سليمان تقي الدين
حملت الخطابات البرلمانية في مناقشة البيان الوزاري مضامين خطيرة في كل الاتجاهات. جرى تطييف السلاح وملكية الأراضي وحقوق الجنسية والحقوق السياسية والمدنية. كل تصرف من قبل المواطنين صار له التفسير الذي يجعله محل ريبة وشك وينطوي على نيات عدوانية تجاه الآخر. الخوف من السلاح ومن تملّك الأراضي ومن النشاط الاقتصادي والمشاريع الكبرى، الخوف من التحول الديموغرافي ومن هيمنة ثقافة دينية معينة.
يجري توصيف الممارسات السياسية كأننا أمام قوى حربية متنازعة ومجتمعات متقابلة، كالحديث عن الاحتلال والاجتياح والعدوان والتسلط والاستقواء. هذه جميعها ظواهر لقضية مركزية واحدة: لقد صرنا مجتمعاً ممزقاً متناحراً تحكمه الكراهية. لن نصير وطناً ودولة وشعباً ما لم ننتفض على واقع بات يدفع بنا إلى الانهيار والتفكك والضياع.
كان ماركس متهماً بالتحريض الطبقي. قيل إن الصراع الطبقي يستخدم الغرائز الدنيئة ويستنزف طاقات المجتمع. دعا نقاد ماركس إلى الوئام والتعاون بين الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة. زعم ماركس أنه لم يبتدع صراع الطبقات ولم يكتشفه بل هو وضع قوانين له تنتهي بطوبى المجتمع المثالي الخالي من الصراعات.
لكن فكرة الصراع بين البشر كانت دائماً موجودة بأشكال مختلفة، من ثنائية الخير والشر وتنافس الأديان إلى الفلسفات جميعها، حتى أن القوى المؤمنة باللاعنف تتبنى شكلاً معيناً من الصراع. وفي وقتنا الحاضر انتشرت مقولة الصراع بين الحضارات. نحن اللبنانيين ننتمي إلى أفكار ومذاهب عدة. عرفنا كل أشكال الصراع، ولا سيما الصراع الطائفي. البعض رفع التناقض الطائفي إلى مرتبة الاثنيات، هناك من تحدث عن التعددية الثقافية والحضارية.
لدى جميع الفئات مستوى من الجهل بالآخر ومن الكره له.
خلال الأزمة الأخيرة ارتفعت موجة من العنصرية استهدفت شعباً شقيقاً، لكن ما لبثت أن ارتدت إلى الداخل وتركزت على فئة مذهبية بعينها. هذه النزعة مزيج من الكراهية والنظرة الدونية ومن الخوف والشعور بالخطر. تفاعلت وتتفاعل هذه النزعة كلما طال أمد الصراع على السلطة. تتسع حالات العداء بين مختلف الجماعات وتتقوى الأحقاد والكراهية. الخطاب السياسي الاتهامي المعلن على حدته هو أقل بكثير من الأحاديث الشعبية غير المعلنة.
يراهن البعض على ثقافة النسيان والمصالحة. يعتقد البعض أن الوقائع تفرض نفسها ثم يستأنف اللبنانيون حياتهم المشتركة. يعطي هؤلاء مثلاً عن تجربة الحرب الأهلية وكيف تمت المصالحة بين الخصوم. لا شك بوجاهة هذا الرأي. لكننا لم ندخل مرحلة السلم السياسي بعد، ولا تزال القضايا الخلافية عالقة ومفتوحة على الخصومات. حجم المشكلات وتعددها وتنوعها ما زالت تلهب الخيال الشعبي. عناصر الكراهية والخوف تزداد، ليس بالضرورة في اتجاه واحد، هناك مشاعر متناقضة تصب جميعها في سياسة الانزواء الطائفي والمذهبي. لن يتفكك تلقائياً هذا الاستنفار في ظل أجواء المنافسة السياسية الانتخابية المفتوحة الآن، ولن يتفكك في ظل تراجع هيبة الدولة وقدرتها على الردع الأمني. هناك الكثير من القوى التي تشتغل على تقوية روح العصبية. ظاهرة التسلح واستخدام السلاح والعراضات المسلحة في جميع المناسبات، ترفع منسوب التحريض والتوتر. نحن بحاجة إلى مسار معاكس، إلى جملة إجراءات قوية فعالة صارمة، بعضها مطلوب من سلطة الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، وبعضها الآخر من المجتمع نفسه ومن القوى السياسية جميعاً.