قصر شعشوع في مؤسسة الحوار الانساني بلندن
قدمت الدكتور فاتنة الهاشمي يوم الأربعاء 15 تشرين الثاني / نوفمبر 2017 في مؤسسة الحوار الانساني بلندن محاضرة شيقة تناولت فيها سيرة اثر عراقي عبر رحلة في تاريخ المكان،حيث تناولت “قصر شعشوع” وتاريخه منذ إنشائه وحتى الآن،. وقالت الهاشمي في بداية محاضرتها إن هذا القصر يعد معلماً من معالم العمارة العراقية من جانب، وكان أول قصر لاول ملك في تاريخ العراق الحديث الملك فيصل الأول، كما سكنه بعد ذلك شخصيات وطنية مهمة مثل الزعيم الوطني جعفر أبو التمن في فترة لاحقة.
المقدمة
اشارت د. فاتنة الهاشمي أن بغداد احتضنت عبر تاريخهامعالم تراث رائع وعريق تزينت به حتى كان لها سمه خالده يزداد جمالا كلما استيقظت عليه ذاكرة الزمن ومن معالم تراثها قصر شعشوع الذي تحاكي زخارفه صباحات بغداد المتناغمة مع ضفاف دجلة ونسماته العبقة .
ولطالما حلمت ان اراه واتجول في اروقته فتحقق لي ذلك، وبعد زيارتي الاولى للقصر واعجابي به وددت ان اجري دراسه ميدانية عنه لكونه ارثا حضاريا لبغداد الحبيبة ومما زاد اهتمامي به تواصلا ان خالي جعفر ابو التمن قد سكنه لمده ثماني سنوات وقد اجرى عليه بعض التعديلات والاضافات في الفترة التي كان يسكن فيه بعد ان هوت بعض اركانه المطلة على نهر دجلة بسبب الفياضات المتكررة، فكانت لأمي فيه من ذكرى جميلة لكونها قد زفت الى بيت الزوجية من هذا القصر. ورغبة مني في تقديم نبذة عنه اضع هذا الجهد المتواضع بين أيديكم املة ان ينال استحسانكم ورضاكم ..
هذا القصر بني في الفترة الممتدة بين عامي 1906 و1908، على يد الثري اليهودي العراقي شاؤول شعشوع، وتمت إعادة إعماره أكثر من مرة خلال الأربعينيات والخمسينيات، ومن ثم سكنه أيضاً لفترات عدد من وجهاء بغداد آنذاك من بينهم إبراهيم النقيب، وصبيح نشأت وشاكر الوادي واستخدم أيضاً كنادٍ لفترة، وذكرت د. الهاشمي موضحة أن خالها المرحوم الحاج جعفر أبو التمن كان قد استأجر القصر المذكور لسنوات عديدة لسكنه، وكان رسم إيجاره السنوي (150) دينارا سنوياً. وفي سنة 1952 استملكته عائلة بيت بنية بمبلغ خمسة آلاف دينار عراقي وما زال في عهدتها حتى الآن.
وقد عرضت الهاشمي عشرات الصور للقصر، خلال المحاضرة مؤكدةً أنه كان رمزاً من رموز الفخامة العمرانية، إذ بني على مساحة 4 آلاف م2، ضاع منه بحدود ألف م2 في الفيضانات التي اجتاحت بغداد في خمسينيات القرن الماضي، إلا أن القصر ما زال محافظاً على بنيته المعمارية البادية في الزخارف التي حفرت بشكل يدوي في أغلب جوانب القصر، فضلاً عن الحديقة التي صممت بإتقان، وبتنسيق ينم عن ذوق وفخامة قصر كهذا.
قصر شعشوع
مازال البغداديون يرددون المثل الشائع، عندما يشرع أحدهم ببناء بيت له، وقد أنهكه وأستغرق وقتا طويلا في بنائه، فيقال له (قابل دتبني قصر شعشوع) حقا.. أنه مازال شاخصا الى الآن، فهو قصر مطل على نهر دجلة في منطقة الكسرة بجانب الرصافة، ذلك القصر القديم الذي عرف في بنائه ولأول مرة في بغداد، (الطابوق الآجر والسمنت والشيلمان)، حيث كان يستخدم في بناء البيوت، الطابوق المصنوع من الطين أو مايسمونه (اللبن) ويسقف بالصرائف والبواري الخشبية. ورغم شيخوخة القصر، ومضي
(110) اعوام، على بنائه ، لكنه مازال شامخا ويافعا بفخامته وروعة غرفه الفارهة، المرتفعة سقوفها، والمحاطة بالشبابيك من كل جوانبها، وبالكوناتها وشرفها، وشناشيلها العلوية المتكئة على الأعمدة الدائرية المنقوش على رأسها، رسوم هندسية متناسقة في التصميم على غرار الطراز البغدادي القديم.
