ماتقدمه هذه المراكز من عروض سينمائية او مسرحية ومعارض كتب لاجل نشر ثقافة بلادهم، او اقامة دورات لتعلم اللغات الاجنبية في كورسات ومحاضرات يحاضر فيها ابرع الاساتذة الاجانب والعراقيين وكانت هذه المحاضرات لاتخلو من اجهزة لتعليم الحوار وكيفية نطق الحروف وطريقة تلفّظها مما نسميه في علوم اللغات ( Phonetics) واسلوب الحوار والمحادثة (Dialogue ) إضافة لتوفر السمّاعات لكل طالب مشارك بتلك الدورات لأيصال النطق السليم، وهذا مالمسته حينما زججتُ نفسي في دورة مكثفة لتعلم الانجليزية في المركز الثقافي البريطاني الذي كان يتخذ مقرا له في اجمل حيّ عتيد وسط بغداد في الوزيرية
ليس هذا فحسب بل كان المركز يحتوي على مكتبة زاخرة بالمؤلفات في كافة العلوم الانسانية والعلوم البحتة ويقدّم الكثير من التسهيلات اثناء اعارة الكتب بحيث يستطيع الطالب ان يستعير ثلاثة كتب دفعة واحدة ويمكنه اخذها الى بيته وقراءتها خارج قاعات المطالعة كما يحق له ان يبقيها فترة/ 15يوما لديه ومن ثم اعادتها لرفوف المكتبة والاستعارة مجددا لثلاثة كتب اخرى كحدّ اقصى
اما طلبة الدراسات العليا كالماجستير والدكتوراه فبإمكانهم استعارة خمسة كتب ولمدة شهر كامل، هكذا كانت الثقة متبادلة بين القارئ والمركز الثقافي ويندر جدا من يتلكأ عن موعد اعادة الكتاب ولو حصل مثل هذا الامر يسارع المركز الى بعث رسالة اليك بالبريد ينبهك ويشير الى ضرورة اعادة المؤلفات المعارة حالا
والى جانب النشاط المكتبي كانت هناك عروض مسرحية بريطانية تقام في قاعة المركز بين حين وآخر ومعظمها مستقاة من مسرح وليم شكسبير وباللغة الشكسبيرية الصعبة حتى على البريطانيين انفسهم ويقوم بأدوارها ممثلون مسرحيون بريطانيون . وكان الى جانب نشاطاته التي ذكرناها فهو ايضا يعتبر حلقة وصل بين المؤسسات الثقافية الإنجليزية وبين الحكومة العراقية وبالاخص مؤسساتها الثقافية مثل وزارة الاعلام والجامعات العراقية وغيرها
وقد استمر نشاطه خلال سنيّ الثمانينات من القرن الماضي وحتى اوائل التسعينات إذ اخذ ينظم دورات مكثفة لدورات التوفل بعد ان تغير اسمه وأصبح يسمى / المجلس البريطاني (British Council ) وقد سعى بعض زملائنا من مريدي المركز على الحصول على زمالات دراسية لمواصلة دراساتهم العليا في بريطانيا
Imageوالحق اننا المتعطشين للثقافة والاستزادة من آداب الشعوب الصديقة كنا نعيب اصدقاءنا وزملاءنا الذين لم يتعلموا لغة اخرى غير لغتهم الام ونرى في هؤلاء ناقصي المعرفة وأقل حظوة منا فقد كان التنافس على اشده بين الاصدقاء المثقفين انفسهم والتسابق على نيل المزيد من سعة الافق المعرفي، ومما زاد من حدة التنافس ان الدورات لتعلم الانجليزية على رصانتها وثرائها كانت مجانية في وقتها وبتشجيع من المجلس نفسه اضافة الى المحفزات التي يمنحها للطلبة المتميزين والمتفوقين بدرجاتهم وقد يحصل الطالب اللامع على بعثة دراسية لمواصلة دراسته في انجلترا بمعونة المجلس نفسه
واذا عرجنا على المركز الثقافي السوفياتي الذي كان يتميز بموقع أخاذ في اطلالته على نهر دجلة في شارع ابي نؤاس فقد كان روّاده في معظمهم من الشباب الذين تشبّعوا بالفكر الماركسي والتيارات اليسارية حيث تم السماح للسوفييت وقتذاك بافتتاح مركزهم الثقافي بعد اقرار معاهدة الصداقة بين العراق والاتحاد السوفياتي بداية السبعينات من القرن الماضي وبدأت وكالة نوفوستي تمطرنا بمطبوعاتها الهائلة وكانت غالبيتها من ادبيات الحزب الشيوعي السوفياتي اضافة الى الصحف والكراسات والمجلات التي تغدقها على بغداد فكانت مجلة ( Social Sciences Journal ) العلوم الإجتماعية تردنا كل شهر وهي تحفل بالبحوث والدراسات الماركسية ومنها علم الجمال الماركسي والديالكتيك والالتزام في الفن والادب امتثالا لنظرية / الفن والادب للمجتمع
