
صادق الطائي
بروفيل المدينة
تقع مدينة بدرة العراقية في منتصف العراق تقريبا على حافته الشرقية وعلى مبعدة بضعة كيلومترات عن الحدود العراقية الايرانية، فهي مدينة حدودية شهيرة، وبها احد أهم المعابر الحدودية التي تربط العراق وايران. بدرة او (به يره) كما ينطق اسمها سكانها الكرد، مدينة عراقية بأمتياز لناحية اختلاط سكانها المعبر عن الخلطة العراقية من الاعراق والاديان والطوائف.
تقع مدينة بدرة على بعد حوالي 200 كم جنوب شرق العاصمة بغداد، اذ تقع الى الشرق من مدينة الكوت على بعد (70) كم،كما تبعد (20) كم من الحدود العراقية الايرانية حيث يقابلها في الجانب الايراني مرتفعات بشتكوه التابعة لمحافظة مهران الايرانية، وبشتكوه احدى الامارات الكردية الفيلية التي كانت تتمتع بحكم ذاتي شبه مستقل حتى عام 1929 عندما أطيح بحاكمها الاخير “غلام رضا خان” وتم ضمها الى دول ايران الشهنشاهية. مدينة (بدرة) اداريا تمثل مركز قضاء تابع لمحافظة واسط، ويتبع لها ناحيتين اولاهما ناحية زرباطية، والثانية ناحية جصان، ويبلغ عدد سكان المدينة اليوم اكثر من عشرة الاف نسمة.
وكحال الكثير من مدن العراق، كانت مدينة بدرة القديمة في بدايات القرن العشرين تقع في منطقة التلال المرتفعة، خلفها بساتينها وامامها نهرها الصغير الموسمي المعروف بأسم (الگلال – بالكاف الاعجمية)، وهو نهر يتزود بمياهه من نهرين موسميين صغيرين هما (كنجاجم ) و(كافيرود) اللذان ينبعان من الاراضي الايرانية من مرتفعات بشتكوه. ويكون نهر ( الگلال) هادرا مليئا بالماء في موسم الفيضان، بينما يكاد يجف في فصل الصيف. وفي الاربعينيات بدأ التأسيس لمدينة بدره الجديدة في القسم المقابل للنهر، اذ انتقلت بعض العوائل الغنية للسكن على ضفة النهر المقابلة في القسم الجديد من المدينة وأخذوا يبنون منازلهم الضخمة والحديثة هناك، كما سكن الجانب الحديث من المدينة موظفو الحكومة، وبقي البسطاء وذوي الدخل المحدود في القسم القديم من المدينة، لتصبح بدرة مدينة يشقها نهر اسمه (الگلال).
التاريخ وشواهده في بدرة
ربما كانت أقدم الاشارات الى مدينة تأريخية في موقع مدينة بدرة الحالية قد وردت في احد الرقم الطينية الذي مثل خريطة العالم، وقد عثر على هذا الرقم في حفريات مدينة بابل الاثرية، ويعتقد ان تاريخه يعود الى نحو اربعة الاف عام، ويمثل لوح طيني رسمت عليه أقدم خريطة في التاريخ، وجاءت فيه الاشارة الى مدينة بأسم (الدير) التي حدد موقعها في منطقة تقع جنوب مدينة اشور، في القسم الشمالي الشرقي من منطقة المستنقعات. الخريطة الاثرية تمثل خريطة العالم بأسره كما كان يعتقد في ذلك العصر، وتتكون الخريطة من دائرة تمثل قرص الارض يحيط بها (البحر السماوي) وفي داخلها وضعت بلاد بابل وأشور ويغمر القسم الجنوبي منها مستنقع يتصل بالبحر، والرقم الطيني الذي احتوى الخريطة المشار اليها محفوظ اليوم في المتحف البريطاني.
