تأليف: ساري حنفي، وريغاس أرفانتيس
مراجعة د. حميد الهاشمي
يعتبر البحث العلمي مؤشراً ومعياراً مهما للتنمية البشرية وتطور البلدان، نتيجة للأهمية المفترضة التي يقدمها لصانع القرار والجهات والمؤسسات المعنية بمخرجاته. وتوصف بلدان العالم العربي بتدني انتاجها من البحث العلمي، كذلك سوء توظيف نتائجه. ولهذه الأهمية وهذه الإشكالية كان لابد أن تُجرى مراجعات مستمرة لعملية البحث العلمي. ولعل هذا الكتاب الذي نطالعه الآن هو أحد أهم وأضخم المراجعات التي قُدّمت حتى الآن حول النتاج البحثي في العالم العربي.
من بين دوافع هذا العمل، بحث أسباب الإعتراف الضعيف بالجماعة العلمية في البلدان العربية على الرغم من كونها غنية بالجامعات والمستشفيات وإلى درجة ما بالإنتاج العلمي. كذلك بحث سؤال ما إذا كانت مشكلة التشرذم وقلة التواصل بين الباحثين والمؤسسات البحثية سواء العربية- العربية، او العربية الأجنبية، في ظل العولمة، ما إاذا كانت تبنع من المؤسسات أم أنها نتيجة سياسات ومعيقات سياسية واجتماعية عميقة أثرت في إنتاج المعرفة العلمية؟ فضلا عن أنه يُسلط الضوء على التوتر بين تدويل البحث وأهميته المحلية، وبالتالي وجود حلقة مفقودة بين البحث العلمي والجامعات والمجتمع.
إن من بين أهداف الكتاب هي: الدعوة إلى ضرورة البحث، وإلى إجراء البحوث التي ليس لديها أهداف اقتصادية أو استراتيجية مباشرة. بمعنى أنّ البحوث ذات الأهداف الإقتصادية والاستراتيجية تكون موجهة، وربما مؤدلجة، ما يَخِلُّ بموضوعيتها وعلميتها، وهما من أهم شروط البحث العلمي الناجح.
كما يطرح الكتاب تساؤلات مهمة من قبيل: لماذا غاب التفكير النقدي لبحث واقع البحث العلمي؟ ولماذا تَرك غياب الأبحاث جرحا عميقا سيستغرق سنوات للشفاء منه؟
جاء الكتاب بقسمين، الأول حمل عنوان (العوامل المؤثرة في ديناميات البحث العلمي العربي)، بينما خصص القسم الثاني لـ(التطور المضطرب للعلوم الاجتماعية في المنطقة العربية). وقد تضمن القسم الأول، ثلاثة فصول، الأول منها بحث في (الدور الحاسم للأنظمة الوطنية للبحث والابتكار). وفيه أربعة عناصر هي: أولاً: المؤشرات والبيانات في منظومة البحث العربية. وثانياً: تعبئة البيانات لتحليل العوامل، وثالثاً، الأنظمة الوطنية للابتكار، ورابعاً، الاستشعار في البحث والابتكار والتنمية.
الفصل الثاني، عمل الباحثان من خلاله على تقصّى النشر (العلمي: النمو والتأثير والتدويل)، وقد قسماه إلى خمسةِ محاورَ، هي: النمو السريع للنشر العلمي، ونمط التخصّص الملحوظ، وانخفاض الاستشهادات، وانخفاظ الأثر، والتعاون العلمي الدولي، والتعاون بين الأقطار العربية. أما الفصل الثالث،
فقد عَنى بـ(الجامعات والباحثون والشتات العلمي)، حيث حاول قراءة (الجامعة والمؤسسات العلمية والبحثية، والجماعة العلمية، والشتات العلمي المتمثل بهجرة العقول واحتمالات عودتها). على أن الفصل الرابع إتجه إلى تناول (ممارسات البحث في لبنان: المؤسسات والتدويل)، وذلك من خلال مراجعة النتاج العلمي والركائز الأساسية والسياسات البحثية الوطنية وأطر التعاون الدولي ومحاولة اعطاء صورة مقارنة ذلك بالأردن.
