Justice and Freedom –
مستلزمات بناء مجتمع مدني علماني ديمقراطي في العراق .
ليست هناك إمكانية لقيام مجتمع مدني في ظل سلطة أحزاب تتفوق على سلطة الدولة والدستور. وليس هناك مثل تلك الإمكانية في ظل غياب القانون ووجود أشخاص وتجمعات قبلية أو سياسية أو دينية تعلو على القانون. فالمجتمع المدني ليس مؤسسات تنظيمية لها نشاط خارج إطار السلطة السياسية الحاكمة أو خارج إطار المجتمع السياسي أو خارج السلطة فحسب.
المجتمع المدني له تأثير مباشر على صناعة القرار. وهذا التأثير هو الذي يقرر وجود مجتمع مدني ويقرر مدى تأثيره وجدواه ووجوده في الواقع الاجتماعي والسياسي لأي مجتمع.
تكون منظمات المجتمع المدني عادة في موقع مقابل للأحزاب السياسية والسلطة السياسية ولا تأثير لهما على نشاط وتوجهات مؤسسات المجتمع المدني. والاحتواء الشائع لشعارات الديمقراطية والمجتمع المدني من قبل الأحزاب الشمولية يمنع ظهور مجتمع مدني حقيقي, ويحول المؤسسات الشكلية للمجتمع المدني الى اذرع ضاربة للسلطة أو الأحزاب كما كان الحال في مرحلة الدكتاتوريات العربية والعالمية حيث تتحول منظمات الطلبة والشباب والنقابات ومؤسسات الأديان واتحادات المعلمين والمحامين والكتاب وغيرهم الى أجهزة رسمية تحرس جبروت السلطة وتغذيه ضد المجتمع.
أود ان احل سوء فهم شائع حول المجتمع المدني والعلمانية. لا تعني العلمانية النظام السياسي الشمولي الذي لا يؤمن بالدين. ولذلك ليس لدينا علمانية في العالم العربي في ظل وجود أحزاب سياسية يسارية وقومية لا تؤمن بالدين، ولكن ليس لها من الموقف العلماني سوى شكله. فالعلمانية منظومة فكرية تعارض الشمولية الإيديولوجية, ولذلك فليست الأحزاب الشيوعية علمانية وليست الأحزاب القومية غير الدينية علمانية. فنظام التعليم مثلا في النظام العلماني ليس نظاما عقائديا يتبع إيديولوجية الحزب الحاكم وعقيدته السياسية ونظرته الشمولية الى المجتمع. أما في الأحزاب الشيوعية فنظام التعليم نظام إيديولوجي ليس حرا, إذ انه بدل ان يرتبط بالكنيسة ارتبط بالتوجديه الإيديولوجي للنظرية الماركسية بعد تحويلها الى نظرية لينينية طوباوية تنظر الى العالم على انه كل شمولي خاضع لمقررات التنظير الحزبي والرؤية اللاييدولوجية للحزب.
كذلك ليست الأحزاب القومية مثل حزب البعث أو حركة القوميين العرب سابقا أو الأحزاب العربية ذات الفكر القومي علمانية. فهي تنظر, مثل الأحزاب الشيوعية, الى التعليم نفس النظرة ومثل الأحزاب الشيوعية , تغفل مسالة الحريات وحقوق الإنسان وتحول ما بقي من مؤسسات مدنية مستقلة الى أجهزة حكومية سلطوية تدافع عن أخطاء الحكم وجرائمه ضد المجتمع.
ففي السياق العلماني هناك مسالة أساسية هي ان الحقوق ليست مكتسبة وإنما طبيعية. أي لا دخل للأديان ومؤسسات الحكم ملكية أم جمهورية, في انبثاقها أو منحها, كما لا يحق للأديان ومؤسسات الحكم مصادرتها أو تجميدها.
ومن هذا الموقف يذهب النظام العلماني الى التعليم كونه حرا لا توجيه سياسي أو إيديولوجي للدولة عليه ولا سيطرة للكنيسة عليه ولا يحق لهما توجيهه خارج العلم والتجربة.
ففي فرنسا مثلا, وبعد حقبة طويلة من الحروب الدينية التي كانت تغذيها التعاليم اللاهوتية في المدارس, وامتدت من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر, صدرت عام 1905 سلسلة تشريعات قانونية بموجبها لا تقوم المدارس الوطنية أو المحلية بأي نوع من أنواع الدعاية الدينية عبر المناهج التعليمية وفي نفس الوقت تمنع هذه التشريعات جميع المدارس الوطنية والمحلية من إجبار أي طالب على تلقي تعليم ديني.
