إياد أبو شقرا
من سمات الحكمة التفاعل مع فكرة من دون الحاجة إلى الأخذ بها) أرسطو(جرت الانتخابات الأميركية بسلاسة. وباستثناء نوبة غباء وعنجهية من الملياردير دونالد ترامب عبر موقع «تويتر» عندما دعا مناوئو الرئيس باراك أوباما إلى «الزحف على البيت الأبيض» اعتراضا على إعادة انتخابه، تقبل خصوم أوباما النتيجة بروح رياضية. بل كان خطاب تقبل الهزيمة وتهنئة الرئيس الذي ألقاه المرشح الجمهوري الخاسر ميت رومني أمثولة في احترام الذات والانحناء لصوت الشعب والتقيّد بأصول الديمقراطية. في هذه الأثناء، في عالمنا العربي تتفنن قوانا السياسية في إحباط المواطنين أو استثارة غرائزهم والمتاجرة بأحلامهم ومصائرهم.
بعد نتيجة الانتخابات الأميركية سألني صديق عزيز ومثقف من اليمن عن «أي ديمقراطية أميركية نتكلم عندما يفوز بالرئاسة من نال أصواتا شعبية أقل من الأصوات التي حازها منافسه؟ وأين المنطق في اعتبار الأصوات الانتخابية – أو أصوات (المجمع الانتخابي) – الفيصل في المعركة؟».
سؤال الصديق اليمني دفعني لأن أشرح له ما أفهمه عن منطق النظام الانتخابي الأميركي. فقلت له إن أميركا بشكلها الحالي لم تولد كما هي اليوم مكونة من 50 ولاية تمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي. بل بدأت بمستوطنات قليلة عند بعض الخلجان على شاطئ الأطلسي في ما أصبح لاحقا ولايتي ماساتشوستس في الشمال وفيرجينيا في الجنوب. ومن ثم، عندما أبصرت الولايات المتحدة النور كدولة مستقلة فإنها كان تتكون من 13 مستوطنة، تحولت في ما بعد إلى 13 ولاية، لكل منها خصوصياتها وظروف تأسيسها.
وبمرور الوقت توسعت البلاد وكبرت، سواء عبر الاستكشافات والحروب، أو صفقات شراء الأراضي ومن أهمها «صفقة لويزيانا» من فرنسا عام 1803 التي ضمت إلى البلاد أجزاء واسعة من 15 ولاية في وسطها وجنوبها، وكذلك ضم «جمهورية» تكساس (1845) وكاليفورنيا (1850)، وانتهاء بضم كل من آلاسكا وهاواي عام 1959.
وقلت له إن الولايات الأميركية التي تعيش متساوية في ظل القوانين الاتحادية التي تغطي عموم البلاد، لديها أيضا قوانينها الداخلية على مستوى الولاية نفسها، ومجالسها التشريعية الخاصة بها. وبناء عليه، كان لا بد للآباء المؤسسين للبلاد من التوصل إلى صيغة تحترم واقعين في آن معا: الأول حقوق الولايات في إطار يصون الوحدة الوطنية، والثاني مبدأ الديمقراطية الانتخابية.
في بواكير الحياة السياسية الأميركية نشأ تياران سياسيان: الأول يشدد على حقوق الولايات، جرى التعبير عنه لاحقا بما أصبح الحزب الديمقراطي، والثاني يشدد على ترابط الدولة في ظل قوة المركز، وتجسد في ما بعد بالحزب الجمهوري. وهذا الاختلاف في التركيز أو التشديد كان وراء نشوء الحزبين الكبيرين لا مفاهيم اليسار واليمين، كما هي الحال اليوم. وبالتالي، يرمز مجلس الشيوخ (100 شيخ) حيث تتساوى جميع الولايات الخمسين بشيخين لكل منها – بصرف النظر عن تعدادها السكاني – لغاية الوحدة الوطنية الضامنة لحقوق الولايات. في حين يرمز مجلس النواب حيث تتمثل الولايات تبعا لتعدادها السكاني للديمقراطية التمثيلية الكاملة.
وهكذا، فإن المنطق من «المجمع الانتخابي» الذي تتمثل فيه كل ولاية بعدد يساوي مجموع نوابها وشيخيها، هو جمع الغايتين، أي التعبير بصورة صادقة عن الديمقراطية ولكن شريطة احترام التميز والتفرد والتنوع، ومنع خطر «ديكتاتورية الأكثرية» في كيان هو أصلا كيان تعددي ويلتزم بالتعدد وحقوق الأقليات. وحاليا هناك ولاية ذات كثافة آسيوية كبيرة هي هاواي، وولايات فيها كثافات لاتينية كبيرة هي نيومكسيكو وكاليفورنيا وآريزونا وكولورادو وفلوريدا وتكساس ونيفادا، وولايات فيها نسب عالية من السود (الأفارقة) هي ميسيسبي ولويزيانا وجورجيا وماريلاند ونورث كارولينا.. ناهيك بالعاصمة واشنطن (مقاطعة كولومبيا) حيث يشكلون غالبية السكان.