القسم الثاني من الكتاب جاء تحت عنوان (التطور المضطرب للعلوم الاجتماعية في المنطقة العربية). وقد قُسّمَ الى ستة فصول، مُكملة التسلسل لسابقاتها في القسم الأول. فالخامس تتبع (تطور ومكان انتاج العلوم الاجتماعية)، وذلك من خلال (مواقع انتاجها، واسقاط تصنيف بوراووي على المنطقة العربية، والأنشطة البحثية المجزأة). أمّا الفصل السادس، فقد استطلعَ (الكتابة السوسيولوجية العربية) من خلال حالة (كُتّاب مجلة إضافات (1) ، والموضوعات المدروسة). على أن الفضل السابع، حاول تقييم واقع (البحوث الاجتماعية واللغة) من خلال محاور (التدويل الإشكالي، ولغة التدريس، ولغة البحث، وصعوبة استخدام المراجع العربية والأجنبية). في حين حاول الفصل الثامن الإجابة عن سؤال (مَن يقتبسُ مِن مَن؟) وحاول تَتَبُّعْ ما كُتبَ عن (الانتفاضات العربية في البحث العلمي). وإلى ذلك قُسم الفصل إلى خمسةِ محاور هي: (العلامات السوسيولوجية للمقالات(2)، والتأليف، والإقتباس والكلمات المفتاحية، وتحليل الشبكة والإقتباس، وتحليل نوعي للانتاج الأكاديمي العربي).
الفصل التاسع جاء تحت عنوان (نحو فهم كتابة الأكاديميين العرب للعموم: حالة مقالات الرأي في الصحف اللبنانية)، وفيه تم تناول: (من يكتب في الصحف؟، وأساليب التعبير التأملي والاستفزازي والمواطن، والموضوعات: غلبة السياسة، وكتابة مقالات الرأي: الأهمية والتحديات، والصحف والأكاديميون في المجال العام). وخَصّصَ الباحثان الفصل العاشر لـ(الخاتمة) وفيها خمسة أجزاء، هي: نماذج التنمية في المنطقة العربية، والثقة بالعلوم، والبيئة الاجتماعية، والعلاقة بالمجتمع، واخيراً التوصيات)، وفيها قدما (رُؤية للمستقبل). على أن الكتاب قد تضمن ملحقا بالمؤشرات البليومترية في المنطقة العربية.
وقد حفل الكتاب بالعديد من الجداول والأشكال التوضيحية التي تُبَسّطُ الأحصاءات التي حصلا عليها لتُسندَ هذا العمل العلمي الشيق.
منهجيا يقوم الكتاب على تقصي النتاج العلمي العربي في مجال العلوم الاجتماعية، وذلك باعتماد دراسة الحالة أو النموذج، وهنا نَجدُ كيف لجأ الباحثان إلى اعتماد (لبنان والأردن) كنموذجين للمقارنة، ومن جانب آخر اختارا (حالة) مجلة إضافات، باعتباره مساحة نشر (نموذجية) للباحثين العرب في مجالات العلوم الاجتماعية. وفي نفس الوقت لم يقع الباحثان أسيري حالتي الدراسة هاتين، فقد انطلقا في إيراد العديد من الجداول والإحصائيات والمؤشرات التي تبين واقع البحث العلمي في العالم العربي، وعقدا المقارنات البينية تارة، وتارة أخرى بين البلدان العربية وبعض أقاليم وبلدان العالم الأخرى لتبيان موقعنا منها. وهكذا تجد مُقارنات بين البلدان العربية، ومناطق أخرى مثل أميركا اللاتينية.
يعتمد الباحثان (منظور وطني، من خلال استطلاع نظم البحوث في البلدان العربية التي اعتمدت كدراسة حالة، ومن خلال بيانات يونيسكو وتقارير التنمية البشرية
…………………… …………
أولى الكتاب أهمية للتعاون الدولي في مجال البحث العلمي، ورأى انه يؤدي دوريا بنيويا في البلدان ذات الموارد الشحيحة، وذات التجربة التاريخية القصيرة، او نظم البحوث الاقل تنوعا. كما يعتبره العنصر المؤسس للمجتمع العلمي المحلي جنبا الى جنب مع جهد اكثر محلي لهيكلة المنتديات العلمية المتخصصة والنشر وإدارة الموارد. بينما رأى ان البحث الفردي يتسم بالشرذمة، حيث المشاريع السريعة من قبل باحثين يلهثون وراء كسب فرص التمويل. يتصرف هكذا الاكاديميون والباحثون كجبواستراتيجيين في تخصصاتهم من خلال تحديد الجهات الفاعلة الرئيسية، واوجه التعاون الممكنة معهم. ولكن ايضا كرياديي البحث (Entrepreneurs) لادارة الموارد بشكل دائم (الافراد، والدكتوراه، ومرحلة ما بعد الدكتوراه، والمال، والمعلومات).