كان المجتمع الفرنسي منقسما بسبب تلك الحروب ودوافعها التي ارتدت رداء دينيا وغذتها العواطف والحماسيات الدينية , ولعب التعليم, كما هو شان التعليم العراقي خلال الحرب مع إيران وما بعدها من حروب,دورا في تغذية النزاعات تلك.
افهم سر إلحاح على كلمة العلمانية. ففي الغرب لا تتكرر هذه الكلمة الى نادرا. أما في عالمنا العربي فهي تتردد بسبب هيمنة القوى الدينية . والإلحاح عليها بدون تطابق معناها مع مبادئها اضر , ويمكن ان يضر أكثر, إمكانية الوصول الى مرحلة فصل الدين عن الدولة , لا باعتبار العلمانية إلحادا, وإنما باعتبارها فكرا وموقفا يتعلق بتحديد صلاحية كل من الدين والدولة، وأين يلتقيان وأين يفترقان. أي صلاحية الزمني وصلاحية الديني التي جعلها رجال دين كثيرون ومسلمون أكثر صلاحية واحدة لا تفترق ولا تتغير وفق أطروحة الإسلام دين ودنيا دون ان تعني هذه الأطروحة الآيات التي تؤكد على ان الإيمان والعمل على دخول الجنة لا يعني التخلي عن التمتع المشروع بمتع الدنيا.
إنني اعتقد ان هدف الفكر العلماني في العالم العربي والإسلامي يمكن ان يتحقق ايجابيا لمناقشة الفكر الاسلامي باعتباره إنتاجا إنسانيا وليس إلهياً. أي ان الأطروحات الدينية التي أنتجها الفكر الاسلامي خلال أربعة عشر قرنا من الصراعات السياسية التي غلفت الاختلافات الفقهية والمفاهيم الدينية قابلة لان تتغير وفق مناهج التحديث السياسي والثقافي والاجتماعي التي تسود العالم.
ما هي مستلزمات بناء مجتمع مدني علماني ديمقراطي؟
تبدأ هذه المستلزمات بالشروع بمرحلة نقدية, سياسية وفكرية وفلسفية للفكر السياسي والاجتماعي السائد الذي يحول دون تحول المجتمعات السياسية الى مجتمعات مدنية. أي نقد الشمولية الايديولجية لدى جميع الاتجاهات دون استثناء. ان التنوير يبدأ من الخروج من اطر القناعات والمسلمات، كما يخرج من اطر الخوف والإرهاب الفكري . لقد خضع الفكر النقدي والتنويري العراقي والعربي لحملات إرهاب فكري نظمتها وقادتها الأحزاب السياسية المهيمنة بمساعدة مثقفين شموليين معادين للحرية والتنوير والتعددية والمشاركة السياسية. هذه حقيقة سياسية وثقافية واجتماعية جعلت النخب العربية شريكة في جريمة مصادرة الحريات وتغييب القانون واعتبار الدستور حكاية مملة. ومن المؤسف ان تكون هذه النخب قد تلقت دعما لتحقيق دورها الاستبدادي هذا من دول ديمقراطية غربية لا ترى في الديمقراطية والمجتمع المدني إلا حقا غربيا مقتصرا على الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية. فالولايات المتحدة لم تدعم أي مشروع ديمقراطي أو ليبرالي في العالم العربي. واتخذت من مفهوم العلمانية حجة لصراعها مع الإسلام. وهذه حقيقة علينا نحن الليبراليين والعلمانيين إدراكها جيدا.
تعالوا نلقي نظرة سريعة جدا على تاريخ العلمانية والمجتمع المدني في أوروبا فللمقارنة فوائدها دائما رغم رفضها من قبل مجموعات كبيرة من المثقفين والسياسيين الذين يريدون المحافظة على الاستبداد والتخلف السياسي وغياب القانون والدستور والحريات المدنية في العالم العربي والشرق الأوسط. فاسبينوزا اطل برأسه من سقف الاستبداد الديني ليخضع الدين لنقد منهجي رغم اعتقاد بعض الباحثين بان كتابه في البحث الثيولوجي السياسي يتصل بنهضة البرجوازية الأيرلندية, وخرج هوبز من دهليز الاستبداد السياسي والحكم المطلق ليعلن ان المؤسسات السياسية والاجتماعية لا يتم تبرير وجودها إلا بمقدار ما تحمي المصالح العامة وتضمن الحقوق الفردية, ليمهد الطريق نحو إضعاف الحكم المطلق وانبثاق المؤسسات على يد لاحقيه من الفلاسفة والمفكرين . فقد انتشل لوك الحكومة من حضيضها المطلق ليضعها في خدمة المجتمع وليعبر عن الثورة الانجليزية ورأي الطبقات والفئات الصاعدة نحو النهضة والتنوير حيث ظهر مؤلفه (حول الحكومة المدنية) عام 1690 بعد سنتين على الثورة الانجليزية. وأطلق لوك مفهوم التسامح ودعا الى عقلنة المسيحية وانتقد نظريات الحكم الأبوي للملوك ومجد حرية الإنسان باعتباره كائنا عاقلا فالعقل والحرية مترابطان وان غاية الفلسفة مثل غاية السياسة وهذه الغاية هي البحث عن سعادة الإنسان وتحقيقها وحمايتها.
