أ.د. محمد الربيعي-
تساؤلي اليوم هو عن المؤتمرات التي تعقدها الجامعات العراقية لاني لا اعرف بالضبط الفائدة منها، ولماذا تقيم الجامعات والكليات والاقسام مؤتمرات علمية؟ هل ان الباحثين في حاجة الى اعلام زملائهم بمنتوجاتهم، وانهم بحاجة الى وسيلة للترويج لعملهم؟ أم انه كتعويض لهم لعدم تمكنهم من المشاركة في المؤتمرات العلمية العالمية؟ ام لانه مجرد تقليد سئ لما يجرى في العالم اعتدنا عليه منذ العهد البائد؟؟
من الغرابة ان نجد في العراق هذا العدد الهائل من المؤتمرات العلمية الباهظة التكاليف بالمقارنة بالجامعات العالمية التي قلما تعقد مؤتمرات بنفسها، فالمؤتمرات العالمية تعقدها منظمات ومؤسسات وجمعيات مستقلة تستقطب فيها علماء من كل الجامعات ومن كل البلدان، وتحقق في العادة ارباح للمنظمين.
نظرة سريعة على اخبار الجامعات في صفحات الوزارة والجامعات الالكترونية نجد ان المؤتمرات العلمية والندوات تأخذ مساحة اكبر بكثير من اخبار مهمة مثل حصول باحث على جائزة علمية، اوتقدير محلي او عربي او عالمي، او اخبار عن تطوير المناهج ووسائل التدريس، او انجازات الجامعة في تحسين نسب النجاح الواطئة جدا، أو عدد البحوث المنشورة في المجلات العالمية ومستوياتها وتأثيراتها على واقع العلم والتكنولوجيا، وغيرها من الاخبار التي تدل على مدى نجاح الجامعة والتي نادرا ما نقرأ عنها. السؤال الذي لا اجد اجابة عنه هو هل ان عدد المؤتمرات العلمية هو انعكاس لكثرة البحوث العلمية واهميتها في العراق؟
الجامعات العالمية مهتمة بانتاج المعرفة، اما نشر المعرفة فهو ليس بالضرورة من اختصاصها وتبتعد في العادة عن عقد مؤتمرات علمية متخصصة، لان ذلك يتطلب منها خبرات تنظيمية وامكانيات مالية قد لا تمتلكهاـ بالاضافة الى ان عقد مؤتمر من قبل الجامعة قد يفقد المؤتمر استقلاليتة العلمية ويضمن هيمنة باحثيها في المؤتمر، مما يفقده احد الاهداف الاساسية من عقد المؤتمرات العلمية الا وهو توفير الارضية للاحتكاك بين العلماء من كل حدب وصوب. لربما لهذه وغيرها من الأسباب تبتعد الجامعات العالمية عن تنظيم المؤتمرات العلمية، خصوصا ان ما هو متوفر منها كثير جدا بحيث انها اصبحت تعد بالالاف في هذا الزمان، وكثير منها ما هو زائف وليس غرضه الا تحقيق الارباح.
في العراق والدول العربية عامة تعقد الكثير من المؤتمرات ولاغراض متعددة، فمنها ما غرضه سياسي وكل انفاق عليه يبرر من كونه وسيلة اعلامية تهدف لترويج موقف سياسي واهداف معينة، وقد تكون اغراضه ابعد من اهتمام المشاركين في المؤتمر ومنها الترويج لافكارخارج قاعات المؤتمر، وفي اغلب الاحيان لا يدعى لمثل هذه المؤتمرات الا من يتوقع منه الموافقة على المواضيع المطروحة.
المؤتمرات العلمية تختلف لانها تعقد في سبيل تعريف المشاركين على ما تم التوصل اليه من اكتشافات علمية من قبل المداخلين، وهي قد لاتهم احدا الا المشاركين الذين تدفعهم رغبة مشتركة في التعرف على التطورات العلمية في مجال عملهم والاكتشافات العلمية التي توصل اليها منافسوهم في البحث، وقبل ان يتم نشر هذه الابحاث لاحقا في المجلات العلمية، لذا تعتبر المناقشات العلمية والاسئلة المطروحة بداخل وفي كواليس المؤتمر مهمة جدا في تحقيق التفاعل الابداعي بين المشاركين، والذي يعتبر في العادة اساسا لنجاح المؤتمر.
في كثير من المؤتمرات العلمية العراقية لا تعطى فترة كافية بين موعد الاعلان عن المؤتمر وموعد عقده، ولا يتم توزيع المداخلات على أساس الأهمية بل في معظم الاحيان توزع على اساس المرتبة الوظيفية، مما يدل على انعدام الجدية والعلمية. وتتميز المؤتمرات العلمية العراقية بتقيدها باساليب وطرق محددة بعضها غريب على المؤتمرات العالمية، وقد يعود هذا إلى أن تنظيمها غير مستقل عن النظام الاداري للجامعة والدولة، فلا يمكن للمنظمين على سبيل المثال ان يهملوا دعوة المسؤولين من غير الاختصاص، ولا في جلوسهم في الصفوف الأمامية، ولا في اعطائهم فرص التحدث في بداية المؤتمر، بل ان هذا يعتبر من الامور التي تكسب المؤتمر اهمية كبرى. اما اصحاب الشأن من المشاركين فهم في كثير من الاحيان لايهتموا بالمساهمات الاخرى ويتركون القاعة فارغة بعد مغادرة المسؤولين الا من رئاسة الجلسة والمتحدثين فيها، وهم بذلك يتركون انطباعا سيئا عن مدى الاهتمام باكتساب المعرفة والذي هو لابد ان يكون الغرض الأساسي للمشاركة. المؤتمرات المحلية برأي تشجع الانتاج السيئ لان البحوث الملقاة فيها لا تخضع الى عملية انتقاء فاعلة تعتمد على تقييم عالمي.
