فيحاء السامرائي
أقود سيارتي الجديدة في مدينتي بغداد، ليس هناك زحام ولا اختناقات مرورية، وجميع السيطرات والحواجز الكونكريتية اختفت، وبدا وجه المدينة ناصعاً، أمامي شوارع معبدّة لا حفر فيها ولا مطبات صناعية سيئة التصميم، وأرصفة مبلطة ونظيفة، خالية من أكوام أزبال ألفها ناظرون غير آبيهن، يسير عليها مارّون وعابرون مبتسمين، ومغمورين براحة نفسية تنبعث من دواخلهم وتنعكس على محيا ومظهر كل فرد منهم، بينهم من يرتدي ملابس رياضية ويهرول، أو يقود دراجته دون أن يهزّ ناظر اليه يده دلالة استهجان ويعلّق مستنكراً، وأثناء ذلك يحيّ جار له، فيردّ هذا التحية بأحسن منها، وبمناخيرهما الكبيرتين ككل العراقيين، يقوم الأثنان باستنشاق هواء نقي لبغداد، مشبّع برائحة قدّاح نارنج وبقية أشجار أخرى متنوعة تملأ جانبي الشوارع، وتزدحم بها دور خلت من ملاحق و (مشتملات) وأعمدة دبل فوليوم، وحلّت بدلها حدائق غنّاء وملاعب للصغار غير تلك الحديدية القديمة التي تلسع حرارتها، حين الظهيرة، مؤخرات الأطفال الناعمة… وفي التقاطعات، لا ينطّ إليك عبر النافذة أحد الصبيان، حاملا أكياس نايلون للبيع، ولا امرأة تستجدي، ولا شيخ يبيع مناديل ورقية، بل وليس هناك شرطي مرور عابس، يفرّغ غضبه من الازدحام وحرارة الشمس بوجه كل سائق يمرّ، وفي الخصوص من لا يربط حزام الأمان، ولا يسامحك ويتجاوز على القانون حين تدسّ في جيبه ورقة من فئة خمسة آلاف دينار ثمناً للغداء… القانون هنا حقاً يفرض لا “يفقد” هيبته بقوة وبدون تمييز… أسأل، أين ذلك الصبي الذي يتعمد دون براءة إسقاط محتويات صينية يبيع فيها حلوى، ويروح باكياً لاستثارة عطف الراكبين والمارّين ليعطوه ما يعوضه عن خسارته؟ فأحصل على ابتسامة وجواب بأنه الآن منتظم في الصفوف الدراسية الاجبارية، تحميه دولة العراق الجديد، فأشعر بفخر واعتزاز…
لا أخفي هويتي الشيعية لمّا أذهب الى الأعظمية أو الى حي الجامعة أو حي الخضراء لكونها أحياء (سنّة قَفُل)، أو أخشى من هويتي السنية في أحياء الكاظمية أو المدينة أو الشعلة لأنها (شيعة قَفُل)… أراجع الدوائر الحكومية على (معاملة) متأخرة فأرى موظفين مبتسمين ومنشغلين بحواسبهم الإلكترونية الحديثة المتوفرة في كل مكان، ومراجعين راضين غير متذمرين، تنتهي مراجعتهم دون تسريب لرشوة أو لكلمة روح وتعال باجر، أو الموظف المطلوب توقيعه غير موجود، النظام يسود، والجميع في مكاتبهم حتى وقت الصلاة أو الزيارات الدينية… كما أن المعتقدات الدينية والطائفية أصبحت أموراً تتعلق بالفرد وحرية اختياره الشخصي، وتكرست جهود ومنافسات مَنْ في الدولة من مسئولين لأجل خدمة ورفاه المواطنين والوطن والرقيّ بهما، دون التفكير بنهب ثروات او استغلال منصب، أما قضية حفر ستمائة بئر نفطي جديد وإعطاء امتيازات ثلاثمائة منها للأمريكان والثلاثمائة الأخرى للبريطانيين، فتلك مجرد إشاعة، فهؤلاء جاؤوا بغرض مساعدة خبراء وكفاءات عراقية، ممن أعطيت اليهم الفرص في قطاعات الصناعة والزراعة والتجارة وغيرها، للنهوض وإعلاء شأن هذا البلد… نعم، نعم ، هذا البلد وليس الإمارات.