صاحب القصر، مازال الى الآن، يبذل جهوداً مضنية، للعناية بحديقتي القصر، الأمامية، والخلفية المطلتين على دجلة، كأنهما لوحتان فنيتان غاية في الروعة، من تناسق ألوان الزهور المحفوفة بأشجار المتسلق والظل النادرة، فيما يقع على الجوار من قصر شعشوع، البلاط الملكي، حيث كان يتخذه الملك فيصل الأول، قصرا للدولة الملكية، وحكومتها ووزرائها وأعيانها، غير أن النظام السابق، عمد الى هدمه، وأتخذ بناية عرفت بـ(نادي القادة) بدلا عنه.
محطات في تاريخ قصر شعشوع
بنى القصر كما ذكرنا التاجر اليهودي (شاؤول شعشوع)، وسمي القصر نسبة الى مالكه، وكانت مساحة القصر، قبل فيضان دجلة نحو أربعة آلاف متر، وبعد أن غرق القصر العام1927 تهدمت الأبنية المطلة على نهر دجلة وأصبحت مساحته ثلاثة آلاف متر. وقد سكنه مالكه (شعشوع) بعد الأنتهاء من بنائه الذي أستمر نحو عامين، وشغله منذ العام1908 وحتى العام1920 ليتخذه الملك فيصل الاول مسكناً شخصياً له ولعائلته، بعد وصوله الى العراق، وبقي فيه بعد تتويجه ملكا على العراق، حتى تعرض القصر الى الغرق، بسبب تسلل مياه دجلة وعرفت الحادثة بـ(الكسرة) المشهورة في المنطقة المحيطة بالقصر، ثم أتخذ بلاطاً ملكيا الى العام1929 خلال وزارة ناجي السويدي، وبصورة مؤقتة، بعد أن غرق البلاط الملكي المجاور للقصر، ثم أنتقلت اليه (فرحة شعشوع) للسكن فيه العام1931 ثم أشغله الزعيم الوطني، جعفر أبو التمن العام1934، وبقي فيه حتى العام1942 ثم أشغله من بعده النائب صبيح نجيب، للسكن فيه وعائلته حتى العام1945 وجاء من بعده، أبراهيم الجيبة جي، صهر وزير الدفاع شاكر الوادي، ليسكنه وعائلته، وأخيرا أشتراه أحد تجار بغداد ووجهائها، من العوائل البغدادية المعروفة، ويدعى الشيخ أحمد بنية بمبلغ خمسة الاف دينار العام1952 وسكن فيه وعائلته حتى يومنا هذا.
شعشوع وثلاثة قصور
ذكرت د. فاتنة الهاشمي ان الباحث التراثي والحقوقي عباس بغدادي، كان قد تحدث فيما مضى عن قصور بغداد مبينا: كان البيت الكبير ذو الواجهة الأمامية الفخمة والذي يطل على نهر دجلة مباشرة، يسمى قصرا، أما اذا كان داخل المدينة ومهما بلغت درجة فخامته، فلا يسمى قصرا، انما يطلق عليه لقب (بيت ديارهي) أو مايسمى (بيت تندق له النوبة) أي سلام الأمراء اظهاراً للأحترام، لذلك فأن أكبر وأضخم قصر في بغداد، كان قصر كاظم باشا، الذي أتخذ، مقرا للمندوب السامي البريطاني، أي السفارة البريطانية في محلة الكريمات في الكرخ.
ثم تطرق عباس بغدادي، ليتحدث عن قصر شعشوع، قال: في طريق الأعظمية، لم يكن هناك غير قصر أبن شعشوع، الذي لم يكن قصرا واحدا بل ثلاثة قصور، أتخذ أكبرها بلاطا للملك فيصل الأول، وألحق به الثاني من الجهة الجنوبية في عملية توسيع البلاط، أما الثالث ويقع شمالا، فقد بقي غير ملحق بالبلاط وقد سميت الثلاثة (قصر ابن شعشوع) لانها متجاورة.ويذكر البغدادي: أن ابن شعشوع، يعد من تجار بغداد الأثرياء، ومن وجهاء الطائفة اليهودية ويملك من الأراضي في الفلوجة وبغداد والكاظمية، ولم يزل بيت حفيده منشي شعشوع، قائما على شارع أبي نواس، بجوار فندق السفراء العائد الى خليل البحراني.