ومع كثرة الرقباء والعيون التي تراقب الداخلين والخارجين من وإلى المركز فقد كنّا لانعبأ بهم ونستطيع ان نتسلل الى الازقة الكثيرة والقريبة منه ونختفي في غمضة عين حالما تطأ اقدامنا شارع السعدون المكتظ بالسابلة ونضيع في الزحام
والحق ان المركز الثقافي السوفياتي ظل يغرقنا بالافلام التي كانت تزخر بالابداع والتقنية السينمائية الراقية وخاصة الافلام المأخوذة من الادب الروسي المكتوب ماقبل الثورة البلشفية رغم ان قاعة السينما في المركز كانت صغيرة نسبيا ولايتعدى عدد مقاعدها على الاربعين مقعدا . لكنني كنت احاول بشقّ الانفس ان احوز على مكان اتابع فيه مجريات الاحداث لهذه الافلام فمثلا لايمكنني ان انسى فيلم / الحرب والسلام الذي شاهدته في المركز نفسه عن رواية ليو تولستوي حيث ابدع المخرج السوفياتي سيرغي بوندارجوك في عمل سينمائي قلّ نظيره والذي فاق ماانتجته هوليوود بالاسم نفسه على حدّ زعم نقاد السينما حتى ان هذا الفلم فاز بجائزة الاوسكار عام/1968 كأحسن فيلم تم انتاجه بتلك السنة، كما عرض المركز فيلم / العبّارة بوتمكين للمخرج الروسي سيرجي ايزنشتاين والذي يعتبره الباحث السينمائي جورج سادول واحدا من اهم عشرة افلام في تاريخ السينما المعاصرة الذي يعتبر احد الافلام الذي ارسى اسس السينما العالمية وليس السوفييتية وحدها
وبالمقابل ايضا فقد كان المركز يعرض علينا افلاما سوفياتية توثق مادار خلال الحرب العالمية الثانية من مواقف وحالات بطولية أبداها الجيش السوفياتي خلال سنيّ حروبه مع النازيين لكنها لم تكن ترقى الى ابداعات الروايات المأخوذة من الادب الروسي اذ كانت معظمها دعائية وتبرز البطولات الخارقة للجيش السوفياتي وانتصاراته على المحتل النازي خاصة اثناء حصار مدينتي لينينغراد وستالينغراد فعلى الرغم من التقنية العالية اخراجا وتصويرا وتمثيلا لكنها لم ترضِ المشاهد العراقي الذي يهفو الى الابداع والقصّ المتفرد وكان جلّ مايعرض هي افلام تمجّد الحرب وتشيد بانتصارات الجيش الاحمر لكن هذا لايعني اننا شاهدنا افلاما غاية في الرقيّ مع انها تنتصر للسوفييت مثل انشودة جندي والطلقة /42 وسماء صافية للسينمائي المبدع غريغوري تشوخراي واللقالق تطير للمخرج كولوتوزوف اذ ان معظم تلك الافلام كان هدفها اعادة الاعتبار لروسيا كقوة لايستهان بها والحنين الى روسيا العظمى من اجل انهاض الروح القومية والوطنية لشعوب الاتحاد السوفياتي السابق
Imageوفي شارع ابي نؤاس ايضا يقبع المركز الثقافي الفرنسي (CCF) ويتميز بنشاطاته في اعداد دورات مكثفة باللغة الفرنسية واستمرت فعالياته في عرض واظهار الثقافة والآداب الفرنسية وكثيرا ماشاهدنا افلاما راقية مأخوذة من عيون الادب الفرنسي امثال فيكتور هوجو وبلزاك وستاندال وروايات الماركيز دي ساد وعشنا اوقاتا ممتعة مع عصر الفرسان واحداث الثورة الفرنسية وزعمائها وخطبائها حتى عصرنا الحديث حيث انغمسنا في لجّة الوجودية ومسرحيات وروايات جان بول سارتر وعبثية البير كامي وصولا