ما يبدو لي ان هم الكثير من المشاركين هو القاءه ورقة بحثه العلمي لكي تسجل له كانتاج علمي لغرض الترقية، وفي هذا اجحاف بالحقوق العلمية لان مشروع القاء البحث في مؤتمر ونشره عن طريق المؤتمر لا يعد له اية اهمية كانتاج علمي، ولا يمكن لهذا البحث من الاعتراف به كانتاج علمي الا بعد نشره في مجلة علمية. كما ان المشاركة الشخصية في مؤتمر لها درجات من الاهمية للمشارك، فهناك المدعو الرئيسي والمدعو الاولي والمشارك بالقاء بحث والمشارك بتقديم بوستر، وهذا الترتيب تهمله معظم المؤتمرات العلمية العراقية والعربية، فكل المشاركين سواء، وكل البحوث والباحثين لهم نفس الدرجة من الاهمية.
ومن الغريب ان تتوصل المؤتمرات الى توصيات عامة كان يمكن كتابتها من دون الحاجة لعقد مؤتمر، وعادة تكون التوصيات الدقيقة والمتعلقة باهداف المؤتمر والناتجة عن المناقشات الحقيقية التي حصلت داخل المؤتمر ثانوية ولا يعير لها اهمية تذكر بالرغم من ان كل التوصيات تكون عادة عرضة للاهمال بعد نهاية المؤتمر لعدم تشكيل لجنة للمتابعة وتنفيذ القرارات.
باعتقادي ان المؤتمرات العلمية في الجامعات العراقية هي استمرار لعادة بدأت بالانتشار في العهد البائد، وبالتحديد ايام الحصار الاقتصادي، وكان هدفها غير المعلن هو التباهي بدور المؤسسة الجامعية في التقدم العلمي والتكنولوجي ودعم الاقتصاد العراقي، وفي وقت كان الباحثون العراقيين معزولين عن العالم ولم تكن بحوثهم تتعرض لاي تقييم علمي، لذا كان الاعلام يزخر تلك الايام بانباء الاكتشافات “الكبرى” على غرار عقار (بكرين وصدامين) للسرطان، خصوصا في المواضيع التي تثير المواطن العادي كانتاج الاسلحة والطاقة النووية وعلاج السرطان واكتشاف الادوية، وكان هدف البحث العلمي عند الكثير هو لغرض المداهنة والتزلف للحصول على المكافئات والترقيات وكسب رضى القيادة السياسية.
واليوم نعيش في عراق منفتح على العالم وانجازات باحثيه تنشر في المجلات العالمية، والجامعات تعيش حالة وعي لاهمية النوعية في الانتاج العلمي ولضرورة مقاربة الانتاج العلمي العالمي واستخدام نفس المعايير العالمية في التقييم فلابد في مثل هذا الوضع ان تهتم الجامعات بالانتاج الحقيقي المثمر من بحوث علمية بالمستوى العالمي وبنشريات في مجلات عالمية رصينة، وترك الاهتمام بالمؤتمرات الخاصة بكل كلية وبكل قسم وبكل مؤسسة، لانها لا تعود بفائدة كبيرة تعوض عن الجهد المستثمر فيها.
وبناءً على ما تقدم، اني ادعو الى ما يلي من المشاريع والفعاليات كبديل لمثل هذه المؤتمرات:
1- اقامة ورشات عمل لتحسين كفاءة الاستاذ والطالب، وتطوير قابلياتهم الابداعية والمهنية.
2- زيادة عدد المبعوثين للمشاركة في مؤتمرات عالمية رصينة.
3- تحسين اسلوب كتابة مشاريع البحث العلمي، وربط اهدافها بالنشر بالمجلات العالمية الكبرى.
4- تشجيع اقامة المؤتمرات العلمية من قبل مؤسسات مستقلة خارج الجامعات وبتمويل من قبل المشاركين عن طريق استحصال اجور المشاركة.
5- التقليل قدر الامكان من دعوة المسؤولين لافتتاح المؤتمرات، وعدم السماح بحضور المؤتمر من غير المدعوين والمشاركين الذين دفعوا رسوم الاشتراك، والتوقف عن دفع اية مبالغ نقدية الى وسائل الاعلام لتغطية المؤتمر، ورفض اية محاولة لاجراء مقابلة اعلامية داخل قاعة المؤتمر تشوش سيراعماله.
6- مقاومة الرغبات في وضع توصيات عامة شكلية لاعلاقة خاصة باهداف المؤتمر، ولا تتوفر الارضية الواقعية لتحقيقها في فترة ما بين مؤتمرين.