الرصافي وفيصل الأول
كثيرا مارغب الملك فيصل الأول، أن تعود المياه لمجاريها بينه وبين الرصافي لكن شخصية الرصافي المستفزة بقيت على حالها وموقفها، وقد هجا الملك فيصل قائلاً:
أبلاط أم ملاط ؟! أم مليك بالزعاطيط محاط
كانت علاقة الشاعر معروف الرصافي بالملك قبل تتويجه علاقة صداقة..ويذكر الرصافي في المقابلة التي جرت بينه وبين الملك فيصل الأول في قصر شعشوع انه بعد وصوله إلى الحجرة المقررة للملك (وكان أثاث الغرفة يتالف من منضدة كبيرة خلفها كرسي جالس عليه الملك فيصل وأمام المنضدة كرسي واحد لا غير، فلما دخلت الغرفة بادرني الملك بقوله:
انا الذي أعد أياماً وأقبض راتباً؟
فأجابه الرصافي: أسأل الله ألا يكون كذلك.
وجلس الرصافي على الكرسي دون استئذان.
ثم قال الملك فيصل معاتباً الرصافي: ليش كل هذا العداء يا معروف؟
فأجابه الرصافي: ياصاحب الجلالة لا يوجد ولا شخص واحد في الدنيا يقول أن لي مطمعاً في مقامكم لأجل أن يكون لي عداء معكم لأن الأغراض هي التي تولد العداء، فقال وهذا (بلاط أم ملاط؟)
فأجابه الرصافي: أن هذا لم يكن موجهاً لشخصكم الكريم وإنما لمقامكم والمقصود هو حاشيتكم الذين أساءوا للبلاد.
فقال له الملك: أن إساءة بعض الحاشية لا يبرر هذا القول.
ثم قام الشاعر الرصافي وانصرف مودعاً الملك.
أسرار جعفر أبو التمن
كانت غرفة القصر الكبيرة وبالكونتها المطلة على القصر والملامسة لنهر دجلة، التي أتخذها الملك فيصل دارا لأستراحته، قد أتخذها من بعده جعفر أبو التمن، مكتبة لحفظ كتبه وأرشيفا لحفظ مخطوطاته وأطاريحه وخطاباته السياسية ومذكراته الشخصية، وقد جرفتها مياه الفيضانات الموسمية الكبيرة التي كانت غالبا ماتجتاح، ليس قصر شعشوع وحسب، بل العديد من البيوتات البغدادية المطلة على نهر دجلة، ولم يتبق من أرشيف جعفر أبو التمن، الا النزر القليل، وقد قام أبنه البكر ويدعى عزيز، بتسليمها الى المكتبة الوطنية، قبل أن يتوفاه الأجل. بحسب مابقي على قيد الحياة، من أبناء جعفر أبو التمن، ويدعى عبد الكريم جعفر (82 عاما) وقد تحدث:
كنا نسكن في محلة صبابيغ الآل، في منطقة السويدي، قرب(العبخانة) ثم أتخذ والدي قصر شعشوع، منزلا له، بعد أن أتفق مع أحد أفراد عائلة شعشوع على أيجاره بمبلغ قدره 150 ديناراً، يدفع سنويا، وتم ذلك في العام1934م.
أجتماعات سرية
وذكرت فاتنة الهاشمي عن أبرز الأحداث السياسية والأجتماعية التي مر بها جعفر ابو التمن نقلا عما ذكره ولده كريم ، وشهدها قصر شعشوع، الذي عاشت فيه عائلة أبو (التمن) لأكثر من (8 سنوات) قائلة:
– منذ الشهور الأولى التي تحولت فيها عائلة ابو التمن للسكن في قصر شعشوع، وبسبب مساحته الكبيرة وحديقته الأمامية والأخرى الخلفية المطلة على دجلة، صار باب القصر وحديقته الأمامية، مفتوحة لأستقبال كل من له شكوى أو حاجة يقضيها عنده، وصار يتوافد عليه جموع من المحبين والموالين من العمال والفلاحين وحشود غفيرة من شيوخ العشائرالعراقية، فيما كان القصر يكتظ في أوقات العصاري، وخصوصا يوم الأربعاء من كل أسبوع، وفي الحديقة الأخرى المطلة على دجلة، لأستقبال العديد من القادة السياسيين والعسكريين المقربين لجعفر جلبي ابو التمن وغالبا ما تعقد بينهم أجتماعات علنية وسرية، يتباحثون خلالها، في أبرز المستجدات والأوضاع السياسية للبلاد، ومنهم، كامل الجادرجي، محمد حديد، عبد الفتاح أبراهيم، عادل شريف، ناظم الزهاوي، عبد القادر أسماعيل، وحسين جميل.