انطلق لوك من فكرة ان حالة الملكية حالة طبيعية وهي تسبق المجتمع المدني, فالملكية خيرة للمالك وضرورية للجنس البشري ليحصل الجميع على السعادة. فالإنسان العاقل الحاذق, وليس الطبيعة وحدها, من يصنع القيمة والمنفعة في الأشياء والأدوات ويعطيها وظائفها ومنافعها.
ان لوك الذي يعتبر أباً للفردية الليبرالية وللعلمانية لا يعطي الحكم أيةُ وظيفة دينية، فهو يفصل بين ما هو زمني من اختصاص الحكومة وبين ما هو روحي خارج اختصاصها فيقول( ان كل سلطات الحكومة المدنية لا تتعلق إلا بالمصالح المدنية) منطلقا من عقلانية الحكومة وواقعيتها الدنيوية ليصل الى الدعوة الى شجب التعصب والحماس الديني في كتابه (محاولة حول الإدراك البشري) معلنا (ان السلطة التشريعية أعلى من السلطة التنفيذية) داعياً الى فصل السلطتين وعدم اجتماعهما في نفس الأشخاص( مقيدا) السلطة التشريعية بالحرية والعقل مؤكدا ( ان السلطة في جوهرها هي سلطة الحرية ) التي تقود الى السعادة بواسطة العقل.
ولكن لوك لا يترك السلطة حرة. انه يقيدها بالعدالة. فكل سلطة سياسية يجب ان تكون عادلة.
هوبز , قبل لوك, أعطى للعقل مكانة سياسية حين قيد الملك بالعقل والضمير المهني في زمن بدأ فيه نقد الحكم المطلق. وفي كتابه (الليفيتان) ينتقد هوبز الخرافات وعلم الشياطين والرقى والتعاويذ التي تعتمد عليها تجارة الكهنوت. ففي الفصل الأخير من الكتاب والمعنون(مملكة الظلمات) التي يضعها بدلا عن (مملكة الرب) التي يدعيها رجال الاكليروس والوزراء والموظفون الكبار والملك الذي يتسلم التاج من الأسقف(1) يشن هوبز حملته ضد ثقافة الخوف التي ينشرها رجال الدين وتشكل مصدر إرباحهم, ويعتبر الخوف من القوى الخفية هو الدين, منتقدا منظومة التعاليم الكهنوتية التي تشد الإنسان الى مملكة الظلمات.
(1) Hobbes.Leviathan.Pelican Classics1968.p630).)في الجزء الأول من الكتاب , الفصل الرابع عشر, يتساءل هوبز ببسالة ,عن معنى الحق الطبيعي, ومعنى الحرية والفرق بين معنى الحق ومعنى القانون, والحق الطبيعي في ان يكون الإنسان حرا في ان يفعل كالعدالة شئ ,ومعنى الواجب, ومعنى العدالة ومعنى الظلم والجور, ومعنى الحكومة, وغيرها من المعاني الاجتماعية والسياسية ذات المحتوى الفلسفي التي ساهمت بصياغة الفكر الفلسفي للنظام السياسي الديمقراطي (2)(ibid .p189-200)
لقد انشغل هوبز ببحث مشكلات فلسفية عبر الانشغال بالتاريخ أيضاً. انه يسعى الى تفكيك المفاهيم وإعادة صياغة دلالاتها السياسية والقانونية والاجتماعية. ففي بحثه حول الحق الطبيعي
ان الليفيتان هو حيوان بحري ضخم ومتوحش, وقد أراد هوبز( حجم الكتاب ضخم هو الأخر) ان يوحي بالتشابه بين الحكم وبين هذا الحيوان المتوحش. ومن عناوين كتب هوبز( عناصر القانون) و(المواطن) (الطبيعة البشرية والجسم السياسي) نلمس أسس العقل الديمقراطي الصاعد في فلسفة الحكم في أوروبا, الأمر الذي يغيب دور القانون والدستور والمواطن والفردية في الفكر السياسي العربي السائد وفي الخطاب الثقافي والسياسي في بلدان الشرق الأوسط.
