عبد الله الرشيد –
الهوية لا يمكن أن تؤخذ كوصفة جاهزة، أو أنه يمكن لأي مجموعة اجتماعية أن تصنع ما بدا لها من هوية
يؤمن “دينيس كوش” في كتابه (مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية) أن دراسة ظاهرة المهاجرين تؤدي بنا إلى أن ندرك مباشرة وعمليًّا كيف يتم انطلاقًا من التواصل البشري، المزج الذي يفضي إلى تشكل ثقافي جديد جامعًا
القديم والحديث في نسق عميق التفرد. كوش يؤكد أن الثقافة لا تنتقل عبر الجينات، وليست متاعًا يمكن نقله عند التنقل، أو يمكن حمله كما تحمل الحقيبة، فالأفراد عندما يهاجرون هم محمولون على التأقلم والتطور، إنهم يلتقون أفرادًا آخرين ينتمون إلى ثقافات مختلفة، وتنبثق من هنا التماس صياغات ثقافية جديدة.
القلق من الصياغات الثقافية الجديدة.. هنا المشكلة، وهنا تبدأ العقدة بين كلا الطرفين (الثقافة المهاجرة) و(ثقافة الأصل) -إن صح اعتبارها ثقافيًّا- هناك من ينفي أساسًا وجود “ثقافة أصل”-، فالفئات المهاجرة تريد أن تنقل ثقافتها، وتسعى جاهدة للحفاظ على موروثها بين أبنائها، إنها تريد أن تميز نفسها وتحمي وجودها بذلك، وبالمثل أبناء ثقافة البلد “الأصل” يريدون حماية ثقافتهم من التبدل والتجدد والتأثر بثقافة المهاجر الغريب.
يبدأ الصراع والتدافع حين تبدأ الثقافة المهيمنة بتسيد المشهد، وصبغ الهويات الأخرى بطابعها، وكردة فعل طبيعية يؤدي ذلك إلى إحياء روح العودة والتمسك بالجذور لدى الهويات الفرعية الأخرى التي بدأت تخشى بوضوح من ذوبان هويتها، واندثار تقاليدها، فتبدأ هذه الهويات في اتخاذ إجراءات جديدة، عبر تعزيز حضورها بين أبنائها، واختراع حواجزَ جديدة بينها وبين الهويات الأخرى المتعددة حتى تحمي بقاء ونقاء هويتها.
هذه الإجراءات تتنامى بشكل عكسي مع الانفتاح الإعلامي والتواصلي، والتفاوت الطبقي بين الهويات، فتترسخ سياسات مقاومة الاندماج، وتتكون مجموعات اجتماعية منغلقة على ذاتها، مهما كان انفتاحها مع الغير إلا أنها تعيد دائمًا –وبوضوح- حدود السقف النهائي للانفتاح مع الهويات الأخرى، هذا الانفتاح والتعايش الذي يجب أن يتوقف وينتهي عند حدود المصاهرة والزواج أو الشراكة وغيره.
ولكن مهما بلغت الجهود التي يبذلها المهاجرون للبقاء أوفياء لثقافتهم الأم فإنهم سيبقون بعيدين عما آلت إليه تلك الثقافة منذ رحيلهم، فهم غالبًا لا يعرفون الكثير عن التغيرات الثقافية أو المادية التي حصلت فيها خلال غيابهم، ولذلك هم يسعون للحفاظ على ثقافة مشوشة يتم تناقلها عبر المرويات والحكايات التي بتناقلها الأجيال المهاجرة، دون أن تعايشها فعلاً.
أي حديث عن ثقافة وهوية نقية صافية نابعة من مركز أصلي يبقى مجرد وهم أو “حلم” لا وجود له إلا في الأذهان. الثقافة تتطور والهويات تتشكل تبعًا لحركة المجتمع، وتنقل الإنسان وتمازجه وتدافعه
يؤكد “دينيس كوش” بأنه يوجد دائمًا داخل أي فضاء اجتماعي تراتب ثقافي، لم يخط “كارل ماركس وماكس فيبر” بتأكيدها على أن ثقافة الطبقة المهيمنة هي دومًا الثقافة المهيمنة، لا يعني ذلك تفوقًا ذاتيًّا في ثقافة الطبقة المهيمنة، أو أن لها نوعًا من التفوق الكامن، بل الأمر يعود إلى التنافس الخاص بين الهويات والثقافات، والقوة الاجتماعية بالنسبة للجماعات التي تسند الثقافة المهيمنة.
ما بين كندا وأمريكا نموذجان متقاربان متنافران، كلاهما أرض حديثة تأسست على أيدي المهاجرين، أمريكا نجحت في صناعة هوية وإرث وتقاليد جامعة خاصة بها، من أجل دمج هويات المهاجرين المتنوعة في داخل هوية وطنية شاملة، وإن كان الأمر تم بخطوات تاريخية متدرجة، ومازالت هناك هيمنة من نوع ما لهوية الرجل الأبيض ذي الأصول الأوروبية، إلا أن نجاح الهوية في الداخل جعلها جذّابة للتصدير والترويج للخارج، استوردت كندا الهوية الأمريكية “الناجحة”، لكن الوصفة ذاتها لم تعمل جيدًا في بلد يحوي ذات التنوع الثقافي الموجود في أمريكا؛ فنشطت الهويات المهاجرة في مقابل هوية الدولة الحديثة، وتطور الأمر إلى دعوات ومطالبات جادة بالانفصال والاستقلال كما يحدث في مقاطعة الكيبك الكندية الناطقة بالفرنسية.
ربما سبب ذلك يعود إلى أن الهوية لا يمكن أن تؤخذ كوصفة جاهزة، أو أنه يمكن لأي مجموعة اجتماعية أن تصنع ما بدا لها من هوية، ثم تسعى لفرضها على المجموعات الأخرى. فعمق الهوية وثقلها وتعقدها داخل المجتمع يعود إلى ظروف تاريخية وصراع متواصل بين مجموعات مهيمنة وأخرى تابعة أو مهيمن عليها. يؤكد ذلك عالم الاجتماع الفرنسي “بيار بورديو” أن الهوية هي رهان صراعات اجتماعية حول “الترتيب”، تستهدف إعادة إنتاج علاقات الهيمنة أو قلبها. فـ”الهوية تُبنى، وتُهدم، ويعاد بناؤها وفقًا لوضعيات الصراع بين القوى الاجتماعية. إنها حركة دائبة، إذ يحملها كل تغيير اجتماعي على إعادة صياغة نفسها بطريقة مغايرة”.
ولذلك مهما حاول المهاجرون الحفاظ على ثقافتهم الأم، فإن طبيعة الجيل الثاني والثالث من أبنائهم سوف يطالها التأثير الحاسم بثقافة البلد الذي استوطنوه، كما أن المهاجر سوف يطبع بثقافته وتقاليده على حالة البلد الجديد الذي استوطنه.
وهكذا أي حديث عن ثقافة وهوية نقية صافية نابعة من مركز أصلي يبقى مجرد وهم أو “حلم” لا وجود له إلا في الأذهان. الثقافة تتطور والهويات تتشكل تبعًا لحركة المجتمع، وتنقل الإنسان وتمازجه وتدافعه.