السعد المنهالي –
حتى يوم أمس، كانت لدي قناعة تامة بأن المعلومة المكتوبة لا علاقة لها إطلاقا بالشكل الذي تقدم به، بمعنى أن أثرها واحد، سواء كانت مقدمة على صخرة مسلة أو على ورق بردي أو في كتاب أو على شاشة كمبيوتر أو نسخة لوح كنديل. هذه القناعة كنت أسردها دوماً لكل من يعلن تخوفه من التحول الإلكتروني متحججاً بعلاقتنا الوثيقة بملمس الورق ورائحته. لا سيما أني من مروجي الإعلام الإلكتروني والمبهورين به، لم أر فيه أي شائبة، فكل ما حدث هو تحول في أداة الاستخدام.. فقط، فيما تبقى المعلومة واستقبال القارئ لها على حالهما.
اعتدت قراءة المقالات والدراسات والبحوث إلكترونياً، ولم أجد فرقاً في قدرتي على استيعابها، بل على العكس كانت الإلكترونية أكثر فائدة في كونها قابلة للحفظ والبحث المفصل والاسترداد والتصنيف والفصل وإعادة الاستخدام من الأخرى الورقية، ولذا كان ميلي للإلكتروني مبرراً علمياً وعملياً أيضاً. ولكن وللحقيقة كان استيعابي يتأثر بشكل كبير عندما يتعلق الأمر بنص أدبي، كقراءة نصوص شعرية أو كتابات فلسفية أو روايات. هذا الخلل في درجة الاستقبال والتأثر بالمكتوب شرط أساسي قد يخل بذائقة المستقبل، وبالتالي لا يجعلنا ذلك نؤكد أن الورقي والإلكتروني هما فقط مجرد أداتين.
يعتقد أغلب المهتمين أن للموضوع علاقة بالاعتياد السابق لشكل القراءة، ولكن هذا غير صحيح، كوني قارئة إلكترونية منذ ما يقارب العقدين، بل وكاتبة إلكترونية فأنا لم أكتب أي نص بالقلم منذ عقد تقريباً. لذا أكاد أجزم أن السبب يعود لنوعية ما أقرأه، كون الأعمال الأدبية تحتاج قدرا أكبر من العاطفة والمشاعر في التعاطي معها أثناء القراءة لتكتمل الحالة الحقيقية للفعل، وهذا لا توفره القراءة الإلكترونية، ولكن لماذا؟ ما الذي يختلف، أليس المكتوب واحداً!
حسب ما تناولته صحيفة «الجارديان» البريطانية مؤخراً، من نتائج بحث أجري في أوروبا يتناول تأثير التحول الرقمي على القراءة، توصلت الدراسة إلى أن القراء الذين استخدموا أجهزة كيندل سجلوا مستوى أقل من قراء الكتاب المطبوع، فيما يتعلق بتذكر ترتيب الأحداث المترابطة لقصة غامضة. حيث أبدى أفراد العينتين (قراء الورقي والإلكتروني) اختلافاً في استرجاع توقيت الأحداث وإعادة ترتيب حبكة القصة، وكذلك درجة الاستغراق والتعاطف مع الشخصيات، حيث تفوق قراء الورقي في ذلك! لم تقدم الصحيفة أعمق من ذلك في تفسير الحالة. ولهذا علينا أن نتفق بأن الاختلاف في الاستجابة العاطفية للعمل أمر في غاية الأهمية، وأن معرفة المعلومة أمر يختلف عن التعاطي الشعوري والنفسي معها.
في تفاصيل عملية القراءة الورقية التي لا تتوافر في القراءة الإلكترونية، نتعامل مباشرة مع مجموعة أوراق متراصة فوق بعضها في تراتبية لا تشبه تراتبية النص الرقمي؛ هذا الأمر يؤثر في إحساسنا بالتقدم. إن إحساسنا اللمسي بكومتي الورق على جانبي الكتاب وبتكدس جانب مقابل الآخر الذي يقل بسبب تقدمنا في القراءة يدعم الجانب البصري؛ وهو أمر يؤدي إلى تفعيل عملية الإدراك لدينا (الوعي والانتباه). وهذه حقيقة علمية يمكن لأي كان التأكد منها. فالاستقبال اللمسي ينتقل عبر المسارات العصبية إلى قشرة المخ الذي يقوم بدوره في الحفاظ على درجة اليقظة الموجهة للمثير (النص الورقي).
لا توفر القراءة الإلكترونية هذه الميزة، بل أعتقد أنه يمكن تصنيفها من الأدوات المسببة للحرمان الحسي المؤثر على الجهاز العصبي، والذي يؤدي إلى اختلال إدراكنا. إذاً.. صدق من قال: إن في القراءة الورقية حميمية. ولكنها حميمية لها تفسيرها العلمي.