ومن خلال تلك الأجتماعات في قصر (شعشوع)، ظل جعفر ابو التمن على أتصال بآرائهم وأفكارهم، مثلما بقي متواصلا مع القضايا الأجتماعية والسياسية التي تهم البلد، وعبر عن آرائه علنا فيما يخص الأحداث المهمة وبالذات أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما أعلن عام1939م بأن العراق يجب أن يبقى محايدا، وقوبلت آراؤه بالترحاب عموما من قبل المثقفين، وفي مايس عام1941م أصبحت مشكلة أستخدام البريطانيين للأراضي العراقية، بموجب فقرات معاهدة عام1930 موضوع خلاف بين الحكومة البريطانية ووزارة رشيد عالي الكيلاني. والسبب الحقيقي وراء ذلك النزاع بين بريطانيا وحكومة الكيلاني، كان حصيلة الظروف السياسية للحرب العالمية الثانية، وكان الالحاح البريطاني، حول ممارسة الحق في أستخدام الأراضي العراقية، بوجب معاهدة1930 وتعد جزءا من السياسة البريطانية الأجمالية للشرق الأوسط والتي تضمنت حماية مصالحها في الحقول النفطية في أيران والخليج وأستبعاد النفوذ الألماني عنها، وكان في رأي الكيلاني، أنه بأمكان بريطانيا أستخدام الأراضي العراقية لاغراض العبور فقط على أن يكون ترتيب ذلك، تحت سيطرة القطعات العراقية، أما البريطانيون، من الناحية الثانية، قد فسروا المعاهدة على أنها كانت تعني حقهم في أستخدام الأراضي العراقية كقواعد فعلية، وتطور ذلك الجدل الى أزمة في مايس1941 وأدى الى أنشقاق الحكومة العراقية التي يرأسها رشيد عالي الكيلاني، يدعمه بعض ضباط الجيش الكباروفي مقدمتهم العقداء (صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان…) وقد عارضه الوصي، عبد الأله (بعدما توفى الملك غازي العام1939 في حادثة أصطدام بسيارته) ونوري السعيد اللذان أيدا وجهة النظر البريطانية ما أدى الى صدامات مسلحة بين القوات البريطانية والعراقية- يضيف عبد الكريم أبو التمن- وعلى أثرها، أجتمع القادة الوطنيون وقيادات المعارضة، في حشد في بيت والدي، داخل قصر شعشوع (خلال أزمة مايس) حيث حضرها نحو30 شخصا، من الشخصيات البارزة، وقرر المجتمعون، مساندة رشيد عالي الكيلاني في موقفه، وعهدوا الى والدي جعفر، مهمة اللقاء برئيس الوزراء، لتهنئته ولتبليغه بمساندتهم له، فرفض والدي الذهاب معهم، وذهب وحده في وقت لاحق الى بيت الكيلاني.
وفاة جعفر ابو التمن..
ذكرت الدكتورة فاتنة الهاشمي نقلا عن عبد الكريم ابو التمن قوله عن مصير والده؛ أنتقل الحاج جعفر أبو التمن من قصر شعشوع عام 1942، بعدما شهدت السياسة الكثير من التحولات خلال سنوات سكنه في
قصر شعشوع ليتحول الى منزل في الكرادة، وبعد ثلاث سنوات، رقد في الفراش لأكثر من شهر، نتيجة أصابته بمرض التهاب في دماغه وجاء لزيارته الكثير من أصدقائه من القادة السياسيين، وتابع حالته الصحية، العديد من الاطباء العراقيين والبريطانين ومنهم طبيب العائلة المالكة سندرسن باشا، ومن الاطباء العراقيين مهدي فوزي والذين حاولوا تقدم العلاج اللازم له، وكانت آخر زيارة طبية قبل وفاته بأيام معدودة من قبل طبيب البلاط الملكي سندرسن باشا الذي كتب له علاجا متكون من (كورس من الابر) وتم زرقها له في اوقات منتظمة أستمرت نحو 10 ايام الا انها لم تجدي نفعا ففارق الحياة متأثرا بمرضه.