كانت بلدة( الدير) الواقعة قريبا من حدود ايران تمر بمرحلة مهمة من مراحل حضارتها، ومعنى اسم المدينة (الدير) باللغة الاكدية هو الحصن، او المكان المحصن، ومنها جاءت تسمية بدرة بهذا الاسم وهي البلدة التي نشأت على أنقاض حصن قديم وظيفته حماية المدن العراقية من الهجمات البدوية القادمة من الهضبة الايرانية المجاورة .
كما يشير البعض الى ان اسم (بدرة) ذو جذر آرامي، أصله ( بدرايا )، وهي كلمة آرامية مركبة من كلمتين هي ( بيت داريا)، وكلمة (بيت) الارامية هي ذاتها الكلمة العربية، و(داريا) الآرامية تعني الدير. لكن البعض يشير الى ان أسم (بدرة) قد ورد في بعض المراجع العربية بأسم (بادرايا) منسوبا الى اصل آرامي معناه “المذرون” أي الذين يذرون الحبوب من المحاصيل الزراعية. ويذكر ياقوت الحموي في كتابة (معجم البلدان) أسطورة ارتبط بالمدينة، وهي ان (بادريا) تشتهر بخشب اشجارها الجيد، لذلك جلب منها الملك النمرود الحطب الذي استعمل لنار ابراهيم (ع)، لكن هذا الزعم ليس هناك ما يؤيده من الادلة الاثارية.
وتجدر الإشارة الى ان أهم المواقع الأثرية في مدينة بدرة الحالية هي “تل نيشان اسود” ومنطقة “العگر” التي تضم حوالي خمسين موقعا اثريا وذلك بحسب البحث الذي قدمه استاذ التاريخ القديم الراحل د.محمد سعيد رضا العُتبي الذي ذكر هذه المواقع الاثرية بالتفاصيل، واشار الى انها تعود لمراحل وحقب تاريخية مختلفة من تاريخ العراق القديم والحديث.
التنوع السكاني والحياة الاقتصادية
مدينة بدرة العراقية حالها حال المدن الحدودية التي عادة ما تشهد تنوعا سكانيا، فالمدينة يسكنها الاكراد الفيلية من قبيلة معروفة تاريخيا باسم (بة يرهي)،وهي من قبائل الكرد اللر،ولان مدينة بدرة قريبة من اراضي لرستان شرق ايران، فيعتقد ان هناك صلة وحركة سكانية بين بدرة والاراضي الكردية الايرانية المقابلة. كما سكنت مدينة (بدرة) قبائل عربية مثل قبائل عُتبة وبني ركاب وبني خالد.
النشاط الاقتصادي الابرز للمدينة هو الزراعة، اذ احتوت المدينة على الكثير من المزارع وبساتين النخيل، كما امتهن عدد من سكان مدينة بدرالتجارة ،لكون المدينة مثلت معبرا مهما يربط مدن وسط العراق بمدن وسط ايران،كما يوجد في المدينة مقالع الحصى التي تزود المدن الكبرى بالحصى المستخدم في الاعمال الانشائية، كما شهدت المدينة تغيرا اقتصاديا مهما بعد اكتشاف البترول في حقول نفط بدرة لتتحول المدينة الى مدينة نفطية، واليوم يعمل جزء مهم من اهالي المدينة في شركة النفط وفي المنفذ الحدودي المهم الذي يربط العراق وايران.
ابناء بدرة .. رباعون دوليون
من الاشياء الملفتة للنظر في مدينة بدرة وجود ظاهرة فريدة في هذه المدينة الصغيرة النائية في العراق، اذ يشهد نادي المدينة الرياضي إهتماما كبيرا برياضة رفع الاثقال، حتى غدت المدينة كما توصف بمصنع الابطال العالميون في هذه الرياضة. وقد أفادت وكالة الصحافة الفرنسية في تقريرها الصادر في شهر يونيو 2018 الذي وصف مدينة بدرة بأنها عاصمة العراق لرفع الاثقال، وجاء في التقرير ؛”إذا ما وجدت في العراق مدن تشتهر بمعالم السياحة والموروث الشعبي والصناعة، فإن بلدة بدرة الصغيرة الواقعة على الحدود العراقية الإيرانية، تقدم نفسها مدينة متخصصة بصناعة أبطال رفع الأثقال”.
