صادق الطائي –
عندما سلطت اضواء الاعلام العالمي والمحلي على ما حدث ويحدث في العراق ، انتبه العالم اخيرا الى ما تتعرض له الأقليات العرقية والدينية والطائفية في العراق من انتهاكات خطيرة لحقوقها المدنية منذ امد بعيد، حيث حرمت من حقوقها الانسانية ناهيك عن حقوقها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، إن ما جرى في الاسابيع الماضية على ايدي العصابات الاجرامية “داعش” من خروقات بربرية وابادات جماعية تعتبر بحق جريمة ضد الانسانية لابد من الوقوف عندها ومناقشتها ومحاولة فهمها وايجاد الحلول لها .
وفي هذا السياق ولمناقشة الموضوع ، أستضافت مؤسسة الحوار الانساني بلندن كل من سماحة السيد جواد الخوئي الاستاذ في الحوزة العلمية في النجف الاشرف وعضو مجلس حوار الأديان في العراق، والاعلامية السيدة جينا العمو سكرتير التحرير في قناة الغد العربي كما استضافت الاستاذ سعد سلوم رئيس مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية من بغداد عبر سكايب ، في امسية مشتركة لمناقشة ما تتعرض له الأقليات في العراق.
وقد أبتدأ السيد جواد الخوئي مبينا رؤيته لأشكالية الاقليات في العراق عبرمحاولة تعريف لمصطلح الاقلية من وجهة النظرالتاريخية ، متسائلا ، الم تكن هذه الاقليات في يوم ما في تاريخنا هي الاكثرية ؟ اليسوا هم السكان الاصليين للعراق ثم جاء بعد ذلك الفتح الاسلامي ؟ ثم اضاف سؤالا استنكاريا هو ؛ من قال ان الاكثرية العددية هي دائما على حق ؟ وهل ثمثل هذه الاكثرية كلا منسجما موحدا ؟ ليجيب ، قطعا وبالتأكيد كلا.
ان ما قدمته الاقليات للعراق كثير ، وكبير جدا ، فيكفينا ان ننظر الى الجهود الكبيرة التي شاركت بها هذه المكونات في عملية النهضة التي ابتدأت في العراق منذ بدايات القرن العشرين ، ثم اضاف السيد الخوئي ان دور الاباء الدومنيكان على سبيل المثال لا الحصر دور كبير لا يستطيع انكاره الا جاهل او ذو مآرب سيئة يريد العمل على تفتيت وحدة النسيج العراقي المتآخي تاريخيا .
وعزى سسماحة السيد جواد الخوئي ماحصل ويحصل في العراق الى الجهل المتفشي في العراق في محاولته تشخيص اسباب المظالم التي تقع على الاقليات ، مشيرا الى الجهل بالاخر والى نوع من عدم المعرفة بالنفس اولا مما يقود الى الجهل بالاخر الشريك في الوطن ، ومما يشيع نوعا من الصور النمطية الفاعلة في تأجيج التناحر والكراهية . ومثال هذه الصور النمطية التي اشاعها بعض المستفدين مما وصل اليه حال العراق ان الايزدي يعبد الشيطان والصابئي يعبد النجوم والشيعي رافضي والسني ناصبي والمسيحي غير موحد ، مما يدفع الى ابلسة الاخر في نظر جموع الشارع شبه الامية وتجيشيها بعضها على بعض لنصل الى المظالم التي نشهدها اليوم .
ثم بين السيد الخوئي وبجرأة طروحاته المعروفة عنه ، ان الصراع اليوم هو صراع سياسي بأمتياز ،وهو كذلك منذ الصراع العثماني الايراني على العراق وهو صراع سياسي وان كل من يحسبه صراعا مذهبيا فهو واهم ، انما اتخذ الساسة اللباس الطائفي في الصراع لتغطية المطامع السياسية لكل طرف ، وهكذا هو الحال اليوم ، ان المرجعية الدينية في النجف الاشرف لطالما طالبت وتطالب بالدولة المدنية لا الدينية ، وانا اقول أن الحل الامثل لمشاكل العراق يكمن في الاسراع بقيام دولة المواطنة التي يتساوى فيها المواطنون بالحقوق والواجبات ، وان هذا الامر لن يتم الا بأشاعة ثقافة الحوار ومعرفة الاخر من اجل فهمه لا من اجل الضغط عليه ليغير معتقده ، ومن هذا المنطلق تسعى مؤسسة الخوئي الى انشاء معهد ومركز دراسات يتم العمل على انجازه الان في مدينة النجف ، يعمل على اقامة الندوات ودعم الدراسات التي تسعى الى تعريف مكونات النسيج العراقي على بعضها البعض في حوار حضاري غير متشنج دون اقصاء او تهميش لأي جهة ، وان ابواب هذا المعهد ستكون مفتوحة للجميع للتعبير عن وجهات نظرهم وتعريف الاخر بمعتقداتهم في ظل جو من التسامح نأمل ان يسود الوطن .