لقد خرج هوبز من تصور الحالة الطبيعية التي يراها حالة حروب وفوضى وخوف وشريعة غاب, الى المجتمع المدني باعتباره خلاصة للحقوق الطبيعية ومرحلة لاحقه لمرحلة الحق الطبيعي التي نادت باستقلالية هذه الحقوق.
بعد ان فتح هوبز ولوك الباب أمام العقل والتنوير ونقد الحكم المطلق والدور الديني للحكم، ظهرت موجة التنوير عالية وتصاعد مدها مع مونتسكيو و(روح الشرائع) مؤكدا على فصل السلطات ومعتبرا الديمقراطية مثل خلفه توكفيل مناسبة للعقل. وتوكفيل هذا زار أمريكا سنة كاملة ليكتب( الديمقراطية في أمريكا) عام 1835 مؤكدا على دور الديمقراطية في التأثير على المؤسسات خاصة مؤسسات العدالة, فالمساواة أمام القانون هي الديمقراطية بعيدا عن الاعتبارات الدينية
ان كل عمل الفلاسفة والمفكرين التنويريين لم يكن ليتحقق على المستوى الواقعي ويصبح مبادئ وأسس النظام السياسي لو لم يبادر السياسيون, الأحرار والشجعان, الى تبني هذه المبادئ والأسس والإيمان بها والدفاع عنها.
ان التعددية السياسية والبرلمان والصحافة الحرة والمجتمع المدني تدين كلها , ليس فقط للطبقات التي أمنت بها, وإنما الى المفكرين التنويريين الذين خاضوا كفاحهم الفكري المرير في عصور الظلام والإرهاب الفكري, والى السياسيين الذين حملوها في الهيئات التي كانوا يمثلون مواطنيهم فيها, سواء الهيئات التشريعية أو القضائية أو الثقافية, والى ظهور مصالح جديدة لقطاعات المجتمع التي كانت متضررة من الحكم المطلق والصلاحيات الحكومية التي لا تصطدم بقانون أو دستور أو قوة رأي أو صحافة حرة أو أحزاب تعمل من اجل المصلحة العامة مجبرة بحكم قوة ونفوذ المجتمع المدني الذي ظهر رديفا للمجتمع السياسي ومعادلا اجتماعيا للسلطة السياسية.
لقد مهدت هيئات الحكم المحلي الطريق أمام نفوذ المجتمع المدني. فالنظام المركزي كان يقهر المجتمع .
لم يكن تطور العلمانية كنظام للتفكير الحر والعلمي مقتصرا على فلاسفة بريطانيا رغم أنهم هم الذين بدؤوا به. فما ان فتح الباب أمام نقد الحكم المطلق حتى ظهر من عتمة الإرهاب الفكري للحكم المطلق والكنيسة فلاسفة وكتاب ومفكرون , سرعان ما أشاعوا موجة التنوير في عموم أوروبا المظلمة. في فرنسا ظهر فولتير والموسوعيون, ديدرو وروسو ومونتسيكيو ودالامير. ومن نضال الانسكلوبيديين وفلاسفة الأنوار وأساتذة الجامعات الألمان الفلاسفة خاصة فويرباخ وهيغل تميز مجتمع جديد بدأت ملامحه تتشكل بمعزل عن السلطة والمجتمع السياسي للملك والنبلاء ورجال الدين هو المجتمع المدني الذي اخذ يتشكل في تنظيمات وأفكار مناهضة لسطوة الحكم , تعتمد على الحقوق والقانون.
ان ظهور وتطور المجتمع المدني أعطى دفعة قوية للتشكل المهني القائم على المطالب الحقوقية لفئات المجتمع المضطهدة والمهشمة والعاملة في ظروف البؤس والحرمان والتمييز. لقد كان المجتمع المدني ثمرة من ثمار العلمانية, ولذلك لن يقوم مجتمع مدني في ظل الشمولية سواء كانت وطنية أو أممية أو قومية. ويمكن مراجعة التجربة الاشتراكية للاتحاد السوفيتي السابق ومنظومته الاشتراكية في أوروبا الشرقية، لنرى عملية تغييب المجتمع المدني وحرمانه من حق العمل والنشاط, أو مراجعة التجارب القومية في العراق وسوريا وليبيا والجزائر وغيرها لنرى أيضاً كيف ان الشمولية القومية تغيب المجتمع المدني من جهة وتغيب العلمانية من جهة أخرى.