نتائج مقترحات:
كتأكيد على أهمية البحث العلمي والجماعة المشتغلة به، يخلص الباحثان إلى ما يعتبرانه من بين الاستنتاجات الرئيسية لعملهما هذا إلى: أن الجماعة العلمية في عصر (العِلم الوطني National Science) قد وُلِدَتْ بعد إنهاء الحقبة الإستعمارية… لتشكّل نمط وطني للتنمية العلمية، وقد روّج لاستراتيجيات إحلال الواردات والاعتماد على الذات في السياسات الإقتصادية العامة، كما أدار تنظيم العلم وتوجهات أهداف الجماعة العلمية.
يؤكد الكتاب على دور العولمة في تطور العلم وتعظيم دوره كما وكيفاً وفاعلية وتأثيراً، كذلك جانب التعاون الدولي، ومكانة الباحث نفسه فيه. ولهذا يستنتج الباحثان أن الباحث قد “أصبح بطل التعاون الدولي، من خلال اتخاذ القرارات، حيث المصالح الفردية ستكون المحرك الرئيسي. ويستند تفسير ذلك إلى فكرة أن الفرد يتعرف إلى المتعاونين ذوي الاهتمامات المشتركة، وأنه قادر على تقييم النتائج المتوقعة من التعاون المخطط لها واستغلالها”. (ص 23).
من بين نتائج البحث، هي ان “قلة وشكل وطبيعة بعض الابحاث ليست عائدة الى -قلة الموارد- انما بسبب عدم وجود الجراة وعدم التنظيم، وضعف الجماعة العلمية وغياب استقلاليتها”. (ص35)
ويقترح الكتب من بين الحلول لاشكاليات البحث العلمي في مجتمعاتنا هو “جذب الشباب الى البحوث وزيادة الوعي حول حقيقة انه لايمكن شراء كل شيء من خارج حدودنا وان البحث الحقيقي والاصلي هو الاساس من اجل الاستقلال الاقتصادي والسياسي والثقافي”. (ص35)
كما يقترح تفعيل نقاش واسع وعميق حول وضعية البحث العلمي في البلدان العربية.. نقاش حول كيفية عمل البحوث وديناميتها.
نقد:
لم يتوفر الباحثان على بيانات دقيقة حول بعض البلدان العربية مثل العراق رغم عدم تركيز البحث عليه، ولكن قدر تعلق بعض المقارنات الواردة، ولعل ذلك مرتبط بالصورة الذهنية حول ضبابية الوضع وربطها بالحالة الأمنية. وكان عليهما اللجوء إلى مصادر متنوعة منها الإتصال بجهات معنية بالبحث سواء تلك التابعة للمؤسسات الحكومية أو المستقلة، وهي عديدة بعضها يعمل من خارج البلد.
عموما يطرح الكتاب صورة غير مضيئة عن واقع البحث العلمي في البلدان العربية، ذلك بناء على معطيات الواقع، سيما في مجال العلوم الاجتماعية، ذلك بحكم قلة الإنفاق على مجالس ومراكز البحث العلمي المتخصصة في هذا المجال، وأن ما يقدم لها من قبل حكومات بلدانها ما هو إلا (ذرٍ للرماد في العيون) كما يقال. وبالتالي.
جمع هذا الكتاب بين دفتيه أرقاماً إحصائية حديثة، وشهادات إثنوغرافية، وتفاصيل السِّير الذّاتية والمهنية للباحثين العرب، تنشر للمرة الأولى وتقع في قسمين: ممارسة وامتهان البحث وأنظمة العلوم العربية والمعرفة المنتجة في جميع التخصصات، والتركيز بشكل خاص على العلوم الاجتماعية. ويتناول هذا الكتاب أسباب الاعتراف الضعيف بالجماعة العلمية في البلدان العربية، على الرغم من كونها غنية بالجامعات، وإلى درجة ما بالإنتاج العلمي. ويتساءل عمّا إذا كانت مشكلة التشرذم تنبع من المؤسسات أم هي نتيجة معيقات سياسية واجتماعية عميقة أثرت في إنتاج المعرفة العلمية. كما يسلط الضوء على التوتر بين تدويل البحث وأهميته المحلية، وبالتالي وجود حلقة مفقودة بين البحث والجامعات والمجتمع. وينتقد بشدة اختزال الأنشطة البحثية على الإنتاج العلمي المحض، حيث تهمل المواد الناتجة من ترجمة المعارف الى أشكال أخرى، كتقديم المشورة بشأن السياسات والأنشطة العامة. ويطوّر الكتاب بعض الأطروحات حول وضعية البحث العربي وتوصيات حول مستقبله، بحيث يستفيد منه مختلف أصحاب الشأن المهتمين بذلك (الجماعة العلمية وصنّاع السياسات والجمهور).