لؤي حمزة عباس –
تعمل السيرة الذاتية في صورة متقدّمة من صور التعبير عن قلق كاتبها في مواجهة النسيان، وفي محاولة منها للإنصات إلى صوت الدواخل الانسانية الذي تغيّبه عادةً قعقعة الوقائع اليومية، على إنتاج (القرين) صورة أخرى تتلبّس الذات وتواصل حوارها وقد انشطرت ذاتين،
{سيرة الرماد} ليحيى الشيخ (2 ـ 2)
لؤي حمزة عباس
تعمل السيرة الذاتية في صورة متقدّمة من صور التعبير عن قلق كاتبها في مواجهة النسيان، وفي محاولة منها للإنصات إلى صوت الدواخل الانسانية الذي تغيّبه عادةً قعقعة الوقائع اليومية، على إنتاج (القرين) صورة أخرى تتلبّس الذات وتواصل حوارها وقد انشطرت ذاتين، تقع الأولى منهما في مجرى الحدث، حيّةً فاعلةً، وتتخلل الثانية مراياه، تختبئ في أصدائه وتغيب في ظلاله وحواشيه، إنها تهيئ من غموضها ما يخفّف من قلق الكتابة ويعزّز حضور السؤال في تضاعيف السرد، إن مجهوليّة القرين وهي تقابل معلومية دوره تمنح حضوره أهميةً مضاعفةً، وتهيئه لإنتاج قول مغاير كما تُسهم بزعزعة يقين الذاكرة بما تعمل على استعادته من وقائع وشخصيات.
أوهام الوعي الذاتي
إنها اللعبة المثلى للانتقال بالشك إلى مرحلة أكثر تأثيراً في مجرى الوقائع المدوّنة، لنكون عندئذ أمام نوع من مقابلة ضديّة تُسهم الذاكرةُ فيها بالدرجة التي يُسهم فيها النسيان، إنهما معاً يؤديان المهمة الأساس للسيرة الذاتية: إعادة بناء عالمنا الخاص والشهادة عليه عبر إعادة انتاج وقائعه، مثلما ستقدّم آلية القرين فرصة مثاليّة للتغلّب على أوهام الوعي الذاتي وأحكام مثاليّة الوعي ليقود كلٌّ من الشك والقلق صاحب “سيرة الرماد” للتفكير بإنتاج ذات مقابِلة، فاعلة ومؤثرة، تُسهم إلى حد بعيد في توجيه الكتابة وهي تراقب أفعال الذاكرة وتختبر مروياتها: “في هذا المنحى يبدو لي أن عليّ انتاج ذات من طراز آخر.
ذات متسامية تُعاين ذاتها القديمة بعدالة، وترمّم ذاكرةً بُترت أطرافها ونجت بما تبقّى.ذات لا تاريخيّة”. إن إدراك دور القرين بوصفه ذاتاً لا تاريخيّة سيخفف من رومانسية الفكرة ويقلّل من مثاليتها لأنها ستغدو ذاتاً مراقِبةً تتخلّل زمنية السيرة وتنفصل عنها في الوقت نفسه، إنها النظرة التي تتجاوز قدرات راوي السيرة المحدّدة في موقع واحد لتشغل بدورها موقعين، داخل مجرى أحداث السيرة وخارجها، مكتسبةً حيويةَ موقعها من طبيعة مادتها الغريبة المراوغة، إنها نظرة القرين الصريحة والكاشفة، فالقرين يتشكّل من مادة الذات، من مخاوفها وهواجسها وأحلامها وأمانيها، لكنه لن يكتمل إلا بانفصاله عنها ليُصبح مرآتها، إنها الفكرة التي تسعى لإنجاز مقاربتها بين التخيّل والوهم، بين الابتكار والنكوص، وهي تستعير من ذاتها ذاتاً، وتهيئ من صوتها صوتاً، وتشتقّ من صورتها صورةً قادرةً على مكاشفة الذات والتعبير عن قلقها، إنها أرض السؤال التي تنبثق منها آليةُ القرين، تولدُ وتتبرعمُ مع استهلال السيرة، وتنمو وتورق وسط متاهةِ النظرةِ وغيابِ اليقين، ليؤدي القرينُ دوراً مؤثراً في إيقاف تتابعية السرد وتغيير مساره أحياناً وهو يعمل في كلِّ مرّة يتجسّد فيها على تعطيله والانشغال بقلق الراوي، إنه آليّة محرّضة تعتمدها السيرةُ لتوسعة نظامها الدلالي وإغناء عالمها وهي تواجه صدقية ما يُروى مقترحةً السؤال سبباً آخر يُضاف لمساقٍ سببي ينظم سردَ السيرةِ ويؤالف بين عناصرها.