ان ادعاء العلمانية من قبل أحزاب شمولية, يسارية أو قومية وهم كبير يهين العلمانية ويشوه سمعتها ويعطي طابعها الحر لأنظمة قمعية شمولية لا تؤمن بالحريات والحقوق كما هو الحال لدى الشيوعيين والعبثيين والقوميين. ان العلمانية المزعومة لهذه الأنظمة مستمدة من ان هذه الأنظمة ليست دينية, في حين أنها تشترك مع معظم القوى الدينية في شمولية مطلقة تخضع المجتمع لتوجيهها وإيديولوجيتها وعقيدتها كما تخضع التعليم والثقافة والعمل والقانون والعدالة والاقتصاد والرأي العام لاحتكارها وسيطرتها وهيمنتها.
تشير تجربة المجتمع المدني في العراق خلال السنوات الخمس الماضية الى جملة ظواهر سلبية:
الظاهرة الأولى: ان منظمات المجتمع المدني تأسست وفق رغبة إرادية ذات طابع بيروقراطي(ادري) من قبل سلطة الاحتلال بعد صدور قرار مجلس الأمن باعتبار القوات الأمريكية قوات احتلال، الأمر الذي وجدت في هذا القرار فرصة لإدارة المجتمع المدني بشكل إشرافي مخطط.
الظاهرة الثانية: ان هذه المنظمات تعتمد في تمويلها على أموال جهات توجه هذه المنظمات توجيها سياسيا وحزبيا أحياناً مما يتناقض مع قيم ومعايير ومبادئ المجتمع المدني باعتباره مجتمعا مدنيا وليس سياسيا.
الظاهرة الثالثة: ان غالبية من يعملون في إطار هذه المنظمات من الحزبيين أو الحزبيين السابقين الذين يحملون أهدافاً إيديولوجية تخضع لتوجهات تخدم أحزاباً وتشكيلات سياسية ولا تخدم مواطنين في إطار اجتماعي وحقوقي.
الظاهرة الرابعة: ان كثيرا من هذه المنظمات تطالب الدولة برعايتها مما يخل بوظيفتها باعتبارها رقيبا على الدولة اعتمادا على القانون والدستور وقيم الديمقراطية.
هذه الظواهر تطعن في استقلالية المجتمع المدني ومنظماته, وبالتالي تلغي وظيفة المجتمع المدني وتحوله الى ذراع سياسية للقوى السياسية أو الحكومة. وبالإضافة الى ان منظمات المجتمع المدني ذات طابع تطوعي فان التجربة العراقية تشير الى أهمية الأموال والحصول عليها كمحرك لظهور المئات أو الآلاف من هذه المنظمات لأسباب مالية تؤثر على مصداقيتها وفعاليتها, بدل المساهمة الجادة والدؤبة في تحقيق عملية التحول الثقافي نحو الديمقراطية في بلد يمر بمرحلة انتقالية طبيعية وضرورية بعد سقوط نظام استبدادي حكم لعدة عقود.
لقد أثبتت التجربة العراقية ان منظمات المجتمع المدني قد خضعت لعملية تسييس فهي منحازة وتشترك في الصراع السياسي وتزج في انحيازات حزبية وإيديولوجية. ان ابرز مثل على ذلك هو قضية المرأة, فبدل ان تقوم منظمات المجتمع المدني بمتابعة حقوقية ديمقراطية لقضية حقوق المرأة فإنها أصبحت مسيسة من قبل أحزاب وقوى سياسية تستخدمها كواجهة للصراع السياسي والإيديولوجي, وكذلك قضية الدين ودوره السياسي , إذ تورطت كثير من منظمات المجتمع المدني بمواقف من الدين والقوى الدينية الحاكمة , ذات طابع سياسي وإيديولوجي بدل استخدام القانون والحق والدستور والمواطنة في نشاطها.
ان اخطر ما يواجهه المجتمع المدني في العراق هو ادلجته واعتباره جزء من الصراع الإيديولوجي والسياسي , إذ يفقد استقلاليته ومبرراته ويتحول الى اذرع للسلطة كما هو الحال في الأحزاب الشمولية إذا تصبح الاتحادات والمنظمات المدنية منظمات حزبية وسياسية تساهم في قمع الرأي الأخر وتخوض صراعا إيديولوجيا ضد الأخر من منطلقات سياسية وحزبية سواء في السلطة أو خارجها.
(1) Hobbes. Leviathan. Pelican Classics1968.p630)
(2)(ibid .p189-200)