الى مسرح جان كوكتو وغرائب جان جينيه وكنا نحن كتّاب القصيدة الحديثة مهووسين ببودلير وآرثر رامبو حيث كان المركز يزودنا بكل مانريد من كتب ومؤلفات عمالقة الادب الفرنسي وباللغة العربية والفرنسية حيث كان اغلبنا لايتقن الفرنسية تمام الاتقان وكثيرا ماكنا نلجأ الى اصدقائنا الضليعين بهذه اللغة لترجمة مانصبو الى قراءته وقد استمر نشاط المركز حتى في سنوات التسعينات وايام الحصار الجائرة أمدا طويلا ثم اغلق بعد ذلك لفترة قصيرة ثم مالبث ان عاد لنشاطه ومازال حتى الان يمارس اعماله مركّزا على اقامة دورات ثرية لتعليم الفرنسية بعد ان غيّر اسمه الى / المعهد الثقافي الفرنسي
ولاانسى ان اذكر المركز الثقافي التابع لجمهورية المانيا الديمقراطية الذي كنا نزوره في كرادة مريم رغم افتقاره الى مانصبو اليه من زاد ثقافي مشبع لكن مكانه الجميل كان يسحرنا حيث كنا نستقلّ الحافلة الخاصة بمصلحة نقل الركاب المرقمة/ 15 وهي تتهادى في مشيتها بمحاذاة نهر دجلة من جانب الكرخ المقابل تماما لشارع ابي نؤاس لنصل الى المركز الثقافي لألمانيا الديمقراطية، وربما نواصل سيرنا باتجاه قاعة الخلْد حيث كانت تقام فيها ارقى الحفلات الموسيقية وتستضيف خيرة مبدعي الغناء من العراقيين والعرب وحتى الفرق الاجنبية التي كثيرا ماكانت تزور العراق ومن النادر جدا ان ترى قاعة الخلد فارغة اذ كانت تحفل بكل مبدعي العالم العربي وتحتضن مطربيه وترعى معظم النشاطات الفنية والثقافية ومحط انظار العوائل العراقية التي كانت تبحث عن كل ماهو جديد وزاهٍ في حقول الابداع لكن هذا الجمال لم يستمر اذ سرعان ماتهاوت سمعة تلك القاعة ولم يعد لها ذلك البريق اللامع منذ ان حيكت فيها المكيدة الكبرى عام /1979 التي دبّرها صدام حسين لرفاقه ومنافسيه فور استلامه رئاسة جمهورية العراق للتخلص منهم وإدانتهم بالخيانة التي ألصقها فيهم حيث اعتلى معظم هؤلاء مشانق الموت وقضي على البقية الباقية في السجون وجردوا من وظائفهم في الدولة والحزب وكانت بحقّ مجزرة وسط تلك القاعة وماعادت الخلد تلك الروضة الغنّاء حاضنة الابداع فقد عزف العراقيون عنها وهجرها محبوها ولم يعد لها ذلك الالق الذي كان يوما ما في اوج لمعانه، ليس هذا فحسب بل قامت الدولة بالاستحواذ على معظم أراضي كرادة مريم ومنع الناس من المرور فيها والتنزّه على شاطئ دجلة من جانب الكرخ ولم تكتفِ بذلك فقد عملت بالتدريج على الاستحواذ على كافة المرافق والأبنية المقامة فيها وبناء اماكن اخرى ظلت خصيصا للدولة واستملكت حتى دور المواطنين هناك بشكل غاية في التعسّف واللامبالاة بعد التوسّع في تشييد القصر الجمهوري والمرافق الكثيرة التابعة له ودور الوزراء والمتنفذين ورجال الحماية وبعض مسؤولي السلك الدبلوماسي وربما حتى سفراء الدول العاملة في العراق
اجل هكذا عملت الدولة على احتواء هذا الحيّ الجميل وسط بغداد ومنع فيه اهل بغداد حتى من المرور فيه وحرمنا من شواطئ دجلتنا الغالية الواقعة في الجانب المقابل لشارع ابي نؤاس وحتى يومنا هذا حيث المنطقة الخضراء الحصينة المحروسة الآمنة المطمئنة البعيدة عن مكامن الخطر
اما الشعب فله مناطقه الحمر الدامية المرعبة العارية الخالية من الحصون والأسوار، هكذا أغمضت الدولة عيونها عن أبنائها ونأتْ بنفسها عن حمايتهم منذ اكثر ثلاثين سنةً حتى يومنا هذا
فما أشبه الليلة بالبارحة
جواد كاظم غلوم
من موقع المثقف العراقي