مع القرين تقلُّ قدرةُ الفاعل المركزي ويُراجع يقيُنه بذاته وبما يروي، ترتبك يده وهو يقبض على مقود تأريخه الشخصي، ويتلعثم لسانه وهو يروي وقائعه الماضية، القرينُ لعثمةُ السيرة، مسوّغها للنزول من سطوح المروي إلى قيعانه بحثاً عن إدراك أعمق للتجربة الفردية وهي تتشكّل عبر منظومة من الوقائع والشخصيات، بما يوسع من رؤيتها لذاتها وللعالم.
“ـ يتدخّل قريني على عادته في كلِّ ما أفعل وأسمعه يتشدّق:
ـ أنت تقلقك النهايات وتخاف صورتها.
أقاطعه لأسدّ الطريق عليه ولا يكمل خطبته، فأنا أعرف وسائله الخبيثة في تعذيبي.
قلت له ولأشبع غروره:
ـ صدقت! لهذا فشلت أن أصبح كاتباً.
وهذا ما كان يرمي إليه، أن أعترف بفشلي وأنا صاغر”.
القرين
لا يمرّ القرين في “سيرة الرماد” على نحو خاطفٍ ولا يترك ظلاً عارضاً على الذات وهي تسعى لمواجهة تجربتها ورواية قصتها، بل يُصبح ركناً من أركان المواجهة ووجهاً فاعلاً من وجوه التجربة وصوتاً مسموعاً يتخلّل صوت الراوي كاشفاً الكثير من كوامنه، ليتجلّى في أحيان عديدة حامياً ومخلّصاً وهو يشكّل مركزاً سردياً يمنح سرد السيرة وجهاً من وجوه الكفاءة.
الأمر الذي لا يقف عند حدود الذات ولا يتماهى بانشغالاتها، إنما يتعزّز ويرتقي في الحديث عن الآخر بحثاً عن قرينه، فلا تكتفي سيرة يحيى الشيخ باستحضار الآخر وتبيّن أثره في تشكيل الذات ـ كما في الفصل المعنون (سهيل وقرينه) ـ بل تمضي أبعد من ذلك من خلال البحث عن قرينه حيث يغدو القرين مناسبةً لإدراك الآخر ومحاولةً في فهم أثره.إن الكتابة عن سهيل سامي نادر، الناقد التشكيلي والصحفي، صديق صاحب السيرة الذي فارقه منذ أربعة وثلاثين عاماً، تمنح السيرةَ عبر دراسة التخطيط الشخصي المنجز من قبل صاحبها مساحةً للخروج من الذات إلى الآخر، ومن الآخر إلى قرينه: “بدأت ملامح قرين سهيل سامي نادر تظهر على قماش اللوحة: رأس مقطوع يذكّر برأس يوحنا المعمدان في الصور الكلاسيكية، هل ينتمي سهيل إلى هذا النبي بصيغة ما؟ لا أعرف”.
إكمال الناقص
تحاول السيرة الذاتية إكمال ما تركناه ناقصاً وراءنا وهي تروي قصة حياتنا على نحو منتظم، واضح، ومنطقي، لكنها سريعاً ما تهدم قناعاتنا وهي تدوّن اعترافاً ترصد فيه طبيعة العلاقة بين حاضر الكتابة وماضي الحياة، إنهما مشهدا حياة تُعيد السيرة تقديمهما في مشهد واحد أثير “أصبح حاضري عبارة عن بواقي ماض تختلط ببعضها، فيصعب تقدير نسبها، ويتعذّر عليّ فرزها، حاضر يجرُّ وراءه ماضيا ناقصاً يعبر إلى مستقبل غير مكتمل، لم أبدأ تماماً ولم أنته تماماً. حرف وصل بين جملتين، بين حياتين: هذه صورتي”، مثلما تُنتج طبيعة النظر لمجرى الزمن تصوراً عن الذات بين زمنين، يتجلى الحديث عن الذات المرويّة من خلالهما بوصفها آخر. ثمة اثنان في “سيرة الرماد” يتقاسمان الحكاية: صبي راحل ذو ثمانية أعوام، وشيخ رصيده من الرحلة، حتى لحظة الكتابة، سبعة وستون عاماً، هو الذي يُعلن شكّه بما يروي، فبين الإقامة والرحيل تؤسس السيرة قصتها وتنظم مجريات وقائعها.