من هنا، تصبح أصوات «المجمع الانتخابي» – أو الأصوات الانتخابية – هي القرار الفصل في النتيجة، لا الأغلبية العددية المطلقة على المستوى الشعبي. وحقا، دخل البيت الأبيض في تاريخ أميركا أربعة رؤساء مع أنهم تخلفوا عن منافسيهم في عدد الأصوات الشعبية.
أين كل هذا من عالمنا العربي؟ في عالمنا العربي، بواقعه العشائري والقبلي، وملامحه المذهبية وولاءاته «الجهوية»، نرى قوى ترفض الاعتراف بوجود الاختلاف، ولقد كان هذا الرفض منذ عقود، بل قرون، وراء الكثير من أزماتنا السياسية والاجتماعية المستعصية اليوم.
عندما اعتنقنا الإسلام فإننا سرعان ما «مذهبناه» وصنفناه، وكفرنا من كفرنا، ووالينا من والينا.. واستخدمنا الدين الحنيف سلاح قتل، وجعلنا من مفهوم «الأمة الوسط» سوطا للإخضاع.
وعندما تعاملنا مع العروبة لجأنا إلى «تطييفها» أو خطفناها بعيدا نحو «الشوفينية العنصرية» التي همشت ثقافات الآخرين وهوياتهم. ثم مارسنا الإلغاء والاجتثاث ومحاولات التذويب.. لدرجة أننا صدقنا حقا أن أصل أهلنا الأكراد يعود إلى كهلان بن قحطان (والله أعلم).
وعندما خطر لنا التسلي بالاشتراكية شوهنا نبل العدالة الاجتماعية، وبنى «أدعياء» النضال الاشتراكي عندنا ثروات وقصورا رئاسية بالعشرات، وكدسوا مع أبناء الأخوال والعمومة والمحاسيب و«الشبيحة» أموال «الخوات» والابتزاز والنهب المنظم.
وعندما مرت ببال هؤلاء فكرة «تحرير فلسطين» – وسط انشغالهم (؟) بهموم تعميم الاشتراكية، طبعا – رأيناهم يزايدون ويكذبون ويعقدون صفقات السلاح.. ليس للتحرير بل لتأديب شعوبهم إذا «أخطأت» ذات مرة.. وطالبتهم باحترام كرامتها.
اليوم ما يهدد الكثير من الدول العربية بالانفجار الداخلي له علاقة مباشرة بإنكار الاختلاف والإصرار على تجاهله، بدلا من الإقرار بوجوده، ومن ثم الانتقال إلى مرحلة التعامل الإيجابي معه، على غرار ما فعلته أميركا ودول راقية تعدّدية أخرى في أماكن مختلفة من العالم.. مثل كندا وأستراليا وسويسرا وبلجيكا، بل حتى البرازيل والأرجنتين في العالم الثالث!
إن اعتماد كيانات عربية – كالعراق وسوريا ولبنان واليمن – النظام الاتحادي (أو الفيدرالي) الذي يحترم الولاءات والهويات المحلية وينظم التعامل معها بدلا من تجاهلها ومحاربتها بالسلاح.. يشكل ضمانة لوحدة الوطن وليس انزلاقا نحو التقسيم والتفتيت، في حين رأينا ماذا حصل في السودان.. وما يمكن أن يحصل في دول أخرى إذا ما استمر العناد والإنكار.
هل كان سيسقط 38 ألف قتيل في سوريا وترتفع نبرات الطائفية والأصولية في سوريا اليوم، لو اختار بشار الأسد أسلوبا حضاريا وأخلاقيا لحماية الأقليات التي أذلّها بعدما أذلها أبوه على امتداد أكثر من أربعة عقود؟
هل كان بلد كلبنان، من أجمل بلدان الأرض، ينتحر كل يوم أمنيا واقتصاديا وبشريا.. لو اعتمد فيه نظام يحترم التعددية ويصونها بمؤسسات فعالة وشفافة ومنصفة؟
أما كان اليمن سيظل «سعيدا».. بدلا من أن تضع إيران يدها على «حوثييه» في شماله، وتسرح «القاعدة» وتمرح في جنوبه؟
وماذا عن العراق حيث خيرات الأرض.. ولعنات السماء و«سيادة» أحكام الإعدام؟.. بل ماذا عن مصر التي تنقلب على تسامح 1400 سنة؟ وماذا عن الخليج العربي؟.. وإلى متى سيظل عربيا إذا أمعنا في الانتحار لأننا لا نريد سماع وجهة نظر أخرى.. لنا أن نقبلها أو نرفضها؟
ألم يحن الوقت بعد لأن نطلب العلم.. ولو من أميركا