ثم جاء دور الاستاذ سعد سلوم الباحث والصحفي العراقي ، وهو أستاذ جامعي يدرّس العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية، ورئيس مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية (MCMD ) ، وهي مؤسسة متخصصة بدراسة الأقليات والذاكرة الجماعية وحوار الثقافات . كما يعمل سلوم كرئيس تحرير لمجلة مسارات الفكرية الثقافية التي صدر عددها الاول في نيسان 2005، ومنسق المشاريع في جمعية الدفاع عن حرية الصحافة .
وقد ابتدأ الاستاذ سعد سلوم حديثه عبرخدمة سكايب من يغداد مشخصا ملامح الكارثة التي تحيق بنا, مبينا ان هذه الكارثة هي بداية النهاية بالنسبة للعراق ,وما هذه النهاية في نظره سوى نهاية فكرة العراق بحد ذاته, بوصفه ميراثا حضاريا ودينيا وثقافيا تعدديا غير وجه العالم القديم , ونهاية العراق الحديث الذي انطلق في عشرينيات القرن الماضي في ظل تعايش الجماعات وتأخيها. اي باختصار نهاية الوطنية العراقية المحلية المستمدة من الاعتزاز المشترك لجميع العراقيين بالتراث الغني لبلاد مابين النهرين. ان هذه الخاتمة لهي دليل على البعد الثقافي والانساني والتعددية الثقافية التي يتميز بها العراق .وقد بين الاستاذ سلوم معاناة الاقليات الدينية حيث اشار الى ان استمرار هجرة مسيحيي العراق سببها هو تبدل هوية البلاد وتحولها من بلد تميز بتنوعه الثقافي والديني الى بلد يحاولون ان يجعلوه احادي الثقافة, كما تحدث عن الاسباب التي دفعت ابناء الاقليات في العراق وتدفعهم الى الهجرة مبينا ان اهم الاسباب هو الوضع الامني والملاحقة على اساس التمييز الديني او الطائفي او العرقي والذي وصل في العديد من الحالات الى مجازر ارتكبت بحق هولاء الناس ، كما اشار الى انكسار عامل الثقة بين مكونات الشعب العراقي ، بعد ماجرى للاقليات الدينية في المدن التي سقطت بيد العصبات الارهابية من تنظيم داعش والقوى الظلامية المتحالفة معه ، مما حدى بهذه الاقليات من مسيحيين وايزديين وشبك وتركمان ان تطالب المجتمع الدولي بأقامة مناطق امنة لهذه الاقليات يتم حمايتها بواسطة قوات دولية ، وقد بين الاستاذ سعد سلوم ان مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية المعنية بشؤون الاقليات والتي يرأسها كانت ترفض مثل هذه الطروحات فيما سبق لانها ترى فيها تكريس للانقسام والتشرذم ومنعا لاقامة اي حوار يسعى الى رأب الصدع بين مكونات النسيج العراقي ، الا ان المجازر التي ارتكبت بحق الاقليات مؤخرا تجعل الحلول كلها صعبة وان احلاها مر ، فبين تفريغ العراق من الاقليات او اقامة مناطق امنة لهم تبقى الخيارات كلها صعبة .