وتابع التقرير انه؛”وعلى الرغم من هذه النجاحات التي تحققها المدينة، لكن صالتها الرياضية في حالة سيئة، فطلائها مقشر من الجدران الخضراء، والمروحة السقفية المعادة تطلق هواء حارا وقطع الحديد بالية”. ويذكر مدرب المنتخب العراقي لرفع الأثقال خضير باشا لوكالة “فرانس برس”، إن؛”أبناء هذه البلدة كانوا يتبارون في السابق على رفع القطع الحديدية الكبيرة كنوع من إظهار القوة والتحمل، خصوصا قطع غيار المركبات”. ويضيف؛”وجد عدد من الشباب من أبناء المدينة مطلع سبعينات القرن الماضي إمكانية ممارسة هذا النوع من الرياضة،وشاركوا للمرة الأولى عام 1974 في بطولة العراق التي أقيمت في محافظة الديوانية بجنوب البلاد”.
كما يذكر الرباع محمد جاسم الحاصل على الميدالية الفضية في دورة الألعاب الآسيوية للصالات التي أقيمت في تركمانستان عام 2017؛ “نريد أن نعزز ما حققته هذه المدينة. علينا أن نواصل ما أنجزه السابقون وأن تبقى البلدة مصنعا لأبطال هذه الرياضة”. ويعرب الرباع أحمد فاروق عن فخره بأن ؛”تصبح هذه البلدة الصغيرة عاصمة لرفع الأثقال في العراق، وعنوانا للإنجازات التي تحققت عربيا وآسيويا بفضل أسماء كبيرة مرت من هذا المكان”.
نجت من الحرب فهل يقتلها الضمأ
كانت مدينة بدرة ساحة لمعارك طاحنة طوال سنوات الحرب العراقية الايرانية الثمان في عقد الثمانينات من القرن الماضي، وتقريبا لم يتحمل البقاء فيها سوى القليل من اهلها نتيجة الهجرة الكبيرة التي حدثت هربا من الاعمال الحربية. لكنها وكأي مدينة عريقة سرعان ما عادت لحيويتيها ونمط حياتها السابق ما ان توقفت آلة الحرب المدمرة عام 1988، ولأنها مدينة زراعية بأمتياز، فاذا ما شح الماء في نهرها فانها بالتأكيد ستموت عطشا وربما تختفي من الوجود كما تموت بساتينها اليوم.
ان مشكلة بدرة المائية قديمة وليست وليدة تغير السياسات المائية الحالية في ايران، وقد برزت المشكلة مطلع عام 1930 عندما تم تحويل مجرى نهر (كنجان جم) بعد ان تم حفر قنوات جديدة للري في ايران، مما تسبب في انخفاض مناسيب المياه في نهر (الگلال) داخل الاراضي العراقية، وهذا الامر ترك اثارا مدمرة على المدينة واحوالها الاقتصادية، وبقيت هذه المشكلة دون حلول جذرية حتى مطلع السبعينات من القرن الماضي، حين تم انجاز مشروع ري (بدرة – جصان – زرباطية) بشق قناة بطول 64 كم تستمد مياهها من نهر دجلة، لكن يبدو ان هذا المشروع تعرض للاهمال ايضا مما جعل المدينة اليوم في حالة ازمة مياه حقيقة ادت الى انخفاض سكانها بشكل واضح. لكن مع ظهور كميات البترول في حقول مدينة بدرة مؤخرا يتمنى اهل المدينة ان يعود الاهتمام الى مدينة البستاين مرة اخرى ويتم انقاذها من حالة التدهور التي تعيشها.