أنوي الذهاب الى شارع المكتبات، أسأل أي طريق يأخذني اليه، أحصل على جواب، أي شارع تريد؟ المتنبي، الجواهري، السياب، جواد سليم أو الشبلي؟… أقرر اقتناء كتاب من شارع المتنبي وبطريقي أزور بيت المدى الثقافي، أرى هناك وجوهاً جديدة شابّة متألقة، أبحث عن أصدقاء قدامى شابت شعورهم وخارت قواهم، أعلم أنهم تقاعدوا، وتفرغوا لحياة الراحة بعد ان عبدّوا الطريق لأجيال شابة قادرة على المواصلة وإكمال مسيرة التطور، أشعر بالاعتزاز والأمل أيضاً وأنا أشهد انتشار وتوسع دور سينما وبيوتات ثقافية أدبية وفنية ومسارح يزخر بها المكان، تكتظ بنشاطات متعددة يومية، فأقول، هذا هو شعبنا العظيم، وافر العطاء ومتجدد الفكر والبناء ومتواصل النماء، سليل حضارات وعراقة متجذرة في التاريخ، لا تنفر منه دول وشعوب أخرى، لا ترى فيه سوى التخلف والتدهور والإرهاب…
أخرج من هناك عند ملامسة شمس بغداد نهر دجلة، فأتذكر مشتريات البيت، أقترب من أقرب أسواق منزلية مضيئة، أقلّب فيها منتجات عراقية غير مستوردة، أشتري معجون طماطة بلدي، وبسكويت عراقنا، ومعلبات بابل، ورز المشخاب، وقيمر السدّة، وبرتقال الهويدر، ورمان كربلاء… وأعود محملاً بخيرات بلاد الخير، ونور يشعّ في داخلي وحولي، فالطاقة الكهربائية متوفرة وزائدة عن الحاجة، حتى أننا نصدرها الى دول الجوار…
أصلُ الى البيت، فأرى أولادي عند الحاسوب يتناقشون في واجباتهم المدرسية، يستقبلونني دون خوف وقلق عليّ من تفجير أو اختطاف بسبب تأخيري، ترحب بي زوجتي بابتسامة حلوة ولا تنشغل عني بالمسلسلات التركية وبالعرب آيدل، وتشير عليّ بأن أطلّ على والداي اللذين يسكننان جوار بيتنا، وتدعو لهما بالصحة وطول العمر ولا تطمع في إرث سيتركانه ولا بموت قريب لهما… أعلم بأنها تشترك في مسابقة من سيربح المليون كتاب، مع قريبات وصديقات لها كنت أظن سوءاً بأنهن يشتركن في مسابقة من سيصرف المليون، على المصوغات الذهبية، لتوفر العملة الفائضة لديهن كباقي الموظفات…
يأتي أليّ جاري بعد العشاء، طالباً المساعدة في إيصال قريبه العائد من الخارج الى المطار لاستقبال عائلته التي تركت بلاد المنافي وجاءت للاستقرار في بغداد، أرافقه الى هناك لقرب المكان من شقتي التي تقع في مجمعات سكنية حديثة كثر بناؤها، مجهّزة بكل وسائل الراحة وحتى الغاز السائل… ينبهر العائد، وهو واحد من كثير عائدين الى البلد، من التسهيلات المتوفرة، فلا توقفنا سيطرات بين الفينة والأخرى، ولا يعوقنا تفتيش انساني أو حيواني أو إلكتروني فاشل، ولا حضور لقوات (سوات) ولا لكلاب تتشمم الحقائب، وليس هناك احتكار موكب مسئول لطريق مسدود ولا تعقيدات، ولا حارس واقف على قدمه وجائع طول اليوم، يأمره آمر بتوفير طعام لكلاب الحراسة قبل تناول عشاءه.
هذا هو عراقي الجميل، ما أروعه!!!!
فجأة، أستيقظ فزعاً على صوت انفجار بعيد لمفخخة، وعلى آخر يشبهه، قريب، لزوجتي:
– نايم للضحى، لا شغل ولا عمل، هاي شلون شركة حكومية اللي ملفّيتك؟ ما أدري… شكو عليك؟ أخذتني أمّك خدّامة، شْوكت تموت هلمهمودة الشيب وأكَعد بالبيت الجبير؟…عود المولدة مال البيت عطلانة، انقطع قايشها، والنفط خلصان، وأبو المولّدة مال الشارع أجة يريد فلوسه، وقنينة الغاز مغشوشة وراح تخلص، وماكو عدنا خبز، والجهال ديلعبون بلاي ستيشن وميقبلون يصخّرون، والعجاج كتلنة، تارس الطرمة، وهاي الصناديق مال الكتب، اللي ما فادتك بشي، خلّيها جوّة الفراش، خلصنا منها ومن ترابها، حتى أخللي كَونية الطحين بدلها، وبعد لتنام هواية، حتى لتحلم، وإذا نمت اتغطى زين…
آه، ما أجملك يا بغداد، كنتِ على مرمى ابتسامة في حلمي، حلم منتصف ليلة صيف عراقية…
بغداد
آذار