وفي اشارة الى جهود المعنيين بشؤون الاقليات في العراق ذكر الاستاذ سلوم انه التقى برئيس البرلمان العراقي الجديد الدكتور سليم الجبوري واجرى معه حوارات مطولة بشأن امكانية ايجاد حلول عبر تفعيل بعض الخطوات للخروج من المأزق الذي يعيشه العراق منذ ما يزيد على العشر سنوات مطالبا الطبقة السياسية باستبعاد بعض الوزارات من المحاصصة الطائفية ، وهذه الوزارات هي المسؤولة عن نشر الوعي المجتمعي لتكون وزارات يديرها تكنوقراط مشهود لهم بالكفاءة ، وحددت هذه الوزارات بـ ( وزارة التربية و وزارة التعليم العالي و وزارة الثقافة و وزارة الشباب ووزارة السياحة والاثار ) ، كما طرح الاستاذ سعد سلوم اهمية موضوع اصلاح المناهج الدراسية كخطوة في سبيل اشاعة روح المواطنة وثقافة التسامح بين شرائح المجتمع العراقي .وفي ختام حديثه اشار الى اهمية السعي الجاد لايجاد حلول لمشكلة مئات الالاف من المهجرين المتواجدين في مدن العراق في ظروف غير انسانية عبر السعي الى حث مؤسسات الدولة كافة لايجاد حلول حقيقية لهذه المشكلة .
وفي ختام حديث الاستاذ سعد سلوم تم عرض الفيلم التسجيلي القصير ( الفرمان الاخير ) الذي يسلط الضوء على الكارثة الانسانية التي تعرض لها الايزديون في سنجار وقد نفذته الاعلامية جينا العمو بالتعاون مع مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية التي يرأسها الاستاذ سعد سلوم .
بعد عرض الفيلم جاء دور الاستاذة جينا العمو التي تعمل سكرتير تحرير في قناة الغد العربي للحديث عن دور الاعلام في تغطية محنة الاقليات في العراق مبينة ان الفرق بين متلقي الخبر وبين من يعمل في غرفة الاخبار كالفرق بين الفردوس والجحيم ، مشيرة الى معاناة الصحفيين العراقيين عندما يتعاملون مع نكبات ومأسي ما يحصل في العراق .
كما اوضحت العمو كيفية تناول الخبر من قبل القنوات الاعلامية المختلفة منتقدة الاداء الاعلامي الذي كثيرا ما تقاعس عن تسليط الضوء على المجازر التي تحدث في العراق او تناولها بشكل مغلوط سواء كان ذلك بحسن نية سببها الجهل بتفاصيل المشهد العراقي او بسوء نية تقف وراءه بعض الاجندات العالمية والاقليمية التي تدفع واجهاتها الاعلامية المتلقي للكثير من التشوش ، وضربت مثالا على ذلك في ان عدد من القنوات تناولت موضوع الايزديين في العراق على انهم من عبدة الشيطان مما تسبب في قتلهم على يد عصابات داعش ، وهو امر بعيد عن الحقيقية تماما اذ تعرضت كل اطياف العراقيين الى التنكيل والوحشية من قبل هذه العصابات الاجرامية التي تريد ان تطبق نظامها المتخلف الهمجي على مئات الالاف من العراقيين من مختلف الطوائف.
وأشارات جينا العمو الى الدور المهم الملقى على عاتق الضمير الاعلامي لكل العاملين في هذا المجال ومطالبتهم بالتمسك بالبحث عن الحقيقة الموضوعية وتقديمها للمتلقي بشرف ومهنية ، واشادت بدور مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية في تعريف الاعلام بمشكلة الاقليات في العراق . وذكرت ان المعلومة التي يقدمها الاعلام تلعب دورا خطيرا اليوم في حل او تأزيم الوضع في اي مكان ساخن في العالم ، فوسيلة الاعلام اليوم يمكن ان تكون سلاحا قاتلا في الصراع او يمكن ان تلعب دورا محوريا في كشف الحقائق واشاعة ثقافة الحوار وتفهم الاخر ، كما بينت الكثير مما تعانيه بشكل شخصي في مجال عملها حيث تطارد المعلومة وتسعى الى اظهارها حتى لو كلفها ذلك الكثير من التعب والدموع في مواضيع لها سمة سوداوية ما يحصل في العراق
ولأن موضوع محنة الاقليات في العراق موضوع شائك وذو شجون فقد كانت مداخلات الحضور واسئلتهم كثيرة ومهمة ، البعض منها اتفق مع ما طرحه الضيوف والبعض الاخر كان رافضا او متحفظا على بعض الاراء التي طرحت ، الا ان الجميع محاضرون وضيوف انهوا الامسية بالاتفاق على ان ما تواجهه الاقليات في العراق اليوم هو محنة حقيقية يجب على الكل العمل من اجل حلها او على اقل تقدير السعي الجاد للتخفيف من هذه المعاناة.